كان
بنو إسرائيل ينتظرون مقدم موسى عليه السلام لينجّيهم من طغيان فرعون
وجبروته.
وكان كلّما ولد لأحدهم مولود سموه
عمراناً أو موسى أملاً أن يكون هو وعدهم المنتظر.
واغتنم بعض الطامحين بالزعامة هذا الوعد،
فكان أحدهم يدعي بأنه موسى النبيّ المنتظر بين الحين والآخر!
ويقال إن خمسين من بني إسرائيل زعموا
أنهم الذين وعد يوسف بهم.
ولم يزل فرعون يسمع هذه الأخبار والأحاديث عن بني
إسرائيل وكان قد علم أن بني إسرائيل ينتظرون هذا الغلام.
وفي إحدى
الليالي رأي فرعون مناماً هاله وأقض مضجعه، فأحضر الكهنة والمفسرين من
أرباب دولته، وقص عليهم رؤياه فحذروه من مولود اقترب زمانه يكون سبباً
في خراب ملكه. ولما
استشار كهنته وسحرته في هذا الأمر المهم، قالوا إن ما يسمعه صحيح،
وهلاك دينه ودولته سيكون على يدي هذا الغلام.
ثارت ثائرة فرعون وأخذ يفكر كيف يظفر بهذا الذي سيولد.
وأخيراً استقر رأيه على أبشع الآراء وقرّر تنفيذه بكل صرامةٍ وقسوةٍ.
جعل القوابل على النساء، لقد بذبح كل ذكر
يولد لبني إسرائيل ليستريح من موسى ويجهض النبوءة في مهدها.
وهكذا اجتمع عليه استعباد الرجال واستحياء النساء وقتل
الأبناء من الذكور!
في هذا الجوّ الخانق والمرعب حملت أمّ موسى وهي التي
كانت قد ولدت من قبل بنتاً وصبياً.
وجاء موعد
الولادة وكان الوليد ذكراً.
أرضعت الأمّ
ولدها.
لكنّها خافت أن يبكي موسى فيعرف الجيران
خبرها ويصل أمر ولادته إلى زبانية فرعون فيأخذوه ويذبحوه.
غير أن الله شاء أن يخلّص نبيّه موسى عليه السلام من
فرعون وجنده.
يقول الله تعالى: "وأوحينا
إلى أمّ موسى أن أرضعيه ...إذا
خفت عليه فألقيه في اليمّ ولا تخافي ولا تحزني."
فصنعت أُمّ موسى تابوتاً من خشب ووضعت
ابنها الحبيب فيه وطبقت التابوت بحيث لا يدخل فيه الماء وذهبت ليلاً
إلى النيل. ثم طرحت التابوت في
الماء وقلبها ممتلئ غماً وحزناً.
لحقت الأم الصندوق وهو يتهادى فوق الماء.
لكن كيف تصبر الأم ؟ فهمّت أن تصيح من
اللوعة، فربط الله على قلبها وحفظها "وأصبح
فؤاد أم موسى فارغاً إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها".
ووعد الله الأم أن يرد الولد إليها
وبشّرها بأن يجعله من المرسلين "إنّا
رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين".
وهكذا أخذت الأم ترجع إلى البيت بقلبٍ
كسير وإن لفه شيء من السكينة والاطمئنان تصديقاً لوعد الله.
كان في قصر فرعون بستان به نهر كبير فخرجت الجواري إليه
ليغتسلن فيه، فوجدن تابوتاً فأخذنه وظنن أن فيه مالاً فحملنه على حالته
حتى أدخلنه إلى آسية.
ولما فتحت آسية الصندوق، رأت فيه غلاماً
فأوقع الله في قلبها محبة منه "ألقيت
عليك محبة مني" ووضعت الولد في
حجرها فأشفقت عليه وتعلقت به وفكرت في أن تتخذه ابناً لها وهي التي
حرمها الله من الحمل.
ولكن، هل يرضى فرعون بذلك؟
قامت آسية إلى زوجها وعرضت عليه أمر الغلام ورغبتها في
أن تتخذه ولداً.
لكن فرعون أبى أن يقبل قولها وهمّ بقتله
بعد أن توجس خيفة من أن يكون الولد من بني إسرائيل.
فألحّت آسية في طلبها
وقالت له إنه سيكون "قرة عين لي
ولك لاتقتلوه." قال فرعون:
قرة عين لكِ أنت أما أنا فلا حاجة لي به.
بقولها هذا
وحبها لموسى الصبي ورحمتها به، نجا من قتل فرعون له، فوهبها فرعون إياه
واستعلى هو واستكبر أن يكون قرة عين له.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون له
قرة عين كما أقرت لهداه الله كما هداها."
لما سمع الناس أن الملك قد تبنّى ولداً، أرسل أكابر
القوم نساءهم إلى آسية على أمل أن يكن مرضعات لموسى.
لكن كلما تقدّمت إحداهن إلى موسى أعرض عن
صدرها فتحيّرت آسية في أمره. ثم
أمرت جواريها أن يخرجن في طلب كلّ مرضعة وألا تحقرن امرأة مهما كان
شأنها لعل موسى يقبل إحداهن.
وكانت أم موسى تترقب أخبار ولدها وهي التي لم تعلم بعد
ما كان شأنه بعد أن دفعته في النيل.
فطلبت من ابنتها أن تخرج لعلها تسمع عن أخيها خبر.
فانطلقت البنت تبحث عن موسى الرضيع هنا
وهناك.
وانتهى بها
المسير إلى مشارف قصر فرعون ودخلته بين من دخل..
وإذا بها ترى موسى أخاها في حضن آسية
تلتمس النساء لإرضاعه وهو يأبى قبول أي منهن بمشيئة الله تعالى
"وحرّمنا عليه المراضع من قبل".
وهنا توجّهت البنت الفطنة إلى امرأة فرعون قائلة:
قد بلغني أنكم تطلبون مرضعة.
أعرف امرأة صالحة تأخذ ولدكم وترضعه لكم.
وطلبت آسية منها أن تأتي بالمرضعة لعل موسى يقبل ثديها.
فركضت البنت إلى أمّها تبشرها بالخبر.
وتبعتها الأمّ إلى دار فرعون.
فأتت الأم فرحة، ودخلت على آسية.
أخذت
الأمّ ولدها، ووضعته في حجرها، ثم أعطته ثديها، وإذا بموسى يقبل عليه.
فرحت آسية وفرحت الأمّ فرحاً كبيراً،
"فرددناه إلى أمّه كي تقر عينها
ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون."
وهكذا شاء الله أن ينشأ نبيه في حضن ألد أعدائه
"فالتقطته
آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً."
نشأ
موسى في حضن فرعون وقصره، بينما كان فرعون وجنده يقتلون أولاد بني
إسرائيل، خوفاً من أن يظهر فيهم من أخبر المنجّمون بأنّ زوال ملك فرعون
سيكون على يده.
أمّا بنو إسرائيل فواصلوا انتظارهم قدوم موسى ويتحدثون
عن وعد يوسف لهم دون أن يعلموا أنه قد ولد.
ولما علم فرعون بإلحاحهم في طلب مخلّصهم زاد في
تعذيبهم، بل إنه أمر بالتفريق بين رجالهم ونسائهم، كي لا يولد لهم
نبيهم المنتظر.
ثم شاء
الله أن يرسل نبيه موسى لينذر فرعون ويطلب منه الإيمان بالله.
ذهب موسى إلى فرعون مؤيداً بمعجزات من
الله.
وجاء
موسى بمعجزة العصا التي تحوّلت ثعباناً واليد البيضاء
"فألقى
عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين."
فعقد فرعون اجتماعاً مع مستشاريه لتدارس
أمر موسى "قال للملأ حوله إنّ هذا
لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون."
فماذا
أشار عليه مستشاروه؟ "قالوا أرجه
وأخاه وابعث في المدائن حاشرين,
يأتوك بكل سحّار عليم." قالوا له
إن موسى ساحر وأنت تملك من السحرة ما تسقط به سحر موسى فاجمع السحرة في
مشهد كبير يحضره الناس. وهكذا عقد
الاجتماع "فجمع السحرة لميقات يوم
معلوم وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلّنا نتّبع السحر إن كانوا هم
الغالبين."
و ماذا حدث في هذا الملتقى الكبير؟
"فلما
جاء السحرة قالوا لفرعون أئنّ لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم
وإنكم إذا لمن المقربين."
وبدأ التحدّي على الملأ:
"قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون
فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون,
فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون."
فماذا كان موقف السحرة وهم يشاهدون هذا
التحدي الكبير؟ "فألقي السحرة
ساجدين. قالوا أمنا برب العالمين.
ربِّ موسى وهارون ."
أما فرعون فأصر على الكبرياء والعناد وتهدّد السحرة
بأقسى ألوان العذاب.
وكانت
آسية ممن حضر هذا المشهد. ولما
رأت المعجزة الإلهية أعلنت إيمانها.
كانت
آسية سبباً في نجاة موسى عليه السلام من الذبح، وكان هو سبب نجاتها من
الكفر بأن هداها للإيمان ففتحت قلبها لدعوته وأعرضت عن تهديدات فرعون
وربوبية فرعون المزعومة
علم فرعون
بإيمانها وإتباعها لعدوه موسى فسجنها وأمر بإنزال أشد أصناف التعذيب
بها لترجع عن دين موسى. كما حاول
أن يغريها بالتراجع عن هذا الإيمان بالقول إنها ستعود ملكة مصر كما
كانت من قبل إذا أطاعته. ولكنّها
أبت وأصرّت على الإيمان بنبوة موسى.
ولما تأكد
فرعون من صدق عزمها وأنها لن تعود إلى ما كانت عليه، أمر بها فمدت على
الأرض الحارقة بين أربعة أوتاد.
ثم ما زالت تعذب حتى ماتت ولسانها لا يفتر عن ذكر الله: "رب
ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم
الظالمين".
لم يكتف
فرعون بذلك، إنما قال لجنده أن يأتوا بصخرة عظيمة ليلقوها عليها وأخذ
يتلذذ بتعذيبها. حينها كشف الله
عن بصيرتها فأطلعها على مكانها في الجنة ففرحت وضحكت وكان فرعون
حاضراًً.
فقال
: ألا تعجبون من جنونها ؟ إنا
نعذبها وهي تضحك. وهنا أمر فرعون
بإلقاء الصخرة على جسدها لإزهاق روحها بعد أن يأس.
آمنت آسيا
بربها وعصت فرعون حين كان ثمن رضاه التنازل عن طاعة الله.
ولم يتورع فرعون الذي أحبها وهام بها عن
قتلها عندما تأكد من إيمانها بالله وكفرها به.
كانت تلك ساعة الفصل بين الحياة ونعيمها
الزائل والزائف وبين الإيمان والموت في سبيل ما عرفت من الحق.
وقد
قال العلماء عند تفسير الآية الكريمة
"رب
ابن لي عندك بيتاً في الجنة"
إن آسية اختارت
الجار قبل الدار.
|