منذ عدة سنوات وعندما كنت أستعد للعيش في الشرق الأوسط , بحثت في
مكتبات أمستردام عن أي شيء قد يفيدني عن العرب و بلاد العرب. وقد عجزت
عن الوصول إلى شيء حديث العهد , لكنني وجدت بعض الكتب القديمة التي
عالجت الموضوع. بالصدفة , شاهدت كتابا مصورا عن مدينة العين و التي
كنت أقصد الذهاب إليها. حدقت في صور الكثبان الرملية , و غابات النخيل
, و أسواق الحيوانات, لكن النص كان تافها . و بالرغم من أن شهيتي قد
فتحت , إلا أنني لم أستفد منه الكثير. ثم اكتشفت مجموعة من الكتب
ألفتها السيدة فريا شتارك , التي كتبت في السنوات ما بين الحربين
العالميتين , و التي كانت تروي الحياة اليومية في عدن , كما كانت تروي
الرحلات و المجازفات إلى جبال اليمن في حضرموت . الوصف للمناظر
الطبيعية و الحياة القروية كان ساحرا , أما الأسلوب فكان مراعيا
الشاعرية و التفصيل كما اشتهر عن كتاب تلك الحقبة .
منذ
اكتشافي لتلك الكتب , أي منذ ثلاثين سنة , أعدت قراءتها مرارا و
استمتعت بها أكثر حتى بعد أن اكتسبت تجاربي الشخصية لتلك المنطقة من
العالم. و بمرور الزمن اكتشفت مآثر تلك المؤلفة . لقد كان عمرها 84 سنة
عندما سافرت جنوبا في نهر الفرات على عوامة لتزور الأهوار قبل أن يقضي
على تلك المنطقة الرائعة صدام حسين قضاء مبرما. و عندما أرادت هيئة
الإذاعة البريطانية أن تصور مغامرتها تلك هزأت و قالت : لم تكن سوى
رحلة شراعية !!
لقد
كانت السنوات المئة لهذه السيدة تغص بالمغامرات.
لقد
ولدت فريا شتارك في باريس لأبوين منهومين بالسفر. و قد وصف كاتب سيرتها
ببراعة أن مهدها كان قابلا للحركة بشكل ملفت. لقد سافرت مع والديها في
كل أنحاء أوروبا , و أقامت فترات قصيرة في بريطانيا , لكن معظم وقتها
كان في إيطاليا.
أمضت
سنوات الجامعة في المملكة المتحدة , و خدمت في التمريض و الرقابة أثناء
الحرب الأولى . بعد انفصال والديها , أقامت في إيطاليا في بيت أعطاها
إياه والدها حيث أسست تجارة من بيع الخضار و الفواكه . و لقد استخدمت
كل فلس كسبته لتعلم اللغات فبدأت بالعربية و الفارسية . و سرعان ما
بدأت المغامرات : سفرات طويلة في سوريا و إيران و فلسطين و اليمن . أما
أجرأ رحلة قامت بها فكانت سنة 1928 و كان عمرها آنذاك 35 سنة حيث كانت
أول امرأة استكشفت لورستان في غرب إيران.
سافرت
وحدها إلى المناطق الممنوعة الدرزية السورية بعد أن عبرت وادي القتلة
المشهور. كتابها الأول ( وادي القتلة ) يصف تلك الرحلة و يصور الناس و
الأماكن و العادات و التاريخ تصويرا حيا شائقا . ذاع صيت الكتاب
فاشتهرت و وهبتها الجمعية الملكية الجغرافية منحة خولتها القيام بسفرة
ثانية سنة 1930إلى داخل اليمن مما أسفر عن كتاب بعنوان ( الأبواب
الجنوبية للجزيرة العربية ) وآخر ( غباركف الأسد ) وهما الكتابان
اللذان وجدتهما في أمستردام
.ثناء
الحرب العالمية الثانية عملت فريا شتارك في وزارة الإعلام, حيث ساهمت
لمعرفتها باللغة العربية في خلق شبكة الدعاية ضد النازية في الجزيرة
العربية و مصر و العراق.
 |
في سنة 1954 و عندما كان عمرها 61سنة زارت
تركيا و صادفت مرارا آثار الإسكندر الكبير. فبان لها تناقض
تلك الآثار بالتاريخ المدون عن مسيرته في آسيا الصغرى. لذلك
قررت أن تقوم ببحث شامل لها و فحص الحقائق الجغرافية و
مقارنتها بالسجلات التقليدية للوصول إلى نقاط الاختلاف. من
أجل ذلك شرعت في رحلة برية مع دليلين تركيين في سيارة جيب مرة
و على ظهور الخيل أخرى قاطعة المناطق الجنوبية لجبال طوروس بكل
ما فيها من وحشة و ممرات منحدرة و أودية عميقة و هضاب وعرة
وجبال مغطاة بالثلوج, متعقبة الطريق التي سلكها الإسكندر منذ
قرون. هذه الرحلات دونتها في ثلاث من أشهر كتبها و هي
)
الشاطىء الليسي) , ( أيونيا – بحث) و ( درب الإسكندر). لقد
استطاعت السيدة شتارك في سرد ممتع وجميل أ ن تعيد إحياء
تاريخ و ثقافة حقبة من الزمن غادرت الوجود منذ ألف و خمسماية
عام
.أما أثناء رحلاتها عبر الربع الخالي في عمان
فقدأعادت اكتشاف طريق البخور التجارية , كما استطاعت أن تحدد
بالضبط أماكن بعض المدن الأثرية هناك و التي يؤكد وجودها
الخبراء |
لقد
كتبت ثلاثين كتابا يبحث كل واحد منها عن منطقة في الشرق الأوسط . و قد
لقبتها ( التايمز) اللندنية بأنها " آخر الرحالة الرومنسيين". كما أن
الملكة إليزابيث منحتها لقب فارس.
و في
مقابلة أجرتها الصحفية بيتي غرين لمجلة أرامكو العالمية ,تحدثت
السيدة شتارك عن البدو الذين أقامت معهم فقالت : أولا هم قوم لطفاء و
لديهم طباع تبعث على السرور . فمثلا لست مضطرا للكلام طول الوقت, أما
إذا كنت تود التكلم عن شيء قله. يستطيعون الجلوس في دائرة من عشرين شخص
في صمت تام إذا كان من غير الموجب الكلام. هذه الفترات الصامتة لذيذة
جدا يتعود المرء عليها و هي مختلفة تماما عن صالونات أوروبا. لم أسمع
بدويا يقاطع آخر أثناء المحادثة. إن المحادثة فن , ولي في هذا المضمار
نظرية و هي أن الإضاءة في الخيمة خفيفة جدا لا تسمح بالقراءة .لذلك لا
تستطيع عمل شيء سوى الجلوس والتحدث. أما عن اللغة العربية فقالت: أنا
أستمتع باللغة العربية. لا أتكلمها بطلاقة لكنني أتمتع بالتحدث بها
كثيرا. هي اللغة الأكثر شاعرية و ثراء في الاصطلاحات و من هنا جاءت
صعوبتها .
وعند
سؤالها عن المرأة العربية قالت : لقد كن جد كريمات معي و أنا أحبهن. و
بالطبع أعتقد أن المرأة مؤثرة في مجتمعها أكانت سجينة أو حرة.أعتقد
أننا نوجه دفة العالم ..
و
عندما سئلت بعد عودتها من رحلتها النهرية على الفرات عما إذا كان العرب
يهتمون بتاريخهم أجابت : نعم يهتمون , لكنهم لا يوثقونه بمستندات كما
نفعل نحن.فقد عقدنا قرانا على المستندات بينما هم اختاروا الشعور و
الأحاسيس التي هي بتقديري أسلوب قديم. هم يفتخرون بالذكريات كثيرا و
بالطبع هم أناس مؤمنون أيضا. الدين قوة عظيمة
 |
و هم يجلونه جدا. سيقول لك أحدهم أن هذه الصفات
قديمة , شبابهم لا يفكرون الآن إلا بالنفط و المال ..لكنني
لاحظت عندما كنت معهم و كما أذكرهم الآن أنهم مؤمنون ذلك
الإيمان الذي كان لدينا و فقدناه: إيمان مطلق أنهم بين يدي
الله لدرجة أن القرار الإنساني يصبح ثانويا تابعا
في أحد كتبها ( الركوب إلى دجلة) تتكلم عن
أسباب شوقها للسفر فتقول : إن السفر يؤدي نفس عمل الكاتب الجيد
.. فهو يؤطر الصورة و يركب الجوهرة في الخاتم حتى تتضح القيمة
الحقيقية لتلك الصفات , كما أنه يحدد بقوة و فن عميقين ما
تكتنزه الحياة اليومية العادية . كثير من الناس يتجنبون
الإنفعالات الشديدة, و في الحقيقة على الإنسان أن يكون قويا
عندما يواجه وحده صدمة العالم المجهول. |
لقد عاشت هذه السيدة مخلصة لما يحمل اسمها من معنى
: قوي . لقد كانت سيدة قوية بكل معنى الكلمة, فقد استخدمت مواهبها في
اللغات و المراقبة لتفتح أمامنا عالم العرب الذي كان مخفيا على
الأوروبيين حتى ذلك الحين وولدت لدينا استحسان الشرق الأوسط الغامض. إن
تعاطفها و خفة روحها و صبرها و قابليتها للتكيف سمحت لها أن تذهب حيث
القليل جدا من الرجال استطاع و حيث هي استطاعت أن تصادق القبائل
المتوحشة و البدو اللطفاء و أهل المدينة على حد سواء. بالنسبة لي لقد
لعبت الدور المثالي في كل من كتاباتها و حياتها العملية.
أعلى
|
الصفحة
الرئيسية
|
مجموعة
الحبتور
|
فنادق
متروبوليتان
|
دياموندليس
لتأجير السيارات
|
مدرسة
الإمارات الدولية
الملكية
الفكرية 2003 محفوظة
لمجموعة الحبتور
|
جميع
الحقوق محفوظة
لايجوز إعادة
نشر المقالات
والمقتطفات
منها والترجمات
بأي شكل من الأشكال
من دون موافقة
مجموعة الحبتور
الموقع من تصميم ومتابعة الهودج للإعلانات ـ
دبي هاتف: 2293289 |