حينما
خلق الله الخليقة، وهب لبني آدم كل ما في الطبيعة من خيرات وأعطى
العالم وفرة من الثمار الممتلئة بأنواع السكريات الطبيعية. لم تكن هناك
مدن. وكان على الإنسان أن يبنيها. ومن نافلة القول أن جوهر كلمة
"المدنية" هو التطور نحو العيش في المدن. ويومها لم يكن السكر المكرر
يشكل جزءاً من الدخل المأكل اليومي للإنسان.
قصة
السكر وتطور صناعته على مر التاريخ هي في الوجه الأكبر منها قصة موازية
لمسيرة تطور المدنية.، وعلى وجه التحديد تاريخ الإمبراطوريات
البرتغالية والإسبانية والبريطانية منذ القرن السادس عشر وصاعداً.
الموطن
الأصلي لقصب السكر هو غينيا الجديدة حيث يوجد هذا النبات فيها منذ
العام 6000 قبل الميلاد تقريباً. ويعتقد أن الإنسان استخدم قصب السكر
لأول مرة في الجزر البولينيزية ومنها وصل إلى الهند. وبعد أن غزى
داريوس إمبراطور فارس الهند في 510 قبل الميلاد اكتشف هناك ذلك "القصب
الذي يعطي عسلاً بلا نحل." غير أن سر السكر في القصب، شأن الكثير من
المكتشفات البشرية الأخرى، ظل ردحاً طويلاً من الزمن سراً مصوناً
بعناية تحقق مبيعاته ثروات طائلة.
وترد
في مخطوط أثارفا فيدا الهندوسي الديني إشارة عابرة لهذا النبات حيث جاء
فيه: "وقد توجتكم بقصب حلو نضر لئلا تعصوني." وتعني هذه الكلمات أن
الرب قد أعطى الهند وفرة من قصب السكر مثلما أعطى غيرها ثماراً متنوعة
مختلفة. غير أنه تعين على الإنسان أن يوظف ذكاءه ليتمكن من استغلال هذا
القصب الحلو لطعامه وأن يحمد الله على جعل هذا الجزء من البسيطة بهذا
الغنى والخصب.
ليس
لنا إلا أن نفترض أن قصب السكر في البداية كان يستخدم علفاً للماشية
باعتبار أنه ينمو بوفرة وسهولة في المناطق الاستوائية. وبعدها لا بد من
أن الناس أنفسهم أخذوا يمضغون القصب ويتلذذون بحلاوة طعمه.
وهكذا
فقد كانت الخطوة المنطقية التالية هي استغلال القصب باعتباره محصولاً
زراعياً.
كان
الهنود يحولون عصير قصب السكر إلى سكر يختلف عن ذلك السكر الذي كان
ينتج بالطريقة نفسها من التمر. والطريقة هي عصر القصب بتمريره بين حجري
عصر ضخمين لاستخلاص كل ما فيه من سائل ثم تجفيف العصير بتبخيره في
أواني مسطحة ضخمة تتبلور فيها الرواسب الصلبة على شكل قطع من السكر.
وسريعاً تحول إنتاج السكر إلى مصدر مهم للدخل لمزارعي الهند. ومنذ
الأزمان القديمة كان الفلاحون الهنود يشربون عصير القصب الطازج ويجدونه
شراباً مرطباً لذيذاً. ولا يزال عصير القصب حتى اليوم مشروباً محبباً
في كل أنحاء العالم خصوصاً إذا كان بارداً.
الرحالة والجند الإغريق الأوائل الذين قدموا للهند لم يسجلوا أي شيء عن
هذا النبات. ولكن حين أبحر نيركوس، القائد البحري في قوات الإسكندر
الأكبر، في نهر الإندوز لأول مرة عام 325 قبل الميلاد، أتيحت له الفرصة
ليتذوق عصير القصب وشبه حلاوته بالعسل. كما يذكر أن الأهالي يشربون
العصير أيضاً بعد تخميره ليصبح مشروباً مسكراً.
وهكذا
بدأ التجار الرومان والإغريق ممن أتوا في إثره يحملون السكر معهم إلى
بلادهم حيث أصبح يعرف هناك باسم "ملح الهند" أو "العسل بلا نحل." كما
أصبح يستخدم، شأن العسل، كدواء. وقد سماه هيرودوت في كتاباته "العسل
الصناعي" فيما أسماه بلينوس "عسل القصب." وكان أحد الكتاب الرومان هو
الذي أعطاه أول اسم لاتيني له هو "ساكاروس". ووصفه ديوسقاريدس بأنه نوع
من العسل المركز الذي يوجد بوفرة في قصب الهند وجزيرة العرب وهو في
شكله يشبه الملح وهش بين الأسنان.
ويعود
الفضل إلى مدرسة الطب والصيدلة في جندشابور، التي كانت مفخرة
الإمبراطورية الفارسية، في إجراء البحوث على ذلك السكر لتنجح أخيراً في
تطوير طريقة لتكريره وتحويله إلى بلورات ناعمة بيضاء تدوم وقتاً طويلاً
جداً دون أن تحمض وتتخمر. وهذا الكشف مهد لمرحلة جديدة من التجارة
الضخمة بين فارس والهند استمرت حتى 600 للميلاد حينما بدأ الفرس يزرعون
قصب السكر بأنفسهم.
يذكر
أن أباطرة أسرة تانغ الصينية كانوا يستوردون من بخارى كميات كبيرة من
الخبز المحشو بقطع هشة من السكر وهو ما أصبح من الأطايب المخصصة لعلية
القوم هناك.
كانت
قطعة السكر شيئاً نادراً ونفيساً وتعتبر دواء عجيباً أيام الأوبئة
والطواعين وتباع بمبالغ ضخمة.
الاسم
اللاتيني الذي يعود للقرون الوسطى (والاسم العلمي لقصب السكر) لهذا
الدواء النفيس أصبح لاحقاً يستخدم للسكر في الغرب، أما في لغات
المسلمين وفي اللغات اللاتينية المحكية فقد بقي الاسم السنسكريتي للسكر
مستخدماً. وعلى النحو نفسه أصبحت كلمة "خاندا" السنسكريتية هي كلمة
"كاندي" الإنجليزية.
كانت
الفتوحات الكبرى للعرب في القرن السابع الميلادي هي التي أدت أخيراً
إلى ذيوع أسرار صناعة السكر. فحين فتح المسلمون فارس عام 642 للميلاد،
تعرفوا فيها على زراعة القصب وإنتاج السكر. وكان العرب وراء انتشار هذا
النبات إلى معظم أنحاء العالم حيث أخذوه إلى مصر ثم حملوه معهم مع تقدم
فتوحاتهم إلى كل شواطئ المتوسط. وهكذا أصبح قصب السكر يزرع في سوريا
وقبرص وكريت ووصل حتى إسبانيا في 715 للميلاد. وأقام العرب مصانع
لإنتاج السكر في الأراضي التي دخلوها مثل شمال إفريقيا وإسبانيا.
كما
كان العرب أيام الاستقرار والسلم سادة تجارة السكر حيث كان يبيعونه
للغرب.
لم
يعرف الأوروبيون الغربيون السكر إلا خلال الحروب الصليبية في القرن 11
الميلادي حيث كان العائدون إلى بلادهم يتحدثون عن هذه "التوابل
الجديدة" وكم هي لذيذة. وتذكر الوثائق التاريخية أن السكر دخل لإنجلترا
أول مرة عام 1099. ثم شهدت القرون اللاحقة توسعاً كبيراً في التجارة
بين أوروبا الغربية والشرق بما في ذلك استيراد السكر. وتذكر الوثائق أن
السكر كان يباع بسعر 2 شيلنغ للرطل عام 1319. وهذا السعر يعادل بأسعار
اليوم 100 دولار أمريكي للكيلو، ولهذا فقد كان السكر رفاهية شديدة
الغلاء.
أوائل
القرن الرابع عشر سمع البابا كليمينت الخامس عن وفرة قصب السكر في بلاد
المسلمين وأدرك تماماً الفوائد الجمة التي ستعود عليه من التجارة
بالسكر. وهكذا بدأ عام 1306 بمعاودة مطالباته لملوك أوروبا المسيحيين
أن يخرجوا في حملة صليبية جديدة نحو البلاد الإسلامية. وأخبرهم عن
مزارع قصب السكر هناك وعن الثروات الهائلة التي ستجنيها الممالك
المسيحية من تجارته.
هكذا
قرر بعض ملوك أوروبا استجابة له أن يخرجوا سعياً وراء هذه المغانم غير
أن سلسلة الأحداث التي بدأتها هذه النزوات خلفت وراءها إرثاً ثقيلاً من
العبودية وحروب الإبادة والجريمة المنظمة في كل أصقاع العالم. واندفعت
الإمبراطوريات الكبرى في دخول منافسة محمومة مع بعضها لاحتكار تجارة
السكر والتوابل.
كان
البرتغاليون أول المندفعين في حمى البحث عن قصب السكر. وقد جال هنري
الملاح على كامل السواحل الغربية لشمال إفريقيا في القرن الخامس عشر
بحثاً عن قصب السكر بلا فائدة. غير أنه عثر على الكثير من الأفارقة
ليبيعهم عبيداً. وفي خضم تجارة الرقيق الرهيبة التي انطلقت بعد ذلك بيع
حوالي عشرين مليون إفريقي ليصبحوا عبيداً بالتوازي مع تجارة السكر
المتنامية. ولم يأت عام 1456 حتى أصبح البرتغاليون المسيطرين على تجارة
السكر والرقيق. غير أن إسبانيا كانت تتحرك على إثرهم أيضاً، إذ عندما
خرج المسلمون منها نهائياً أمام تقدم الجيوش المسيحية تركوا وراءهم
حقولاً شاسعة من قصب السكر في قطيفة وقرطبة وغرناطة وعموم الأندلس.
في
القرن الخامس عشر بدء بتكرير السكر الأوروبي في مدينة البندقية مما
يشير إلى أن نقل السكر الصالح للاستهلاك كغذاء كان لا يزال صعباً حتى
تلك الأيام رغم صغر الكميات. وفي القرن نفسه أبحر كريستوفر كولومبس إلى
القارة الأمريكية. وفي 1493 أخذ قصب السكر معه ليزرعه في الكاريبي.
هناك كان المناخ مواتياً جداً لنمو هذا النبات بحيث تحول إلى صناعة
راسخة هناك في فترة وجيزة.
ولم
يمض سوى القليل من الوقت حتى حصلت الإمبراطوريتان البرتغالية
والإسبانية على المباركة البابوية لتشغيل الأفارقة والإسبان في مزارع
السكر خارج أراضيهما. وسرعان ما لحق بهم الهولنديون في القرن السادس
عشر وأصبحوا مشاركين أساسيين في تجارة الرقيق.
أسس
الهولنديون مصافي لتكرير السكر في مدينة أنتويرب حيث كان قصب السكر
يشحن إلى أنتويرب من كل أنحاء أوروبا مما أضاف المزيد إلى ثرواتهم التي
أتت مع تجارتهم مع باقي العالم.
ليست
هناك سلعة أخرى، ولا حتى النفط في الزمن المعاصر، كان لها ذلك الحجم من
التأثير على الحياة السياسية في الغرب كما السكر. الثروات الهائلة التي
حققتها تجارة السكر جعلت من البرتغال وإسبانيا قوتان ضخمتان في القارة
الأوروبية. وبعد أن وافقت ملكة إنجلترا إليزابيث الأولى على ممارسة
تجارة الرقيق من إفريقيا سرعان ما هيمنت إمبراطوريتها على هذه التجارة
واحتكرتها.
كما
بدأ البريطانيون يخمرون عصير القصب لإنتاج الروم الذي تحول إلى تجارة
بحد ذاتها وأخذوا يبيعونه للهنود الحمر في أمريكا ويشترون منهم الفراء
الذي يعودون به إلى أوروبا ويبيعونه بأثمان باهظة محققين ثروات ضخمة
أفراداً وشركات.
ولم
يأت عام 1860 حتى أصبح البريطانيون أكبر الدول المتاجرة بالسكر في
العالم أجمع. كما كان قصب السكر آخر محصول زراعي صناعي يدخل القارة
الجديدة حيث كان زراعته هناك تعتمد على الرقيق في لويزيانا.
تلك
السلعة التي بدأت انتشارها كدواء أصبحت منتجاً كمالياً غالياً ساهم في
القضاء على الدولة العربية وظهور الإمبراطوريات الضخمة في الغرب. وكانت
السبب وراء انطلاق المتاجرة البشعة بالرقيق التي لا تزال نتائجها
ملموسة على جانبي الأطلسي. كما لا تزال هذه المادة تنعش حياتنا بطعمها
الحلو وتدمرها بما تسببه من بدانة وأمراض.
السكر لا يزال اليوم مثلما كان عليه أبداً مادة عجيبة
تحمل معها النعمة والنقمة
أعلى
|
الصفحة
الرئيسية
|
مجموعة
الحبتور
|
فنادق
متروبوليتان
|
دياموندليس
لتأجير السيارات
|
مدرسة
الإمارات الدولية
الملكية
الفكرية 2003 محفوظة
لمجموعة الحبتور
|
جميع
الحقوق محفوظة
لايجوز إعادة
نشر المقالات
والمقتطفات
منها والترجمات
بأي شكل من الأشكال
من دون موافقة
مجموعة الحبتور
الموقع من تصميم ومتابعة الهودج للإعلانات ـ
دبي هاتف: 2293289 |