يوم
اليمامة
بعد أن
ترسخت دعائم الإسلام، اعتبر عدد من وضيعي النفوس أن الوقت قد حان
للمشاركة في المغانم، فادعى عدد منهم النبوة، لكن زيفهم لم يلبث أن
انكشف، وسقطت دعواتهم تحت سنابك خيول المسلمين. وكان أخطر هؤلاء واحد
من زعماء بني حنيفة، حفظ التاريخ لنا اسمه على أنه مسيلمة الكذاب.
وأراد
الرسول (ً) أن ينذر مسيلمة، فيختار لتلك المهمة حبيب ابن زيد (ابن أم
عمارة)، وينطلق حبيب إلى اليمامة حاملاً الرسالة الكريمة. وكان الجميع
يتخوفون عليه من غدر مسيلمة الذي لم يرع لله حرمة فكيف ينتظر منه أن
يرعى للرسل
حرمة؟
ويدخل
حبيب أرض اليمامة فيثب عليه رجال مسيلمة ويقيدونه بالسلاسل ويحضرونه
بين يدي
نبيهم الكذابوتنقل لنا كتب التاريخ صورة مشرقة عما يفعله الإيمان
الراسخ، خاصة إن كان يستند لأرضية صلبة من حسن التربية.
يقول
مسيلمة : يا حبيب أتشهد أن محمداً رسول الله
؟
فيجيب
حبيب : بلى أشهد أن محمداً رسول الله.
فيقول
الكذاب : أفلا تشهد
أني
رسول الله ..؟
فيصمت
حبيب ولا يجيب.
فيلكزه
الكذاب بسيفه وهو يتفطر
غضباً :
ألا ترى أني رسول الله يا حبيب ..؟
فلا
يزيد حبيب أن يقول : بل أشهد
أن محمداً رسول الله.
فيمسك
الكذاب ذراع حبيب ويهوي عليها بسيفه فيقطعها ثم
يصرخ
فيه: أفلا تشهد أني رسول الله يا حبيب ..؟
فلا
يزيد حبيب وقد أجهده
النزف
الغزير : بل أشهد أن محمداً رسول الله.
ويطير
عقل مسيلمة أمام ثبات حبيب
وصبره
فيعمل سيفه في أعضائه عضواً بعد عضواً فيقطع أذنه ويجدع أنفه ويستل
لسانه
ويفقأ عينيه
وحبيب مع كل ذلك يأبى أن يشهد في الكذاب إلا الشهادة التي يستحقها..
شهادة
تخزيه وتؤلمه وتزيد حنقه فيمضي في تنفيذ حقده حتى لا يبقى في حبيب رمق
فيخر شهيداً في
سبيل الله.
وقل أن يتمكن
الرسول (ص) من الانتقام، تدركه المنية. وعندها بدأت القبائل تخرج من
دين الله أفواجا كما دخلته حتى لم يبقى على دين الإسلام إلا أهل مكة و
المدينة والطائف وجماعات متفرقة هنا وهناك. فجهز الخليفة أبو بكر
الصديق، رضي الله عنه، أحد عشر جيشا وأرسلها في شتى أنحاء الجزيرة
العربية ليعيدوا المرتدين إلى سبيل الهدى والحق. وكان أقوى المرتدين
باسا وأكثرهم عددا على الإطلاق بنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب. فقد
اجتمع تحت رايته أربعون ألفا من المحاربين الأشداء. وقد هزم مسيلمة أول
جيش للمسلمين بقيادة عكرمة بن أبى جهل ورده على أعقابه. فأرسل إليه
جيشا ثان بقيادة خالد بن الوليد حشد فيه وجوه الصحابة من المهاجرين و
الأنصار.
وكانت
بينهم نسيبة بنت كعب التي أخذت تترصد
وتتربص بمسيلمة الكذاب لتأخذ بثأر ابنها حبيب، وكان معها ابنها الثاني
عبد الله
الذي اشترك في قتل مسيلمة.
وقد بدأت
المعركة على غير ما توقع المسلمون، فأخذوا يتراجعون تحت ضغط هجوم كاسح
من جانب الكفار حتى وصل أصحاب مسيلمة إلى فسطاط خالد واقتلعوه من أصوله
وكادوا يقتلون زوجته. عند ذلك شعر المسلمون بالخطر الداهم و أدركوا
أنهم إن هزموا ذلك اليوم لن تقوم قائمة للإسلام بعد اليوم. فانطلقوا
يقاتلون كالأسود حتى زلزلوا مسيلمة وأصحابه، وأجبروهم على التراجع.
فأمر مسيلمة أصحابه، فلجأوا إلى الحديقة التي عرفت فيما بعد بحديقة
الموت لكثرة قتلاها، وهي واحد من أكبر بساتين اليمامة وأغزرها شجراً.
لكن المسلمين نجحوا في تسلق أسوارها، وتدفقوا إليها، وسرعان ما وصلوا
إلى مسيلمة فأردوه صريعا.
وقد
قطعت ذراع نسيبة في هذه المعركة، وأصيبت بعدة جروح مختلفة.
كما أن المسلمين خسروا فيها أكثر من ألف شهيد بينهم ما يزيد عن 500 من
الصحابة وحفظة القرآن. وكان من شهدائهم يومها زيد بن الخطاب وثابت بن
قيس وغيرهما.
وقد ظل
أبو بكر يطمئن عليها ويعودها حتى شفيت وخرجت مع المسلمين لقتال الفرس.
وعندما سقط إيوان كسرى
وغنم
المسلمون غنائم عظيمة بكت وتذكرت النبي وهو يشارك في حفر الخندق حول
المدينة ويضرب
بالمعول
صخرة عظيمة وهو يصيح: الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس. وكانت ضمن الغنائم
قطيفة
مرصعة بالجواهر واللآلئ كانت من نصيب أم عمارة، فاحتضنت القطيفة وهي
تبكي
لهذه المنزلة العالية بين الصحابة.
روى
ابن سعد عن موسى بن ضمرة بن سعيد عن أبيه قال: أتى عمر
بن الخطاب رضي الله عنه بثياب حريرية فاخرة وفيها ثوب ثمين واسع، فقال
بعضهم لو أرسلت به إلى زوجة عبد الله بن
عمر (ابن الخليفة) صفية بنت أبي عبيد. قال: ابعثوا به إلى مَن هو أحق
به منها إلى أم عمارة نسيبة
بنت كعب، فإني سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول:
"ما
التفت يمينًا ولا شمالاً يوم أحد إلا رأيتها تقاتل دوني".
وقد روت أم عمارة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
أكثر من حديث، بينها حديث الصائم”
إذا أكل أحد عنده صلت عليه الملائكة". قال ابن حجر: روى عنها ابنها
عباد،
ومولاتها ليلى، وعكرمة، والحارث بن كعب، وأم سعد بنت سعد بن الربيع،
وحديثها ثابت
في السنن الأربعة.
كما
روي عنها أنها أتت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: " ما أرى كل
شيء إلا للرجال وما أرى النساء يذكرون" فنزل
" إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ
وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ
وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ
وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ
وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ
فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً
وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً
" (الأحزاب35)
وقد توفيت
أم عمارة في عهد الخليفة
عمر بن الخطاب رضي الله
عنهما وذلك في عام 13 هـ الموافق 634 م. |