وقبل
وصول الحكم الإسلامي في القرن السابع الميلادي، تعرضت البتراء لهزة
أرضية قوية جعلت سكانها يهجرون المدينة بشكل كامل. لكن غموض التفاصيل
وعدم التدوين الواضح لتاريخ الأنباط شكلا لغزاً عصياً أمام من يحاول
فهم دلالة بعض آثار مدينة البتراء ويكاد يكون من المستحيل حل الخفايا
التي مازالت تلف هذه المدينة.
على
بعد ثلاثمائة ميل من شمال مدينة البتراء تقع مدينة تدمر الحافلة حالياً
بالآثار. وبالمقارنة مع البتراء فإن هذه المدينة قائمة على الأرض
وواضحة للعيان من بعد أميال في الصحراء الشاسعة. فعلى بعد 140 ميل
تقريباً شرق دمشق، تقف صفوف الأعمدة وبقايا الأبنية التي اندثرت كحارس
صامت على الماضي ولطالما وقف الزوار مأخوذين على مر القرون بالآثار
الضخمة والعظيمة لهذه المدينة.
ترجع
عظمة تدمر على الأغلب إلى القرن الثاني الميلادي عندما وصلت إلى ذروة
ازدهارها كمركز تجاري. وعلى كل حال تشير السجلات الحديثة الناجمة عن
أعمال التنقيب عن الآثار إلى أن تاريخها يعود إلى عام 2000 قبل الميلاد
عندما كانت هذه المدينة عبارة عن واحة تدعى "تدمر" وهو الاسم الأصلي
لاسم "بالميرا" الذي أعطاه الرومان للمدينة بعد احتلالها. ولآلاف
السنين كان يسكن هذه المنطقة قبائل البدو العربية التي بدأت في
الاستقرار كطريقة للعيش. وكانت في ذلك الوقت تتكلم لغة الآراميين وهم
قبيلة سامية تنحدر من أصول عربية. ولقرون مضت كانت تدمر
مدينة بسيطة وناجحة. وبعد
ذلك تحولت المدينة في القرن الأول
الميلادي متأثرة بالرومان لمدينة
تمتلك العظمة والفخامة التي يمكن إدراكها بين أوابدها في الوقت الحاضر.
ومع نمو التجارة لمسافات بعيدة بدأت المدينة باستقطاب التجار من بلاد
فارس والهند والصين من جهة الشرق والفينيقيين من الغرب، حيث كان
باستطاعة التجار في نقطة الالتقاء الملائمة أن يقوموا بتبادل العاج
والتوابل والحرير والذهب والمجوهرات وبذلك يوفرون على بعضهم الوقت
والجهد المبذول في السفر البعيد من خلال طرق التجارة الأخرى. فرض شعب
تدمر ضريبة على التجار وأعطوهم مكاناً ليزاولوا تجارتهم فيه وزودوهم
بالماء العذب والسكن مما انعكس على سكان المدينة بالرخاء والازدهار،
وهو ما أعطى مدينة تدمر لقب المدينة الأولى في المنطقة وباتت تعرف باسم
"مدينة التجار".
يمكن
الاستدلال على ثروة التدمريين من خلال بقايا الزخارف على التماثيل التي
تجسد المرأة التدمرية والتي مازالت موجودة، والثروات الهائلة التي بددت
لتزيين قبور الموتى التي تعود لأغنياء المدينة. أما بالنسبة للآخرين
فقد كانوا يدفنون في قبور في الصحراء. وكانت توضع عليها حجارة متواضعة
لتمييزها. ويعتبر صف الأعمدة العظيم الذي بني في القرن الثاني للميلاد
السمة البارزة للمدينة، ويتألف هذا الصف من أكثر من سبعمائة عمود، طول
كل عمود 29 قدماً، توج بقرانص معقدة التصميم. وكان يحتضن الشارع
الرئيسي للمدينة والمزدحم بالمحلات التجارية والمكاتب.
وبالقرب من نهاية صف الأعمدة يوجد هناك آثار معبد بعل العظيم، الإله
الأعلى لتدمر. في هذا المكان قدم الكهنة قرابين من الحيوانات لأوثان
أكبر وأصغر الآلهة الموجودين في المعبد وأقاموا الولائم المنتظمة على
شرفهم. وقد استمرت المدينة بالازدهار بدعم من الرومان لمدة من الوقت،
وهو ازدهار يضاف إلى ازدهارها السابق. وبعد ذلك وفي منتصف القرن الثالث
الميلادي، قام الفرس بغزو سوريا ونجحوا في قطع كافة الطرق التجارية إلى
تدمر فلم يكن لدى سكان تدمر إلا أحد خيارين، إما الإذعان لشروط العدو
أو مقاتلته بدون مساعدة الرومان. في هذه المرحلة دخل اوديناثيوس وهو
عضو بارز من مجلس الشيوخ في تدمر إلى ساحة الأحداث ليتعامل مع هذه
الأزمة. حاول أن يتوصل إلى السلام مع الفرس لكن جميع محاولاته قوبلت
بالرفض، وفي نهاية المطاف أمر بتجهيز جيش لمقاتلة الفرس وقام بحشد
الجنود من كافة أنحاء سوريا وشكلهم وفق نظام عسكري ليقوم بعد ذلك
بمهاجمة الفرس بقوة وهزمهم بشكل حاسم من ثم نصب نفسه ملكاً لتدمر،
وبمساعدة منه استعادت روما تأثيرها على الشرق الأوسط واعترفت بتدمر
دولة مستقلة.
لم
يستمر حكم اوديناثيوس لفترة طويلة فقد تم اغتياله عام 268م وخلفته
زوجته الجميلة زنوبيا التي حكمت تدمر نيابة عن ابنها القاصر
فالاباثيوس، ويقول المؤرخون القدامى بأنها كانت امرأة غير عادية تتصف
بالشجاعة والذكاء. فقد كانت فارسة خبيرة وكانت تطمح إلى بناء
امبراطورية خاصة بها. وقد قررت زنوبيا أن تحرر تدمر من تأثير الرومان
عليها، فسارت باتجاه أنطاكية عام 271م واستولت على أهم ميناء على البحر
الأبيض المتوسط. ومن ثم أرسلت جيشها إلى مصر فحققت نصراً في هذه
الحملة ومنحت ابنها لقب اغسطس وهو لقب كان يستعمله امبراطور الرومان
وبدأت بسك عملتها الخاصة.
في هذا
الوقت كانت روما تحكم من قبل امبراطور جديد وهو اورليان والذي قام فيما
بعد بتسوية الخلافات الحدودية مع ألمانيا فسار بجيشه إلى أنطاكية لكبح
التهديد المتنامي والقوة المتزايدة لتدمر وإلحاق الهزيمة بجيش زنوبيا
الذي كانت يتمركز هناك. بعد معاناة كانت إلحاق الهزيمة بالجيوش
الرومانية في متناول اليد وعلى بعد ثمانين ميلاً من تدمر انسحبت زنوبيا
بسرعة مع كبار قادتها إلى المدينة وبدأت بتحصين أسوارها.
عندما
وصل الإمبراطور الروماني إلى تدمر وجد المدينة محصنة بشكل جيد، وقد
طلبت زنوبيا من الفرس مساعدتها لمواجهة جيش الرومان إلا ذلك لم يحصل.
جهز
الإمبراطور اورليان جيشه لحصار طويل لتدمر وعرض على زنوبيا السلام
مقابل نفيها إلا أنها رفضت. وقد تطاول الحصار، وفيما كان الرومان قد
نظموا خطوط تموينهم، كان سكان تدمر يتعرضون للمجاعة. وفي ذلك الوضع
اليائس، قررت زنوبيا أن تهرب تحت جناح الظلام على ظهر جمل عربي، وتعبر
الخطوط الرومانية حول المدينة. وقد نجحت في الوصل لنهر الفرات قبل أن
تلحق بها سرية من خيالة الرومان الذين أرسلوا لتعقبها.
بعد
وقوع زنوبيا في الأسر، استسلم أهالي تدمر. ودخل الإمبراطور الروماني
المدينة وقتل بعض الشخصيات الهامة في المدينة وأقام محاكمة ضد زنوبيا.
وخوفاً على حياتها وحياة ابنها، أنحت زنوبيا باللائمة على مستشاريها في
مغامراتها العسكرية الطائشة ضد الإمبراطورية الرومانية. وجرى تنفيذ حكم
الإعدام بمستشاريها فيما أنقذت زنوبيا حياتها وحياة ابنها.
يروي
بعض المؤرخين أن زنوبيا انتحرت لأنها لم تستطع تحمل الإذلال الذي تعرضت
له بعد هزيمتها، بينما يقول البعض أنها أخذت إلى روما في موكب النصر،
وقد ازدانت بكافة جواهرها الملكية على يديها وقدميها مع قلادة ذهبية
حول عنقها، وجميع هذه الحلى والجواهر موصولة إلى قيود من ذهب. وفي
روايات تاريخية أخرى نرى أن الإمبراطور أورليان زوجها من عضو مجلس شيوخ
روماني حيث عاشت حياة هادئة مع عائلتها حتى وافاها الأجل.
في هذه
الأثناء أعاد شعب تدمر تنظيم صفوفه في محاولة أخرى لنيل استقلاله عن
الحكم الروماني، لكن سرعان ما وضعت روما نهاية لهذه الانتفاضة، إلا أن
الإمبراطور الروماني أباح هذه المدينة أمام النهب والسلب. وبعد أن منيت
تدمر بهذه الهزيمة العسكرية، تراجعت أهميتها بسرعة سواء كمدينة أو مركز
تجاري.
في
القرن السابع تمكن المسلمون بسهولة من الانتصار على المدينة وحاولوا
الحصول على حجارة المباني المدمرة فيها لاستخدامها في إنشاءاتهم
الخاصة. وشيئاً فشيئاً خسرت مدينة تدمر أهميتها بالنسبة للمسلمين
واستمرت حالها على هذا المنوال حتى هجرها المقيمون فيها.
عندما
وصل رحالة الغرب إلى تدمر في القرن السابع عشر وجدوا قبيلة صغيرة من
العرب تعيش وسط أطلال المدينة في أكواخ من الطين، حيث بني مسجد في معبد
بعل وكان ما يزال قائماً حتى العام 1929. أما هذه الأيام فلم يبق من
مقيم في تدمر سوى علماء الآثار الذين يحاولون بمعاولهم أن يجمعوا أشتات
تاريخ مدينة كانت فيما مضى مدينة عظيمة. |