كما أن
من الجدير بالذكر أن الغزاة النورمانديين تعاملوا بتقدير كبير مع
الإنجازات العلمية والفنية والثقافية العربية كما لم يعملوا على إيقاف
عمل العرب في هذه الميادين. فهم لم يحفظوا إنجازات المسلمين فحسب بل
أنهم سمحوا للعلماء المسلمين بمتابعة عملهم ودعموهم في إنجازها أيضاً.
وكان هذا يعود في الوجه الأكبر منه إلى الرؤية التي تحلى بها الملك
روجر الثاني (1097-1154) حاكم صقلية في ذلك الوقت. كان روجر الثاني
داعماً قوياً للبحث العلمي والإنجازات الفنية. وكان على وجه الخصوص
شغوفاً بعلم الجغرافيا واكتشف أن معارف العرب في هذا المجال لا تقدر
بثمن.
ولهذا
فقد جمع مكتبة ضخمة من المخطوطات والخرائط الجغرافيا العربية وأحاط
نفسه بالخبراء في هذا المجال. وعلى ما يبدو فإن الموقع الجغرافي لمدينة
باليرمو في صقلية قد جعل من السهل على روجر الثاني أن يفعل ذلك. لقد
كانت صقلية معبراً للتجار والبحارة والعلماء والحجاج والغزاة من مختلف
الأنحاء وفي شتى الاتجاهات في ذلك الزمن.
حينها
قرر روجر الثاني أن ينجز خريطة للعالم وكتاباً يصف جغرافيا الأرض.
وتقول بعض المصادر التاريخية أن عائلة الإدريسي، الحمويين، كانت أصحاب
حضور قوي في صقلية العربية وساهمت في ذيوع صيت معارفه العلمية. وحين
سمع روجر الثاني بأمر الإدريسي، أعجب بما سمع عنه ودعاه للالتحاق به في
صقلية. وعرض الملك على الإدريسي دعمه لإنجاز خريطته الشهيرة والكتاب
المصاحب لها. وفي الدعوة قال له الملك: "إنك ابن عائلة من الخلفاء.
ولهذا السبب، حين تكون بين المسلمين فإن ملوكهم سيسعون وراء قتلك، أما
إذا ما كنت معي فسأضمن لك سلامتك الشخصية."
الإدريسي في صقلية النورماندية
سواء
كان لهذه الكلمات أي أثر في إقناع الإدريسي أم لا، فقد قبل دعوة الملك
بسرور لأنه نفسه كان متحمساً جداً لهذا المشروع العلمي. وبالفعل وجد
الإدريسي في الملك روجر الراعي المثالي لعمله. بعض أترابه العرب
والمسلمين لم يعجبهم قراره بالعمل في بلاط ملك نصراني، غير أنه كان على
قناعة بأن نتائج عمله العلمي يجب أن تفيد كل الأديان. وهكذا سافر إلى
صقلية عام 1145، على الرغم من أن أول زيارة له إلى الجزيرة كانت قبلها
بخمس أو ست سنوات وكان المشروع الذي ينتظره هو توفير كل المعلومات
المعروفة عن المواقع الدقيقة للمدن (بما في ذلك ذكر خط إحداثيات العرض
والطول) و مواقع المناطق المناخية المتباينة إضافة إلى المسافات بين
الأماكن المأهولة بالسكان لمساعدة المسافرين والملاحين.
ولمساعدة الإدريسي في هذا المشروع الضخم، وفر الملك روجر الثاني له كل
الأدوات والموارد التي طلبها. كما أنه، وبمساعدة الإدريسي نفسه، جمع
فريقاً من الناس لإرسالهم إلى أصقاع العالم البعيدة من أجل أن يجمعوا
معلومات عيانية تعتمد على تقصياتهم المباشرة، وحين عودتهم كان هؤلاء
يقدمون التقارير والمخطوطات التي أعدوها في مهماتهم للإدريسي.
إنجازات الإدريسي في صقلية
كانت
الإنجازات الأكثر أهمية التي نجمت عن أعمال الإدريسي في صقلية وتعاونه
مع الملك النورماندي ثلاثة وهي: خريطة كروية فضية للأرض وخريطة أخرى
للعالم تقسم كوكب الأرض إلى سبع مناطق مناخية وكتاب يقدم فيه شروحاً
مفصلة عن الكرة الأرضية التي صنعها. كان عنوان الكتاب هو "نزهة المشتاق
في اختراق الأفاق". واعترافاً بجهد الملك روجر الثاني يشار إلى هذا
الكتاب أيضاً باسم "كتاب روجر" أو "الكتاب الروجري". ومع كل ما فيه من
خرائط ومواد علمية وإشارات إلى الأعمال الجغرافية الإغريقية والعربية،
احتاج الكتاب 15 عاماً حتى اكتمال إنجازه أوائل عام 1154. وقد توفي
الملك روجر الثاني بوقت قصير بعدها.
يعتبر
نزهة المشتاق أضخم وأفضل مشروع جغرافي أنتجته أوروبا في العصور
الوسيطة. وقد اكتسب أهمية خاصة لأوصافه التي قدمها عن منطقة البحر
المتوسط وشبه جزيرة البلقان. كما أثار الإدريسي في كتابه هذا القضية
الجدلية الكبيرة في عصره حيث أكد أن الأرض كروية. ورد على الاعتراضات
التي وجهت إلى نظريته هذه بالقول: البعض يحتج بالقول أن السوائل
(البحار) لا يمكن أن تتماسك مع محيط مدور، غير أن الحقيقة هي أنها يمكن
أن تتماسك حيث تحتويها حالة من التوازن المتواصل.
وما
يؤسف له هو أن كرة الإدريسي الفضية قد ضاعت مع الوقت ولا نعرف عنها إلا
من المخطوطات التي ذكرتها. أما فيما يتعلق بخرائطه التي وضعها للعالم
فإن النسخ الأقدم عنها فهي خريطة الجزيرة العربية التي نشرها باحث
ألماني في القرن الماضي (1931) واستمدها من أطلس يعود إلى تلك الحقبة.
ثم نشرت نسخة معدلة عنها بعدها بعشرين عاماً في العراق عام (1951).
وجوه أخرى
إلى جانب الجغرافيا، كان الإدريسي مهتماً أيضاً بالطب
والمنهج الطبي. فقد وضع جهوده العلمية في هذا المجال في كتاب أسماه
"كتاب الأدوية المفردة" الذي وصف فيه الأدوية وخواصها مستخدماً اثني
عشرة لغة. لكن العالم في العموم يتذكر الإدريسي لإنجازاته الجغرافية في
العصور الوسطى. ولا يعرف الكثير عن السنوات الأخيرة من حياته. ربما
يكون وقع ضحية الاكتئاب حين عرف بأن كوكبه الفضي قد سُرق خلال شغب قام
به رعاع نورمانديون عام 1161. وتوفي الإدريسي بعدها بخمس سنوات في
صقلية عام 1166. غير أن تركته وأثره العلميين عاشا طويلاً بعدها. فقد
كان الإدريسي أشهر جغرافي عربي ومسلم عرفه الأوروبيون وربما كان هذا
يعود في وجه منه إلى وجوده في صقلية واتصال الجزيرة الدائم مع البحارة
والتجار القادمين من إقليم المتوسط وسواحل الأطلسي وبحور الشمال.
|