والآن، يجدون أنفسهم
وحيدين بصورة لا تصدق. وهكذا غدوا أيتاماً مشردين في عالم غيره موت رجل
خلف وراءه فجوة هائلة."
المشاعر التي تفجرت في
الجنازة دفعت الأمريكي من أصل عربي، أحمد عمرو، رئيس تحرير نايل ميديا
دوت كوم، للاعتذار: "أنا والعديد غيري في مجتمع العرب الأمريكيين كنا
نطالب عرفات بالقيام بواجبه في الوقت الذي كان علينا فيه المطالبة
بمحاسبة شارون على ما يفعله.
"كان علينا تركيز
جهودنا على مواجهة قادتنا ذوي القلوب المتحجرة الذين يتعاونون عن عمد
مع شارون. كان علينا أن نكون أعلى صوتاً وأكثر إلحاحاً في ردودنا على
النقاد المناصرين لإسرائيل والذين كانوا يهللون لذبح أبناء عرفات.
الآن، لا يسعني غير القول: ياسر، أنا آسف للغاية."
أما مايك عودة الله،
الفلسطيني الأمريكي الذي ولد في القدس، فإند يصف ببلاغة كيف كان عرفات
وثيق الارتباط بهويته الفلسطينية، وذلك في مقال نشره على موقع الجزيرة.
قال: "عندما زعمت
رئيسة وزراء إسرائيل السابقة جولدا مئير بصفاقة أنه ’لا يوجد شيء يدعى
الشعب الفلسطيني‘، وقف ياسر عرفات يتحداها ويثبت لها وللعالم أننا
موجودون."
ويتذكر عودة الله أنه
عندما كان طفلاً في الولايات المتحدة، طلب منه معلمته الإجابة على كشف
من الأسئلة. وكان بينها: بلد المنشأ والجنسية. ولأنه لم يكن قد نال
الجنسية الأمريكية بعد، كتب: فلسطين، وفلسطيني جواباً على السؤال. لكن
المعلمة همهمت ساخرة عندما وقعت عيناها على الورقة قبل أن تلقي على
الصغير محاضرة عن خطيئته.
"أوقفتني وسألتني أمام
الصف عن جنسيتي. قلت: أنا فلسطيني. أجابت: هذا هراء. لا يوجد شيء بهذا
الاسم.
"ثم أعادت لي الورقة
وطلبت مني أن أصلحها. كنت مرتبكاً. ماذا كان مطلوباً مني أن أكتب؟ قامت
بمحو كلمتي فلسطين، وفلسطيني، وقال أن أمامي خيار: أن أكون لبنانياً،
سورياً أو أردنياً.
"احتججت بأنني لست لا
أنتمي لهذه الجنسيات، وأنني ولدت في القدس. ولكن دون جدوى. اخذت الورقة
وطتبت عليها سوريا، وسوري، ثم وبختني أمام الصف كله باعتباري لا أعرف
أين أنتمي ولا اسم وطني." وبعدئذ تعرض عودة الله للسخرية من قبل
زملائه، وخصوصاً العرب الأمريكيين المتلهفين للحصول على مكان في
المجتمع الجديد.
ويقول عودة الله إنه
سيبقى ممتناً لعرفات على الدوام لأنه جعل العالم يعرف تماماً من هو
الشعب الفلسطيني. ويضيف "لم يعد على أطفالي أن يتعرضوا لما تعرضت له
أنا بشأن هويتهم. بل يمكنهم أن يفخروا بها لأنه لم يعد بوسع العالم
أبداً التظاهر بأننا غير موجودين."
وقبل مرور وقت طويل
على ذلك، مشى عرفات بثقة داخل مقر الأمم المتحدة في نيويورك ليخاطب
جمعيتها العمومية بكلمته التاريخية "لقد أتيتكم حاملاً غصن الزيتون
بيد، وبندقية النضال بيد. فلا تدعوا غصن الزيتون يسقط من يدي."
لكن عرفات كانت له
مثالبه أيضاً. فبعض الفلسطينيين اتهموه بالفساد، وقالوا إنه كان يخفي
البلايين في حسابات سرية باسمه في المصارف. لكن عندما يحلل الإنسان
طبيعته الشخصية، يصبح هذا الاتهام هراء.
كان عرفات رجلاً
بسيطاً، يمتلك غيارين من الثياب العسكرية، كلاهما أخضر زيتي اللون. وقد
تذمر عندما اشترت له زوجته سهى خزانة ثياب لغرفة نومه البسيطة الخالية
من النوافذ والتي كانت قطعة الأثاث الوحيدة فيها سريره العسكري. فهو لا
يحتاج لتلك العلامات البورجوازية، كما قال للمرأة التي قضت أربع سنوات
من الانتفاضة الثانية المستمرة في باريس، وهي تعيش ببذخ ولا ترتدي سوى
ما ينتجه كبار مصممي الثياب.
كان يمكنه ببساطة
اللحاق بسهى وابنته الصغيرة للخلاص من الحصار الذي فرضه عليه
الإسرائيليون، ومن قذائف الدبابات والمدافع التي كانت تدك بين الآونة
والأخرى المجمع الرئاسي، ومن انقطاع المياه والكهرباء، والأهم من ذلك
ما تعرضت له كرامته من إهانات. لكن ذلك لم يكن خياراً مطروحاً أمام
الرجل الذي أصر على مشاركة شعبه معاناته الكاملة. كان عرفات يعترف
بوجود البلايين، لكنه كان يشير إليها باعتبارها ملك شعبه، أي مبلغاً
احتياطياً يواجه فيه الأيام السوداء.
كما أن عرفات اتهم
أيضاً بأنه رجل ر يهدر فرصة لاستغلال فرصة، وخصوصاً بشأن اتفاقية
أوسلو، عندما قدم رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك 22% من فلسطين
التاريخية. والولايات المتحدة مازالت تروج لهذا العرض الذي تصفه
الحكومات الإسرائيلية بأنه عرض كريم للغاية وأن مسؤولية رفضه تقع على
عاتق عرفات.
وفي واقع الحال، لم
يكن هناك شيء مكتوب. لكن حسبما يذكر الفلسطينيون الذين ساعدوا في
التفاوض، لم يكن هناك جوهر حقيقي لشروط التسوية "الكريمة". فبموجب
الصفقة الشفهية، ستحتفظ إسرائيل بالسيطرة على الفضاء والبحر
الفلسطينيين، فيما سيكون معظم شرائح الأرض المعروضة غير متصلة. وفوق
ذلك، فإن المستوطنات الإسرائيلية الكبرى في الضفة الغربية ستبقي، فيما
لم يعرض حل لمشكلتي حقوق المياه والعودة لفلسطينيي المهجر.
لقد كشف كبير
المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات أن النقطة الرئيسية التي بقيت عالقة
لدى عرفات هي التوقيع على قصاصة ورق تنص على أن الحرم القدسي الشريف هو
المكان الذي تقع تحته المعابد اليهودية. فتلك كانت عقبة مستحيلة لأن
تلك الورقة يمكن أن تستخدم في يوم من الأيام كمبرر يسمح لإسرائيل بهدم
المسجد الأقصى بقبته الذهبية، والذي يعتبر ثالث مكان مقدس لدى
المسلمين.
في
ديسمبر الماضي، قال الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر في برنامج لاري
كينغ أنه لا يشك في أن العرب كانوا سيغتالون عرفات فيما لو وافق على
عرض باراك. وأضاف أن العرض كان سيترك الطرقات بين المدن والبلدات
الفلسطينية تحت السيطرة الإسرائيلية، وأنه كان على الفلسطينيين
الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على القدس الشرقية حتى لو سمح لهم
بالإقامة فيها.
لقد كان عرفات يؤكد
باستمرار أنه لو لم يتم اغتيال شريكه إسحق رابين، في ما كان يسميه
"سلام الشجعان"، فقد كان يمكن التوصل لاتفاق سلام بنجاح.
وفي النهاية، تلاشى
حلم عرفات بإقامة دولة فلسطينية قابلة للبقاء خلال حياته نتيجة
التأثيرات المتداخلة للأحداث. كان اغتيال رابين الضربة الأول. وبعدئذ،
عندما بدا لأول مرة أن مفاوضات طابا تسير بصورة إيجابية، أطاح القومي
المعصب والمتشدد أرييل شارون بإيهود باراك، فيما حل جورج بوش، بتعصبه
السافر لإسرائيل محل بيل كلينتون. واتضح عندئذ أنه تم اعتماد
أجندة جديدو في غير صالح الفلسطينيين.
وبين ليلة وضحاها،
أصيح عرفات الذي يحمل جائزة نوبل للسلام، والزائر الأكثر تردداً على
البيت الأبيض أيام كلينتون، شخصاً غير مرغوب فيه سواء من قبل الولايات
المتحدة أو إسرائيل. كان يتعرض للإهمال أو للإهانة باستمرار بعد أحداث
11 سبتمبر، حيث أطلق عليه لقب إرهابي.
وبتأثير دعم بوش له،
امتلك شارون الحرية في تهديد حياة عرفات. وحتى عندما تم تدمير جهاز
الأمن الفلسطيني بالكامل تقريباً، وكان عرفات شبه سجين، كان يتهم،
وبصورة غير معقولة، بأنه لا يفعل ما يجب "لوقف الإرهاب".
وهكذا، ودون سابق
إنذار، أصبح عرفات، وهو الذي يمتلك وحده القدرة على توحيد الفصائل
الفلسطينية وراءه، عقبة أمام السلام عوضاً عن كونه شريك سلام. لقد أصبح
بوسع شارون، طالما بقي عدوه القديم عرفات حياً، أن يفعل الأسوأ في نطاق
انتهاكاته لحقوق الإنسان الفلسطينية، ورفضه العودة لطاولة المفاوضات،
ودفنه مبادرات أوسلو، ميتشل، تينيت و"خريطة الطريق" التي اكتفى بوش
بالإشادة بها شفهياً فقط.
قد لا يكون إرث عرفات
هو نفس ما سعى إليه، لكنه، وبكلماته يصفه بقوله "لقد جعلنا من القضية
الفلسطينية الأكبر في العالم. انظروا لقرار المحكمة الدولية بشأن
الجدار العازل. مئة وثلاثون دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة وقفت
معنا. وبعد 107 سنوات على مؤتمر بازل (مؤسس الحركة الصهيونية)، و90
عاماً على اتفاقية سايكس بيكو، فشلت إسرائيل في إبادتنا. نحن هنا، في
فلسطين، نواجههم."
لقد علق قادة الغرب
وخبراء الشرق الأوسط المزعومين بجذل على وفاة عرفات، فوصفوها بأنها
"تفتح نافذة الفرص" مكررين كالببغاوات زعم إسرائيل بأنه كان العقبة
الرئيسية أمام السلام.
إن ذلك للأسف ليس أكثر
من نغمة دعائية شاذة ابتعت لإبعاد أنظار الناس عن الحاجزين الحقيقيين:
شارون وبوش. فالدولة التي ستقام تحت مراقبتهما لن تكون أكثر من مجرد
اسم. وأي قائد فلسطيني يقع فريسة لذلك لن يكون مذنباً فقط بالقضاء على
إرث عرفات، بل أيضاً ببيع شعبه دون حياء.
|