"مقطورات الأسلحة
الجرثومية" تبين أنها لصناعة بالونات الأرصاد الجوية.
أنابيب الألمنيوم التي
أصر باول على أنها لإنتاج أجهزة الطرد المركزي النووي أكدت الوكالة
الدولية للطاقة الذرية أنها مستوردة للاستخدام في إنتاج الصواريخ.
سعي العراق المزعوم
لشراء خام اليورانيوم من النيجر كان يقوم على أوراق مزورة أعلنت الوكالة
الدولية للطاقة الذرية بعد ساعات من الكشف عنها أنها مزورة قطعاً.
كما تجاهل باول أيضاً
تقريراً أعده السفير جوزيف ويلسون الذي سافر إلى النيجر بطلب من زوجته
فاليري بلاين العاملة في السي آي أيه للتحقيق في الأمر. تقرير ويلسون
أنكر مزاعم باول وحين تجرأ كاتب التقرير على كشف هذه الحقيقة، رد البيت
الأبيض عليه في خطوة تنتهك القانون الأمريكي بالكشف عن أسم زوجته وعملها
منهياً بذلك بحكم الأمر الواقع حياتها المهنية في الاستخبارات.
كرر جورج بوش كذبته هذه
في خطاب حالة الاتحاد الذي وجهه إلى الأمة في يناير 2003، تاركاً
لمرؤوسيه مهمة الإعتذار عن إدراج هذه الكذبة في الخطاب حين أصبح أمر
تلفيقها شيئاً معروفاً للجميع.
وفيما يتعلق بتأكيدات
باول على أن العراق كانت لديه أربعة أطنان من غاز في إكس، أغفل وزير
الخارجية حقيقة أن معظم هذه الكمية قد أتلفت في التسعينيات تحت إشراف
مفتشي الأمم المتحدة ولم يتطرق أبداً إلى الجهود الكبيرة التي بذلها
العراقيون لإثبات أنهم قد أتلفوا ما تبقى منها بإجرائهم تحاليل كيماوية
للتربة في المواقع التي أكد المفتشون أن غاز في أكس قد أتلف فيها.
ومهما كانت الحقيقة، فقد
أكد الباحثون في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية البريطاني بأن أي
مخزونات لغاز في أكس تعود لما قبل عام 1991 ستكون قد تفككت بشكل طبيعي
وبالتالي لن تعود صالحة للاستخدام.
أما صور الفيديو التي
قدمها باول لطائرة التجسس العراقية بدون طيار والتي تشبه نسخة محسنة من
ألعاب الأطفال باعتبارها تهديداً كبيراً فقد سببت للحضور في مجلس الأمن
ضحكات خانقة.
لكن الأضحوكة الأكبر
كانت حديث باول عن معسكر للإرهاب في شمال العراق يتم فيه تصنيع غاز
الرايسين ذلك السم الأكثر فتكاً بين السموم المعروفة للإنسان. وسرعان ما
أوضح الإعلام حقيقة أن ذلك المعسكر كان موجوداً في القطاع الكردي من
العراق خارج نطاق سيطرة صدام حسين وحين زار الصحفيون المكان، لم يجدوا
فيه سوى بضعة رجال عجائز ومطبخاً ملوثاً بالبندورة المتعفنة.
قال باول: "لقد عثر على
وثائق سرية في حديقة بيت أحد العلماء النويين العراقيين في بغداد" ووصف
ذلك بأنه "برهان استخباراتي درامي." أما المفتشون الدوليون فقد قالوا عن
الوثائق ذاتها إنها بقايا قديمة و"لامعنى لها" من برنامج مخفق ومعروف لهم
تماماً لتخصيب اليورانيوم أواخر الثمانينيات.
التلفيق في داوننغ
ستريت
لئلا يجد نفسه مهزوماً
في سباق الهراء، أصدر مكتب طوني بلير في فبراير الملف العراقي الثاني
وذلك بعد تبيان كذب المزاعم في الملف الأول الذي أصدره في سبتمبر السابق
حول قدرة صدام حسين على إطلاق ما لديه من أسلحة دمار شامل ضد دول الجوار
والمصالح البريطانية في غضون 45 دقيقة فقط من اتخاذ القرار بذلك. أما
حقيقة أن زعم الدقائق الخمسة وأربعين كانت تشير فقط إلى الأسلحة
الميدانية فقد أسقطت عمداً من الملف وأصبح أساتذة الكذب أو التلفيق في
داون ستريت في دائرة التدقيق بعد أن أشار آندرو غاليغان الصحفي في البي
بي سي إلى أن مصدراً رفيعاً في وزارة الدفاع قد ذكر له بأن ملف سبتمبر
تضمن تدبيجاً كثيراً.
ومع أن غاليغان رفض
تسمية مصدره، استطاعت وزارة الدفاع أن تصل إليه وتسرب اسمه إلى ماكينات
الإعلام التي لا ترحم وكانت نهاية الدكتور ديفيد كيلي العالم الخجول في
وزارة الدفاع هي أن ينتحر. وبلغت غضبة داوننغ ستريت على كبار المسؤوليين
في البي بي سي حداً وصل إلى التخلص من غريغ دايك مديرها العام المحبوب
شعبياً والصحفي الذي كان أول من كشف الأمر.
الملف الثاني تضمن
مواداً منسوخة نسخاً مباشراً من رسالة ماجستير عمرها 12 عاماً نشرها
الطالب الذي أعدها على الأنترنيت وهو ما تحول إلى إحراج أكبر من سابقه
كما أقر وزير الخارجية جاك سترو.
غير أن كل هذه الكوميديا
من الأغلاط لم تردع الحكومة البريطانية عن وضع يدها بيد بوش وعصبته
الشرسة من المحافظين الجدد.
معظم المحللين العراقيين
بمقدورهم تقديم تفسيرات كثيرة للهفة بوش للتخلص من صدام حسين. بعضهم يقول
إنها قضية ثأر شخصي لمحاول الاغتيال المزعومة لأبيه بوش الأول دبرها
الزعيم العراقي. وآخرون يقولون إن غزوة بوش مدفوعة بالرغبة في السيطرة
على احتياطات العراق النفطية الكبيرة وإعطاء عقود الإعمار المربحة
للمقربين من أعوان بوش. ويشير البعض إلى العقيدة المكنونة طويلاً عند
المحافظين الجدد بخصوص الدمقرطة ويرون هيمنتهم على الشرق الاوسط جزءاً من
استراتيجيتهم لبناء "نظام عالمي جديد". غير أن الساذجين منهم يعتقدون أن
هذه الحرب كانت جزءاً أساسياً من "الحرب على الإرهاب".
لكن ماذا كانت وجهة نظر
بلير؟ ما الذي جناه حين رمى بكل من على يسار الوسط إلى أقصى اليمين؟ إن
الوحيدين القادرين على تقديم إجابة هم رئيس الوزراء وربما أولئك الأكثر
قرباً منه. وكل ما بمقدورنا فعله نحن هو التخمين بأن بلير كان مستعداً
للمجازفة بكل شيء، بما في ذلك سمعة بريطانيا المعروف عنها الإنصاف و
التضحية بعلاقاتها في الشرق الأوسط والخليج ومكانتها في الإتحاد الأوربي
مقابل تعزيز علاقته مع الجانب الآخر من الأطلسي.
الموت والخراب
هناك من يؤمنون بضرورة
محاسبة بوش وبلير على خراب الديار الذي أحدثه في العراق. فمن ذا الذي كان
يظن أن حديثاً على غداء بين زعيمين غربيين في 2001 يمكن أن يقود إلى مقتل
100 ألف مدني عراقي كما تقول مجلة لانسيت الطبية الشهيرة.
من ذا الذي تخيل حدوث
تلك الانتهاكات البدنية والجنسية التي قام بها جنود أمريكيون في أبو
غريب، تلك الجثث المتفحمة وهي تسحب من تحت أنقاض البيوت المدمرة بفعل
ضربات صواريخ الحلفاء "الجراحية"، أو دموع 5500 يتيم عراقي يبكون آباءهم
الذي لن يروهم بعدها؟
من ذا الذي توقع حدوث ما
حدث في الفلوجة، مدينة الألف مسجد، التي سبق وخرج أهلها ضد الحكم الحديدي
لصدام حسين، والتي تحولت إلى حمأة للموت والخراب، التي تركت جثث أهلها
دون دفن في الشوارع لتصبح نهباً للقطط والكلاب الجائعة، التي ترك جرحاها
ينزفون حتى الموت فيما منع الصليب الأحمر من دخولها؟
من ذا الذي كان يظن
مجرد الظن أن جنوداً أمريكيين يقتلون بأعصاب باردة مجاهدين جرحى وتلتقط
عدسة كاميرا الفيديو أفعالهم، يقتلون مجاهدين مثل ذلك الرجل الذي كان
يتعلق بأهداب الحياة على أرض مسجد في الفلوجة والآخر الذي سقط بين مبنيين
حين أصابه رصاص جندي من المارينز ليتقدم آخر بكل فروسية ويجهز عليه؟
مايكل واير مدير مكتب
بغداد في مجلة تايم الذي كان ملحقاً بالجيش الأميركي خلال الهجمة على
الفلوجة يصف حال العراق اليوم بأنها "كارثة مطبقة".
يقول في حديث لإذاعة
نيويورك العامة: "إن مجرد التفكير في السبب الذي جعل الغرب يدخل العراق
يجعلني أصاب بالحيرة. ذلك أن أفضل مبرر يقدم لهذه الحرب هو أنها بشكل أو
بآخر على علاقة بالحرب على الإرهاب. غير أن ما أخشاه، بعد ما رأيته في
الفلوجة وفي كل العراق، إنه إذا كان هذا هو الإجراء الوقائي من الإرهاب
فإنه فاشل. إننا نروج أو نربي أو نسبب ظهور الإرهاب بوجودنا هناك."
ولا يرى واير سوى أمل
ضئيل في المستقبل القريب للعراق أيضاً. فحين سئل عن الآمال المعلقة على
الإنتخابات العراقية المقبلة قال: "حسناً، ليعلقوا قدر ما يريدون من
الآمال على هذه الإنتخابات. لا أرى ماهو النفع الذي ستقدمه لهم. أعني،
ولأقلها الآن، بمقدورك تحديد أي موعد تشاء لها، لنقل أنه 30 يناير.
بمقدورك إجراء انتخابات. وبالتأكيد ستبدو وكأنها انتخابات. لكن لن يكون
بمقدورك أن تتوقع منها غير الزيف."
محاكمات زائفة
قضية العراق كانت زيفاً
من البداية وحتى النهاية، فلنستعد لانتخابات زائفة لا تشارك فيها قطاعات
كبيرة من البلاد ولمسلسل من المحاكمات الهزلية لأفراد من نظام صدام
السابق تتوج بالمحاكمة الاستعراضية الأكبر لصدام نفسه الذي أمضى حتى الآن
أكثر من عام دون أن يتمكن من الاتصال بمحامين.
وإليكم واحدة من أكثر
النتائج مأساوية في كل هذا. يقول واير إن ما بدأ كنكتة تقول بأن صدام
حسين إذا ما شارك في هذا السباق الانتخابي فقد يفوز، آخذ الآن بالتحول
سريعاً إلى شيء واقعي.
بوش وبلير، اللذان كانا
أبعد ما يكون عن نشر الحرية والديمقراطية، قد فرضا الخوف والعسر وغياب
الأمن والقانون العرفي على الشعب العراقي. بالتأكيد إن هناك قضية مطلوب
منهما تقديم الإجابات عنها، إن لم يكن هنا في الحياة الدنيا، ففي الآخرة
أمام السلطان الأعلى الذي يزعم كلاهما محبته وتقديسه.
|