أوائل القرن الثامن
عشر، بدأ المهندسون الفرنسيون مشروعاً لبناء حاجز ضخم قرب القاهرة في
المكان الذي يتفرع فيه النيل إلى فرعين. وبعد عامين من العمل على هذا
السد توقف المشروع ليعاد إحياء الفكرة مرة أخرى في 1843. غير أن
المشروع كان يعاني المشاكل منذ بدايته. فنتيجة التسرع أصبحت أساسات
الحاجز غير مستقرة. وتعين على المهندسين البريطانيين عام 1890 العمل
على تعزيز السد إذا ما أريد له أن يكون مفيداً لمصر. وكان سعيد باشا
خديوي مصر حينها مهتماً جداً بالإسراع في المشروع، كما يقال، لأنه
أعتقد أنه بفتح مصبات السد سيكون قادراً على جرف أي جيش يغزو مصر من
جهة البحر المتوسط.
وكانت حواجز مشابهة
تتراوح في ارتفاعها بين 13 و18 قدماً قد بنيت في وقت سابق عند زفتا
وإسنا وأسيوط. وعند كل منها كانت قنوات ضخمة تنقل المياه من فتحات السد
إلى قنوات ضخمة تنقل المياه بدورها إلى قنوات فرعية أخرى أصغر وأكثر
إلى الأرياف المجاورة. ولأن هذه الأقنية كانت تنقل كميات ضخمة أصبح
ضرورياً الاحتفاظ بمخزونات مائية كبيرة طوال العام في خزانات انشئت على
امتداد النهر. وهذا الإمداد المائي الدائم زاد الانتاج الزراعي بشكل
ضخم. وهو ما جعل اهتمام المهندسين يتحول إلى إمكانية توفير إمدادات
مائية مشابهة في مصر العليا.
أعدت الحكومة دراسة
لوضع تقدير لكمية الماء المطلوبة لري كامل الأراضي الصالحة للزراعة في
مصر العليا والدنيا خلال موسم انخفاض نهر النيل. وخلصت الدراسة إلى أن
المطلوب هو 27 مليون متر مكعب يومياً طوال خمسة شهور من كل عام، إضافة
إلى بناء سد يحتجز وراءه مخزوناً مائياً لايقل عن 4 مليارات متر مكعب!
ومن بين كل المواقع الممكنة لبناء هذا السد، كان الخيار الأفضل هو
مدينة أسوان في الموقع الذي يمر فيه النيل فوق أرض صخرية منحدرة تدعى
المصب الأول ويستطيع عندها أن يحتجز وراءه 2.5 مليار متر مكعب وهو
الموقع الذي اعتمد أخيراً. وما إن اتخذ القرار بهذا الشأن حتى أثير لغط
كبير من جانب علماء الآثار ضد المشروع المقترح لأن البحيرة التي ستتشكل
خلف السد ستغرق معابد فرعونية طوال خمسة شهور من كل سنة. وبعد مداولات
متأنية تقرر تخفيض منسوبات المياه المقترحة بداية بمعدل 25 قدماً وهذا
يعني تخفيض حجم المخزون المائي إلى مليار متر مكعب فقط.
حين بدأ المهندسون
عملهم كانت المهمة أمامهم عملاقة بكل معنى الكلمة. التلال حولهم مكونة
من الغرانيت الأحمر وتنتشر فيها مقالع قديمة قطعت منها الحجارة لبناء
الأهرامات الكبرى. وتلك كانت النقطة الوحيدة في صالح بناء السد في تلك
المنطقة حيث تتوفر للمهندسين موارد وفيرة من الصخور. كان النيل أثناء
عمليات البناء يتوزع على خمس أقنية في موقع العمل يتدفق فيها بسرعة
كبيرة جداً. وبين هذه القنوات كان على المهندسين بناء سد بطول ميل
وارتفاع 67 قدماً فوق مستوى سطح النهر وفي بعض المناطق يبلغ ارتفاعه
فوق أساساته 130 قدم.
بعد إجراء الحسابات
الأولية، كانت المهمة التالية للمهندسين هي ترتيب إدارة العمليات
الميدانية. وبدأت في مارس 1898 خلية النحل لم تشهد مصر مثيلاً لها منذ
الأزمان الغابرة حين كان المصريون الفراعنة يقطعون الحجارة من الموقع
لبناء الأهرامات. استغرقت التحضيرات الميدانية قرابة عام قبل أن يبدأ
العمل في بناء السد نفسه. ولهذا الغرض استؤجرت خدمات فريق من المهندسين
يترأسهم البريطانيان وليام ولكوكس ومردوك مكدونالد، الخبيران في بناء
السدود، وأقيمت مواقع للسكن والمكاتب للعمال ومدت السكك الحديدية لتنقل
مستلزمات العمل إلى الموقع وجند آلاف العمال ومئات البنائين من
إيطاليا. وأخيراً تم تجهيز كل ما هو مطلوب للشروع في العمل.
وللبداية كان على
المهندسين العثور على أساس صخري صلب في قاع الوادي يمكن أن يستند عليه
السد. وفيما كان العمل على الجزر بين القنوات الخمس سهلاً نسبياً، فقد
كانت المشكلة هي كيفية حفر قيعان هذه القنوات التي يتدفق فيها الماء
سريعاً. والمشكلة الأخرى هي ضرورة التوقف عن العمل سبعة شهور في كل سنة
هي فترة فيضان النهر.
بعد الكثير من
المداولات، تقرر بناء سدود مؤقتة أسفل موقع السد لضخ الماء وكشف الأرض
حيث سيبنى السد. وباستخدام صخور ضخمة في نهاية القنوات استطاع
المهندسون إغلاق أربع منها أسفل النهر خلال موسم الفيضان. وحالما يصبح
البدء في العمل ممكناً بعد الفيضان يعاد بناء السدود المؤقتة باستخدام
أكياس الخيش المملوءة برمل الغرانيت لسد القنوات. كان العمل يتقدم
بسرعة وحين تسد القنوات الأربع يبدأ ضخ الماء بشكل يفرغها من الماء
بسرعة.
حالما تنكشف قيعان
القنوات يبدأ العمال بإزالة كل الحجارة والصخور غير الثابتة على القاع
ثم يتم الحفر أكثر من القاع إلى أن تنكشف طبقة صخرية قوية لتكون أساساً
للسد. ومع التقدم في العمل كان المزيد من السدود المؤقتة تقام في
القنوات الأخرى. مرة أخرى أوقف فيضان النيل العمل لكن ليس قبل ترحيل
800 ألف ذراع مكعب من المواد وإرساء أسس السد في كل القنوات ما عدا
القناة الغربية منها.
بحلول عام 1901، كان
العمل في بناء السد يتقدم على مدار اليوم بأقصى سرعة ممكنة. ورغم
الحرارة الشديدة، كان العمال يواصلون العمل بدأب في تمهيد الأرض ورصف
الحجارة على الجانب الآخر بكتل مربعة ضخمة باستخدام الإسمنت. غير أن
السد لم يكن بنية سهلة مثل كتل متماسكة جدارية. إذ كان يتعين ترك 180
بوابة في السد عرض كل منها 6 أقدام و6 بوصات وارتفاع 140 منها 23 قدماً
والأربعين الأخرى 12 قدماً و6 بوصات. وهذا يعني أن جسم السد يجب أن
يكون أصماً حتى ما فوق قاع النهر فقط، بينما تخترقه فتحات ضخمة على مدى
23 قدماً أخرى قبل أن يعود أصماً من جديد فيما تبقى من ارتفاعه، هذا
إضافة إلى ترك فراغ داخل هيكل الفتحات لتحريك البوابات فيها. وتقدم
العمل بسرعة كبيرة جعلت السد يصل ارتفاع 50 قدماً فوق قاع النهر
تقريباً مع اقتراب الفيضان التالي.
وتواصل العمل بسلاسة
في 1902 إلى أن انتهى في مايو من ذلك العام. وجرى افتتاح السد رسمياً
في ديسمبر التالي حينما فتح خديوي مصر عباس حلمي باشا خمساً من بوابات
السد لتبدأ المياه بالتدفق في النهر. تجاوزت تكلفة السد 5 ملايين جنيه
واستهلكت أكثر من مليون طن من الغرانيت و75 ألف طن من الإسمنت و6400 طن
من الفولاذ. واعتبرت فتحات السد حينها إنجازاً هندسياً كبيراً لأن كلاً
منها كان يمكن التحكم بها منفردة وبسهولة رغم أن الأجزاء السفلية منها
كانت تتحمل ضغطاً يبلغ 200 طن! في موسم فيضان النيل تتدفق أكثر من 15
ألف متر مكعب من الماء عبر فتحات السد في الثانية الواحدة. وكانت هذه
الفتحات تترك مفتوحة في موسم الفيضان ليتمكن الماء من نقل ما فيه من
طمي خصب إلى الأراضي الخفيفة. ومع تراجع الفيضان تغلق البوابات لتخزين
الكمية المطلوبة من الماء لاستخدامها في وقت لاحق.
رغم ضخامة العمل، أصبح
من الضروري بعد فترة قصيرة إجراء تحسينات عليه. فتيار الماء القوي حين
خروجه من الفتحات بدأ بحفر قاع النهر مشكلاً حفرة عميقة قرب قاعدة
السد. وخشي المهندسون من أن هذا قد يزعزع استقرار الأساسات وتقرر
سريعاً ترحيل كل الصخور غير المستقرة أمام السد وأنزلت صفائح ضخمة من
الغرانيت في المكان لحماية قاع النهر بحيث تنزلق عليها المياه الخارجة
من الفتحات لمسافة 200 متر بعيداً عن جسم السد. وهذا العمل تطلب 350
ألف طن من الأعمال الحجرية بتكلفة بلغت 350 ألف جنيه تقريباً.
ورغم اكتمال تعبئة
الخزان خلف السد عام 1902 والشروع في توزيع المياه المخزنة فيه على
المناطق المحيطة نهاية عام 1903، أصبح من الواضح سريعاً للمهندسين
البريطانيين العاملين في السد بأن المخزون المائي ليس كافياً للوفاء
بحاجة الزراعة في دلتا النيل وبرزت الحاجة ملحة لزيادة ارتفاع السد.
في عام 1907، كلف
المهندس بنيامين بيكر، أحد العاملين في مشروع السد بتصميم مشروع زيادة
الخزان لرفع طاقته التخزينية إلى 2.25 مليار متر مكعب. وكانت زيادة
ارتفاع السد لمضاعفة مخزونه المائي وتعزيز بنيته من أكثر المسائل
تعقيداً التي استطاع المهندسون حلها. |