الزهراوي، الطبيب
والجراح والمخترع
كان الزهراوي الإنسان
الذي قدر له أن يغير علم الطب. في مدينة الزهراء، أصبح الطبيب الشخصي
للحكم الثاني، أو كما كان يعرف بلقبه الآخر، المنتصر. جهوده الكبيرة التي
بذلها لتطوير الطب جعلته أشهر جراحي زمانه. بل إن معاصريه من أطباء
أوروبا ومن تلاهم رأوا فيه المرجعية العلمية الأكبر حتى من جالينوس _
الجراح الأسطوري القديم. وحقيقة هذا بادية في أن معظم الكتب الجراحية في
العصور الوسطى كانت تشير إلى الزهراوي أكثر من جالينوس.
أول من ذكر الزهراوي في
أعماله كان المفكر الأندلسي المسلم أبو محمد بن حزم (993- 1064) الذي
وصفه بأنه أكثر أطباء وجراحي الأندلس اقتداراً. أما أول الأعمال المعروفة
لتوثيق سيرة الزهراوي كاملة فأتت في كتاب "جذوة المقتبس" للحميدي. وهذه
السيرة التي وضعها كاتبها بعد حوالي 60 عاماً من وفاة الزهراوي، نجحت في
تحديد نسب الزهراوي ووصف سنوات حياته الأولى لكن بدقة ليست واضحة.
كتاب "التصريف": بيضة
الديك في البحث الطبي
كتاب واحد فقط يعرف
للزهراوي. غير أن هذا الكتاب الوحيد لم يمثل الموسوعة الطبية الأعظم في
زمنه فحسب، بل يوفر لنا أيضاً أساساً جيداً لاستنباط المعلومات عن منهجه
العلمي وإلى حد ما عن حياته. وسمى الزهراوي كتابه هذا "التصريف لمن عجز
عن التأليف".
في "التصريف" يضع
الزهراوي خلاصة بحوثه وعمله في الطب طوال حياته وخصوصاً في الجراحة. هذه
الموسوعة الضخمة مجموعة في 30 مجلداً وضعها الزهراوي على مدى خمسين عاماً
تقريباً من عمله في الطب. وفيه يقدم أوصافاً مفصلة لعلوم طب الأسنان
والصيدلة والجراحة.
من المواضيع المتكررة في
"التصريف" نذكر الحمل والولادة وطب الأطفال وتشريح وبنية جسم الإنسان
والجراحة وطب العظام والعيون وعلم الأدوية، بل وحتى التغذية. ويقدم
الزهراوي بالتفصيل الأعراض المبكرة لكل مرض ثم ينتقل لتعداد أسبابه
المحتملة قبل أن ينهي بذكر طريقة العلاج لهذا المرض. وفي سياق ذلك، يبحث
ويوضح في طريقة تحضير الأدوية المطلوبة وإعطائها للمريض وأدوات العلاج
اللازمة. ويتضمن ذلك الأدوية المقيئة وأدوية القلب والمعدة والمسهلات
وأمراض الشيخوخة والطب التجميلي والطب الغذائي و خواص المواد والأوزان
والمقاييس والبدائل الدوائية.
ونتيجة للخبرة الوافية
والمعرفة المبتكرة المتضمنات فيه، أصبح "التصريف" مرجعاً شديد الأهمية في
العديد من العلوم والأعمال ذات الصلة بالطب. وعلى سبيل المثال، أثبت
الكتاب أهميته الشديدة في طب الطفولة والأمومة بما فيه من نصوص حول الحمل
والولادة وصحة الطفل ومهنة القبالة.
كما أن طبيعة كتابة
الزهراوي ومناهجه المتبعة في التعليم والعلاج توفر لنا إمكانية استقاء
القليل عن شخصيته. إذ يبدو لنا رجلاً ذا ميول إنسانية جداً. وهذا ليس
نتيجة لمهنته فحسب، فهو لم يكن يرعى مرضاه فقط، بل ومريديه أيضاً. كان
يستمتع بتقديم علمه لتلاميذه ومناقشتهم بالمسائل الطبيعية، وهو الذي كان
يدعوهم في كتابه بأبنائه. علمهم الزهراوي أن يحترموا مرضاهم بغض النظر عن
مكانتهم الاجتماعية وأن يطوروا علاقة جيدة بين الطبيب وكل مريض من مرضاه.
كما علمهم أيضاً أهمية تشخيص كل مشكلة طبية باعتبارها حالة فريدة، آخذين
بعين الاعتبار كل العوامل التي ربما تكون ذات صلة بها. وفي المقابل علمهم
أيضاً ألا يحفظوا الكتاب عن ظهر قلب ويطبقوا العلاجات الواردة فيه قبل أن
ينظروا في أوجه اختلاف كل حالة عن المثال الشائع الوارد فيه عنها. وربما
كان أكثر ما يصف طبيعته الشخصية ونزاهته بقوة هو إصراره على المعايير
الأخلاقية ومعارضته لأي علاج غير منصف مدفوع بأسباب شخصية مثل المكاسب
المادية.
إنجازات جراحية
المجلد الأكبر في
"التصريف" وهو الثلاثون والأخير مخصص بالكامل للجراحة تحت عنوان "في
الجراحة"، وهو المؤلف العلمي الجراحي الأول المعروف لنا كما أنه أفضل
مرجع حول هذا العلم في العصور الوسطى.
يتطرق "في الجراحة" إلى
مجموعة واسعة من القضايا الجراحية التي ابتكر العديد من العلاجات فيها
ولا تزال تستخدم حتى يومنا هذا. على سبيل المثال، كان الزهراوي أول من
طور الجراحة التقليدية المتبعة حالياً لعلاج سرطان الثدي واستئصال الغدد
الدرقية واستخراج حصى المثانة. وإلى جانب شروحه المستفيضة لهذه الجراحات،
يضمن الزهراوي كتابه رسوماته التوضيحية الدقيقة لتجنب أي احتمال للخلط.
كما يتضمن الكتاب حوالي 150 رسماً للأدوات الجراحية والحقن والقطارات
وغيرها. وهذه الرسومات التي توضح بالتفصيل أدوات جراحية كانت مستخدمة في
زمنه أو كان هو من ابتكرها، ظلت حاضرة بوضوح كبير في النصوص والمخطوطات
الطبية في أوروبا والعالم الإسلامي طوال قرون تالية.
بعض أكثر الأدوات
الجراحية التي ابتكرها الزهراوي شهرة هي تلك المستخدمة للفحص الداخلي
للأذن وأخرى لفحص الإحليل وأداة لانتزاع الأجسام الغريبة من الحنجرة. في
الفصل 190 من مجلد "في الجراحة" نصوص مفصلة عن محاسن ومساوئ العلاج بالكي
والأدوات المستخدمة فيه وعن تجبير العظام في الكسور البسيطة والمعقدة
والحجامة ونزع السهام من جسم المصاب وشتى أنواع الإبر والخيوط لخياطة
الجروح وعلاج الجروح بشكل عام. وهناك فصول مهمة تتحدث عن جراحة الأسنان
وصحة الفم. بعضها يصف بالتفصيل تحضير الجسور السنية لتثبيت الأضراس
وأدوات خفض اللسان أثناء الجراحة وغيرها من الإجراءات الجراحية التي
يعتبر الكتاب أول مرجع لها في تاريخ الطب. وتتضمن الإنجازات الأخرى التي
قام بها الزهراوي تحريم استئصال الساق من فوق الركبة والذراع من أعلى
المرفق نظراً لخطورة الحالة ووضع وصف دقيق لمرض الناعور وتفسير للشلل
الناتج عن إصابة في النخاع الشوكي أو العمود الفقري إضافة لأول شرح دقيق
مدعوم بالرسوم لولادة وضعية الحوض في علم القبالة بالاعتماد على تعزيز
قوة الطلق في المخاض ببعض الأدوات.
أول جراحة تجميلية
المثير للدهشة هو أن
الزهراوي غالباً ما يعتبر في أوساط الطب المعاصر مخترع الجراحة
التجميلية. وبالفعل، فقد أجرى الزهراوي عمليات جراحية يمكن تعريفها بكل
وضوح على أنها شكل من الجراحة التجميلية قبل حوالي ألف عام من الآن. وفي
كتابه "التصريف" يتحدث الزهراوي عن مجموعة كبيرة من الحلول والطرق
للعمليات التجميلية، بعضها لايزال يستخدم حتى اليوم من قبل أفضل جراحي
التجميل المعاصرين. على سبيل المثال، استخدم الزهراوي الحبر لتحديد
المسار الدقيق على الجلد للجرح قبل الشروع بالعملية وهو ممارسة شائعة
اليوم. وفي موضع آخر من "في الجراحة"، يقول الزهراوي في شرحه عملية تصحيح
ضخامة الثدي نتيجة زيادة حجم الجلد التي لا يمكن علاجها بالاستئصال الغدي
البسيط، يقول: افتح جرحين تكون حافتاهما متطابقتين، ثم استأصل الجلد
والنسيج الغدي بينهما وخيط حافتي مكان الاستئصال. وهذه الطريقة لاتزال
متبعة في بعض الحالات حالياً.
شهرة الزهراوي
بدأت أعمال الزهراوي
التي كانت ثمرة تكريس حياته كلها للطب باكتساب مكانتها العامة مع ترجمة
كتاب "التصريف". انتقلت شهرته إلى غرب أوروبا أول مرة بفضل ترجمات نصوصه
على يد جيرار دي كريمونا. وتبعتها ترجمات أخرى سريعاً مما زاد شهرة
"التصريف" حتى في عصر النهضة الأوروبية. طبع "في الجراحة" أول مرة في
البندقية عام 1471 ثم أعيد نشره في 1497 و1499. وفي القرن السادس عشر
بلغت شهرة الكتاب ذروتها لتطبعه عدة دور نشر أوروبية شهيرة. مقدمة طبعة
بييترو أرغالاتا عام 1531 تقول "بدون شك، كان الزهراوي أكبر الجراحين
قاطبة." عودة الاهتمام بالطب في عصر النهضة ساعدت في جعل "التصريف"
المرجع الطبي الأكثر شهرة. ومما ساهم في ذلك أيضاً بساطة الأسلوب القائم
على التقديم الواضح والتفكير المنطقي. الجراح الفرنسي غاي دو تشولياك في
كتاب "الجراحة العظيمة" الذي أنهاه عام 1363 ينقل عن "التصريف" أكثر من
200 مرة. كما ينقل جراح فرنسي شهير آخر هو جاك ديليشامب (1513- 1588) عن
"التصريف" في مناسبات كثيرة جداً بشكل يعزز مرجعية الزهراوي في الطب
وخصوصاً الجراحة طوال العصور الوسطى وحتى عصر النهضة.
مات الزهراوي ميتة طبيعية عام 1013 في مسقط رأسه الزهراء بعد عامين من
خرابها بفعل هجوم للبربر. وواضح من سيرة حياته وكتاباته أنه كرس طوال
حياته وكل عبقريته لتطوير الطب عموماً والجراحة خصوصاً. وإنجازاته الطبية
كان لها أثر عميق على هذا العلم وهو ما يمكن أن نرى نتائجها حتى يومنا
هذا.
|