كانت
الدول المصدرة للنفط هي التي أبقت الدولار عائماً في الآونة الأخيرة،
على الرغم من إعلانات مناقضة تناقض ذلك، صدرت بين حين وآخر. ففي الفترة
بين سبتمبر 2005 وأبريل 2006، تراجع ما تملكه اليابان من سندات الخزينة
الأمريكية – وهي صاحبة الحصة الأكبر في الخزينة - من 672 بليون إلى
639 بليون دولار، فيما زادت الصين، صاحبة الحصة الثانية، خصتها من 306
إلى 323 بليون دولار، ولكنها فعلت ذلك على مضض، فيما كان مسؤولوها
يطالبون بتنوع العملات. أما دول أوبك والمملكة المتحدة فقد رفعت حصتها
بصورة ضخمة من 66 إلى 99 بليون ومن 96 إلى 167 بليون دولار على
التوالي. وتعزى الزيادة البريطانية إلى خروج العرب من الأسواق
البريطانية.
وفي
ضوء هذه الأرقام الواضحة، تبدو إعلانات دول مجلس التعاون الخليجي بشان
تنوع العملات مجرد كلام. فنسبة التغيير البالغة 1% التي أعلنت عنها
الكويت حول ارتباط عملتها الشهر الماضي متواضعة للغاية، وقد سارعت بقية
دول المجلس مثل السعودية وعمان والبحرين إلى نفي أية نية في أن تحذو
حذو الكويت وتغيير الوضع الراهن. كما أن خطة المصرف المركزي للإمارات
العربية المتحدة لزيادة حصتها من اليورو من نسبة 2% الضئيلة إلى 10%
فقط من احتياطي العملات الإجمالي قد تم تأجيلها مراراً، ولم تنفذ حتى
الآن. وحيث أن إعلانها حول الموضوع جاء بعيد رفض الولايات المتحدة
السماح لموانئ دبي العالمية بإدارة موانئ أمريكية في أعقاب حصول الشركة
على ذلك الحق، فإن ذلك الإعلان قد لا يكون أكثر من مجرد تحذير بإجراء
انتقامي. أما وضع قطر التي تحتفظ بما يصل إلى40% من احتياطي عملاتها
باليورو وما يصل إلى 90% بالدولار تبدو الأشجع حتى الآن. ولكن يمكن
للمرء بصورة عامة أن يؤكد أن العلاقة الخاصة القائمة بين الولايات
المتحدة ودول الخليج ما تزال على متانتها. والأهم من ذلك استمرار الخطط
القاضية بربط عملة دول مجلس التعاون الخليجي الموحدة بالدولار الأمريكي
عام 2010. بل إن الجارة إيران التي تدافع بحرارة عن التنويع لصالح
اليورو والتي تعرف بمعاداتها للسياسة الخارجية الأمريكية، وقفت مؤخراً
ضد اقتراح هوجو شافيز الذي قدمه لقمة أوبك في كاركاس بتسعير النفط
باليورو، حيث أعلنت عوضاً عن ذلك أنها ستلتزم بتسعير النفط بالدولار
وذلك في مركزها النفطي الذي تنوي إقامته على جزيرة كيش.
إن 10%
فقط من إجمالي واردات دول مجلس التعاون الخليجي تأتي من الولايات
المتحدة فيما يأتي ثلثها من أوروبا وثلثها من آسيا. وفي الوقت نفسه فإن
ثلثي صادرات المنطقة من الطاقة تذهب إلى آسيا. وهكذا فإننا لو نظرنا
إلى الأمر من منظور الأهمية التجارية، فإن ربط العملة حصرياً يبدو غير
منطقي، ويمكن للمرء أن يتساءل ما إذا كان ارتباط دول مجلس التعاون
الخليجي بالدولار ليس اقتصادياً بطبيعته بل سياسي، حيث أن دول المجلس
تعتمد بشكل كبير على الولايات المتحدة في أمنها، وذلك في منطقة غير
مستقرة. وهناك بطبيعة الحال عدد من الأسباب الاقتصادية للتمسك
بالدولار، لكنها تختلف عن الأسباب التي يفترضها السلوك الاقتصادي
القويم. وأول تلك الأسباب هي أن الدولار قد يكون في وضع سيء، لكن وضع
بقية العملات لا يبدو أفضل بكثير. فالناتج المحلي الإجمالي لدول
الاتحاد الأوروبي مقارنة بعجوزات الميزانية يبدو على قدم المساواة مع
وضع الولايات المتحدة، بل إن اليابان مثلاً أعلى بكثير. والفرق الوحيد
هو أن ميزان التجارة الأجنبية في تلك الدول أفضل من الولايات المتحدة.
وحيث
أن الناتج المحلي الإجمالي وعدد سكان الاتحاد الأوروبي يمكن مقارنته
بالولايات المتحدة، بل قد يتفوق عليها، فإن الدولار يواجه منافسة
حقيقية للمرة الأولى في مجال المبادلات التجارية. ففي الماضي كانت
هشاشة الأسواق الخاصة بالعملات الصعبة مثل الين والفرنك السويسري
والمارك الألماني والذهب تحدد حرية الحركة للخروج من الارتباط بالدولار
بسبب انعدام البدائل الكبيرة المناسبة. إلا أنه، وإلى جانب القوة
السياسية والعسكرية المحدودة للاتحاد الأوروبي، فإن اليورو ما زال ذو
حجم غير كاف ليكون بديلاً – كما أن رسملة أسواق السندات والأسهم في
الاتحاد متأخرة كثيراً عن الأسواق الأمريكية. لذا يتوجب الانتظار
لمعرفة ما إذا كان اليورو سيتمكن من الوصول إلى مرتبة عملة احتياطية
دولية على قدم المساواة مع الدولار بحلول عام 2010 كما يتوقع روبرت
مندل الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد. وذلك يصح تماماً بالنسبة للصين –
فيما لو تمكنت من تجنب سقطة صعبة لاقتصادها المندفع أكثر من اللازم
وتطوير قوة سياسية وعسكرية تحل مشكلة الطاقة المتنامية لديها، وعندها
قد تغدو منافساً ثانياً للدولار في غضون 10-20 سنة. إلا أن اليوان
الصيني ما زال حتى الآن غير قابل للتحويل كلياً، كما أن أسواق رأس
المال الصينية الفتية ما زالت صغيرة جداً بالمقارنة مع مثيلاتها
الأمريكية.
وهكذا،
فإن الدولار ليس سائلاً بسبب كثرة الموجود منه. فالدول التي تريد
التنويع لا تجد أصولاً كافية لذلك بالعملات الأخرى، كما أن ثقل
الالتزامات التعاقدية القائمة والتعاملات التجارية المحددة بالدولار
تشكل عامل جذب للدولار، وذلك لأن الدولار مستقل تماماً عن الاقتصاد
الأمريكي والعجز الهائل الذي يعاني منه.
ولإدراك ما يحدث للدولار، علينا أن ننظر إليه كعملة عالمية تغذي
التجارة في العالم، وليس كعملة وطنية منعزلة. فمنذ بداية العمل بها في
القرن السادس عشر، كان للرأسمالية قوة مسيطرة قامت بعمل المصرف المركزي
للعالم حيث كانت تزوده بالسيولة التي يحتاجها. في البداية كان هناك
الإسبان، وبعدئذ الهولنديون ثم البريطانيون بعد أن تخلصوا من نابليون.
وقد بدأت وفاة الجنيه البريطاني مع الحرب العالمية الأولى، وفي أعقاب
الحرب العالمية الثانية أصبح للدولار اليد الطولى ضمن إطار نظام بريتون
وودز. وفي ذلك الوقت كانت الولايات المتحدة أكبر منتج للنفط في العالم
بما لا يقارن، وكانت تنتج أكثر من 50% من الإنتاج الصناعي العالمي.
وبعيداً عن القوة العسكرية لأمريكا كقوة عظمى، فإن الدولار كان مدعوماً
بفائض الحساب الجاري الأمريكي وبالذهب. أما اليوم فلم يبقى غير القوة
العسكرية. فمنذ عام 1971 كانت الولايات المتحدة تدفع قيمة وراداتها
ورقاً مطبوعاً دون أن تحتاج إلى تصدير البضائع وكسب عملات أجنبية أو
ذهب لسداد ما يترتب عليها. وذلك امتياز لم تحصل عليه أي دولة أخرى.
إلا أن
القوة الهائلة لديون الدولار تغذي اقتصاد العالم، والجميع يبدون سعداء
بذلك. ولا شك أن أسواق الإسكان والاستهلاك الأمريكية تنتفع من ذلك، لكن
اليابانيين يحبون ذلك – فالتجارة بالين قد أمكنتهم من تحقيق الاستقرار
للنظام المالي المهتز عبر سياسة سعر فائدة يساوي الصفر، وبدون تضخم.
أما الصين وجنوب شرق آسيا فإنها لم تطور بعد بدائل محلية لعمليات
التصنيع القائمة فيها والموجهة للتصدير، فيما يبدو الأوربيون قانعين
بمتابعة الولايات المتحدة جغرافياً واقتصادياً.
وهكذا
ومع عدم وجود بدائل واضح في الأفق، فإن السلامة المالية للدول والعملات
الأخرى تعتمد بشكل كثيف على نظام بونزي للدولار الأمريكي. فإذا تراجع
الدولار، تراجعت معه، أي أنها في مأزق يماثل مأزق السجناء، حيث يخاف
الجميع من القيام بالخطوة الأولى. فأول من سيقوم بهجران الدولار قد
يتسبب بسلسلة إجراءات مماثلة قد يكون لها تأثير عكسي عليهم جميعاً.
ولذا فإن وفاة الدولار قد تستغرق وقتاً أطول بقليل مما يتوقعه المنطق،
لأن الجميع يحاولون تفادي عواقب لا تحظى بالشعبية. إلا أن ذلك أمر لا
بد منه، وهو ما يوجب على دول مجلس التعاون الخليجي أن تفكر بالتنوع نحو
عملات أخرى ونحو الذهب في وقت أقرب، لا أبعد.
|