لم تكد
الولايات المتحدة وأوروبا تصدق سعدها لتبدأ دون تضييع أي وقت لتبدأ
بممارسة الضغوط على دول أوروبا الشرقية التي كانت ثقافياً واقتصادياً
وسياسياً أعضاء في الكتلة السوفييتية. وسرعان ما استوعبت العديد من هذه
الدول في الاتحاد الأوروبي أو الناتو.
فجأة
تم القضاء على الخصم التقليدي للولايات المتحدة نهائياً بدون إطلاق
رصاصة واحدة. وهكذا أصبحت أمريكا- أرض الحرية والشجاعة ومأوى حقوق
الإنسان والحريات المدنية- القوة العظمى الوحيدة في العالم. أما أولئك
المتخوفون من قيامة نووية فقد استراحت أعصابهم لأول مرة منذ عقود.
وأصبح السلام في الأرض حقيقة يمكن إدراكها.
بعدها
بسبعة عشر عاماً هاهي روسيا مرة أخرى تقف من جديد بقوة. الخزائن
الروسية تفيض بإيرادات النفط والغاز وطبقتها الاقتصادية ذات النفوذ
السياسية جردت من معظم قوتها أما رئيسها فلاديمير بوتين الذي تربى في
أوساط الكيه جي بي السابقة فيحظى باحترام عام لدى شعبه.
لم تعد
روسيا تشبه ماضيها حينما كانت سيدة الحقبة السوفييتية القمعية. وكل شيء
بدا وكأنه يسير على ما يرام لكن صدمة أخرى كانت تنتظرها.
أمريكا
التي كان ينظر إليها سابقاً على أنها شرطي حميد ومرحب به للعالم كشرت
عن أنيابها لتجعل روسيا وحلفاءها يتوجسون شراً.
كان
تفكك الاتحاد السوفييتي رسمياً في 1991 فرصة كبيرة للولايات المتحدة
اغتنمها بعد عشر سنين الرئيس جورج بوش وسبطه من المحافظين الجدد
العازمين على إبقاء أمريكا قوة عالمية وحيدة مهيمنة على الأرض والبحار
والسماء والفضاء. لن يسمح لقوة مثل الاتحاد السوفييتي أن تعود وتظهر
على الأرض.
غير أن
الولايات المتحدة كانت أولاً بحاجة لتستعرض عضلاتها وتري العالم من هو
صاحب اليد الأعلى. ولهذا كانت بحاجة للعثور على عدو. وذلك العدو
المرتقب أطل برأسه في 11 سبتمبر 2001 حينما هاجم 19 متشدداً أمريكا
وعلى ترابها. وهكذا انطلقت "الحرب على الإرهاب."
عجز
روسيا الجديد هذا كشف عن نفسه بقوة حينما غزت الولايات المتحدة
أفغانستان، تلك البلاد التي غادرها السوفييت سابقاً هاربين، وبعدها غزت
الولايات المتحدة العراق ضد مصالح ورغبة روسيا. وتبعاً لما تذكره
دراسات معلنة للمحافظين الجدد فإن الدور آت على وريا وإيران بعدهما.
في
الوقت نفسه، لوت الولايات المتحدة ذراع روسيا لتسمح لها بإقامة قواعد
عسكرية في منطقة قزوين، تلك المنطقة التي كانت تقليدياً منطقة نفوذ
لروسيا كما أرسلت واشنطن سماسرتها ومحرضيها إلى حلفاء روسيا التقليديين
مثل أوكرانيا وروسيا البيضاء وجورجيا لدعم الحركات الليبرالية الموالية
للغرب.
ويتهم
المسؤولون الروس واشنطن بإثارة ما تسمى "الثورات المخملية" التي حدثت
في هذه الدول علناً لزعزعة النفوذ الروسي.
الشتاء
الماضي أغلقت روسيا حنفيات الغاز عن أوكرانيا التي انتخبت لنفسها
زعيماً موالياً للغرب وذلك حينما رفعت سعر الغاز الروسي من 50 إلى 230
دولاراً أمريكياً. وقالت كييف إن زيادة السعر إلى خمسة أضعافه كان
بدوافع سياسية وغير منصف، فيما زعمت موسكو أن الخيارات السياسية لكييف
تعني ضمناً إنهاء مساعدات الطاقة لها. وبمعنى لا يمكن لأوكرانيا التلذذ
بالكعكة الغربية مع مواصلة التنعم بالغاز الروسي الرخيص.
أغلقت
موسكو الحنفية لفترة محدودة، وحينما جفت إمدادات الطاقة الأوروبية،
اتهمت موسكو كييف بسرقة الغاز الذي يضخ لدول الاتحاد الأوروبي. وبفعل
ضغوط أوروبية وأمريكية ثقيلة تم التوصل إلى حل وسط.
ورداً
على ذلك تحاول الولايات المتحدة وبعض حليفاتها الأوروبيات منع روسيا من
الاستحواذ على شركات النفط والغاز الروسية كما تضغط على عمالقة قطاع
الطاقة لإعادة رسم مسارات أنابيب النقل لتمر في دول موالية للغرب
وتتجنب الأراضي الروسية.
هذا
الانشقاق الأوكراني رأت فيه روسيا صفعة قوية لها خصوصاً وأن الناتو آخذ
الآن في الزحف نحو الأبواب الروسية الخلفية. ولا بد أن هذه الخطوات قد
دفعت روسيا نحو مزيد من العسكرة والتسليح.
ونحن
نتذكر رد فعل بوتين حين انسحب بوش بقرار منفرد من اتفاقية الحد من
الصواريخ البالستية في بدايات رئاسته وتعهد ببناء درع صاروخي يحمي
الولايات المتحدة وحليفاتها المقربات. ورداً على ذلك، تعهد بوتين بأن
تعمل روسيا على "تعزيز" قواتها النووية دون الاكتراث بالمعاهدات
السارية وذلك بوضع "حمولات برؤوس حربية متعددة على صواريخنا."
ظاهرياً، تبدو العلاقات الروسية الأمريكية ودية غير أن روسيا كانت تعمل
جاهدة لإخراج القواعد العسكرية الأمريكية من أوزبكستان وقرغيزستان
ويحاول تعزيز موقع الحكومة السورية والسلطة الفلسطينية بزعامة حماس.
عقب
فوز حماس الانتخابي في يناير الماضي كانت روسيا بين أوائل من وجهوا
الدعوة لقادة حماس لزيارة موسكو ولهذا اتهمها وزير إسرائيلي بأنها
"تطعن إسرائيل في الظهر. إني أتساءل ما الذي سيقوله السيد بوتين لو
أننا دعونا الشيشانيين إلى هنا وتحدثنا معهم."
ولتعزيز نفوذها العالمي، تعمل روسيا على توسيع علاقاتها بطهران وبكين
وتشير إلى الاثنتين بأنهما "شريكان استراتيجيان."
وقد
عملت روسيا والصين على إفشال المحاولات التي قادتها الولايات المتحدة
لعرض الملف النووي الإيراني على مجلس الأمن الدولي تحت البند السابع
كما وقعت الدولتان اتفاقيات تغطي الاقتصاد والتجارة والطاقة مع إيران.
وهذه الخطوات لم تترك أمام واشنطن من خيار آخر سوى أن تواكب على مضض
المبادرة الدبلوماسية للاتحاد الأوروبي الهادفة لتفادي مواجهة خطرة بين
الجانبين.
بنجاح
خرافي استطاعت الصين وروسيا أن تحسما نزاعاتهما الحدودية وأخذت روسيا
ترحب بالاستثمارات والعمالة الصينية. وتوسع هذا التعاون ليشمل مناورات
عسكرية مشتركة.
وتذكر
صحيفة غارديان أن "روسيا والصين ستجريان مشاورات أمنية دورية وهو مستوى
من العلاقات لم يسبق لصين أن أقامته مع أي دولة من قبل." ويقال إن
روسيا تساعد الصين بشكل موسع لتنفيذ خططها الرامية إلى إرسال إنسان
للفضاء، وهي خطوة تجدها وكالة ناسا تهديداً لأن أي تحسن على المحركات
الصاروخية الصينية يمكن أن يؤدي لتعزيز قدرات الصواريخ النووية.
كما أن
روسيا اغتنمت العلاقات الأمريكية الفنزويلية المتوترة من أجل لتبيع
لفنزويلا بزعامة هوغو تشافيز البنادق الحربية الروسية أيه كيه 103 فيما
يقال إن تشافيز يريد شراء مقاتلات سوخوي الروسية لاستبدال مقاتلات
بلاده الحالية القديمة أمريكية الصنع. وتقل دراسة أعدها معهد استوكهولم
الدولي لدراسات السلام إن روسيا كانت أكبر دولة مصدرة للسلاح في الفترة
بين 2000 و2004 تليها الولايات المتحدة ثم فرنسا.
لا ريب
في أن بوتين يدرك بأن أن الأيام الخوالي للإمبراطورية السوفييتية لن
تعود أبداً وأن السبيل الوحيد للحصول على مزيد من القوة هي التحالف مع
الدول الأخرى ذات التوجهات المشابهة لتشكيل تحالف قوي يواجه الولايات
المتحدة وما يسمى "تحلف الراغبين" الذي يسير وراءها.
ولتحقيق هذا الهدف يسعى بوتين إلى تعزيز تحالفاته مع البرازيل والهند
والصين وجنوب إفريقيا على أمل أن تتمكن هذه الكتلة الناشئة من الثبات
اقتصادياً وعسكرياً.
ولهذا
فهي ليست بالمفاجأة أن واشنطن تسعى جاهدة إلى إعادة البرازيل والهند
إلى جانبها عبر توثيق التعاون الاقتصادي وأيضاً، في حالة الهند، تقديم
تقنية نووية لأغراض مدنية. البرازيل والهند تسعيان للحصول على مقاعد
دائمة في مجلس الأمن الدولي ولا تستطيعان لذلك إثارة غضب روسيا أو
الولايات المتحدة اللتان تتمتعان بحق الفيتو.
وتأمل
روسيا في اجتماع قمة الثماني المخطط له في أواسط يوليو الحالي أن توقع
اتفاق مبادئ يدعم عضويتها في منظمة التجارة العالمية. ولا تزال
الولايات المتحدة حالياً الدولة الوحيدة بين الدول الأكثر تصنيعاً التي
لم توافق بعد على دخول موسكو للمنظمة والتي تواصل رفضها بعناد وتبرر
ذلك بأنه نتيجة قضايا حقوق الإنسان والقوانين الروسية الخاصة
بالمستثمرين الأجانب. والواقع هو أن هذا الموقف الأمريكي ناجم على
الأغلب عن عدم تغيير روسيا لموقفها إزاء البرنامج النووي الإيراني.
وإذا ما قررت روسيا أن ترمي بإيران للرفيق الذئب فإن أبواب منظمة
التجارة العالمية من شبه المؤكد أن تفتح على مصراعيها.
الروس
أنفسهم منقسمون بخصوص نوع العلاقة التي يريدونها لبلادهم مع الولايات
المتحدة. فالكثيرون منهم قد أحسوا بمشاعر مستجدة من الوطنية والعزة بعد
تدهور معنوياتهم عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، وآخرون يدينون سيطرة
بوتين على الإعلام وسياسات إعادة التأميم وحكمه السلطوي.
أياً كان الذي يخبئه المستقبل، هناك شيء واحد مؤكد. إذا
ما نظر بوش في عيني بوتين اليوم فسيرى زعيماً قوياً عازماً على اكتساب
الاحترام لأمته وتوفير الأمن لها حتى لو تطلب ذلك إيقاظ الدب الروسي من
سبات شتوي دام 17 عاماً. |