ويقول
الحسن بن طلال (ولي عهد المملكة الأردنية السابق والباحث البارز) في
كتابه "المسيحية في العالم العربي" (1994) في الباب السابع مؤكداً "كان
من الوارد جداً ألا تنجو الكنيسة المارونية من عودة الاحتلال البيزنطي
لسوريا بين القرنين العاشر والحادي عشر لو كانت بيزنطة قد نجحت في
احتلال كل الأراضي السورية دون أن تتبقى أجزاء تحت الحكم الإسلامي
والتي وجدت الجاليات المسيحية المنشقة عن الكنيسة البيزنطية ملاذاً لها
من الاضطهاد البيزنطي."
آمل
بعد كل هذا أن نضع نهاية لخرافة أن الفينيقيين هم أسلاف الموارنة. لقد
عاش الفينيقيون بشكل أساسي على سواحل سوريا ولبنان. وإن أراد البعض
اللجاجة في إثارة هذا الموضوع، فإن من الواضح أن المتحدرين من هؤلاء
الفينيقيين إنما هم سكان السواحل اليوم، وهم في معظمهم من السنة. وعلى
كل حال، فقد كتب المؤرخ الإغريقي هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد
قائلاً إن الفينيقيين أنفسهم هم قبائل عربية كانت تسكن الجزيرة العربية
على سواحل البحر الأحمر.
يتحدث
د. فارس في مقاله عن "أعمال إبادة للأقباط في مصر." وهذه تهمة خطيرة
وغير صحيحة. مصطلح أعمال إبادة يعني قتلاً منظماً ومنهجياً لطائفة ما
وعادة ما يكون بأوامر من الحكومة. ربما تكون هناك بعض المصادمات التي
حدثت، غير أني لم أقع بعد على أي وثيقة تاريخية تتحدث عن تعرض الأقباط
أو أي مجموعة عربية مسيحية أخرى لأعمال إبادة. (المذبحة الوحيدة التي
سجلها التاريخ ضد المسيحيين حدثت في 1860 في جبل لبنان، وحتى سبب تلك
الحادثة الوحيدة كان اجتماعياً حين ثار الفلاحون الموارنة ضد سادتهم من
الإقطاع الدروز.)
أما
أعمال الإبادة فكانت من ابتكار الحكام المسيحيين في أوروبا، ومعظمها
كان ضد اليهود- وهي الأعمال التي لا يزال الفلسطينيون العرب من
المسلمين والمسيحيين يدفعون ثمناً باهظاً لها فيما يحاول الغرب المسيحي
التكفير عن آثامه على حساباهم. وعقدة الذنب الغربية هذه والتي تغذيها
باستمرار آلة الدعاية الصهيونية قد سببت صمت القبور هذا عن الفظائع
التي ترتكبها إسرائيل طوال 60 عاماً مضت.
وكثيراً ما نسمع أن أقباط مصر هم من نسل الفراعنة. غير أن ردحاً كبيراً
من الزمن قد مر بين اختفاء الفراعنة وظهور الإسلام في مصر. وهو ما يجعل
هذا الزعم مشكوكاً به، وفي أي حال فإن مسلمي مصر لهم كل الحق مثل غيرهم
في الزعم بأنهم نسل الفراعنة إن كان هذا الزعم أكثر من مجرد محاولة
تجزيء ثقافي لشيء واحد لا يتجزأ.
لقد
كانت الجزيرة العربية والأراضي التي من حولها أصل عدد من القبائل
والحضارات مثل الفينيقيين والآشوريين والكلدانيين والآراميين
والعبرانيين والكنعانيين والنبطيين وغيرهم. وكانت هذه القبائل تهاجر من
الصحاري العربية إلى الأراضي الخصيبة في شرق المتوسط ووادي النيل.
وكانت لغاتهم متشابهة جداً بحيث يمكن للمرء أن يسميها لهجات للغة
واحدة. وحتى اللغة العبرية المعاصرة تشترك مع العربية بأوجه شبه
ملحوظة. كانت لهذه القبائل ديانات مختلفة. في مرحلة معينة، كانت في
معظمها وثنية، وأخرى يهودية. ومع ظهور المسيحية تحولت بعضها إليها.
وبالتالي فإن المسيحية لم تكن أبداً مكوناً عرقياً وإنما دين اعتنقته
العديد من القبائل. والكثير من أعلام الشعراء العرب في الجاهلية كانوا
مسيحيين مثل امرؤ القيس وطرفة بن العبد.
اللغة
السائدة في البلدان العربية اليوم هي اللغة العربية، غير أنها في
الحقيقة ليست سوى لهجة قبيلة عربية كبرى هي قريش، والتي أصبحت لغة
القرآن أيضاً. وهذه اللغة انتشرت انتشار النار في الهشيم في سوريا
ولبنان والعراق وفلسطين وشمال مصر لأن الناس فيها كانت تتحدث مسبقاً
لهجات للغة نفسها.
إن
بلاد الشام (أو سوريا الكبرى إن شئتم) قد استعربت قبل وقت طويل من دخول
الإسلام لها. وأعود إلى كمال صليبي والباب الخامس من كتابه حيث يقول:
"كانت قبائل عربية كثيرة تسكن جبل لبنان قبل ظهور الإسلام..." ويقول في
الباب السابع: "إن الزعم بأن سكان سوريا قد استعربوا بعد فتح العرب
المسلمين لبلادهم هو زعم خاطئ تماماً، لأن سوريا في معظمها كانت مسكونة
بالعرب مسبقاً- وبالأصح المسيحيين العرب- قبل وقت طويل من ظهور
الإسلام."
لكن هل
يوجد اليوم ما تمكن تسميته العرق العربي؟ أظن أن الجواب هو لا. إذ ليست
هناك جماعة بشرية في العالم اليوم يمكنها الزعم بأنها صافية عرقياً،
ربما باستثناء تلك الموجودة في بعض الجزر المعزولة. وأضرب هنا مثالاً
بفرنسا الفخورة دوماً بتراثها الثقافي والتاريخي والأخلاقي. إن غالبية
الفرنسيين الجنوبيين هم من أصول عرقية إيطالية. وإلى الغرب تغلب الأصول
الباسكية. أما السكان في الشمال فهم من أصول بريطانية ونورماندية. كما
كانت باريس طوال تاريخها ملاذاً للاجئين من بلاد أخرى. وحتى نابليون
الذي يمجده الفرنسيون كان من جزيرة كورسيكا الإيطالية الفرنسية. فهل
هناك من يستطيع الزعم بأن هناك عرقاً فرنسياً؟
وفي
المقابل هناك ما يمكن وصفه بالثقافة العربية. إذ باستثناء أقليات عرقية
واضحة (مثل المسيحيين وعبدة الحيوانات في جنوب السودان والأكراد في
سوريا والعراق والبربر في المغرب العربي وبضعة أقليات أخرى) فإن باقي
السكان كلهم هم عرب ثقافياً. والثقافة هي اللغة التي يتحدثونها والشعر
الذي يقرؤونه والأغاني التي يغنوها والأطعمة التي يأكلونها والموسيقى
التي يرقصون على إيقاعاتها والتاريخ الذي يشتركون به.
إن
العرب- مسلمين ومسيحيين- غارقون حتى آذانهم اليوم في محاولة دحر هجمة
الدعاية المغرضة من جاني الصهاينة والمحافظين الجدد التي تأتيهم من
الغرب، ولا تنقصهم كتيبة عرب كارهين لذاتهم بين ظهرانيهم. في هذا الجو
السياسي الموبوء بالعداء للعرب والمسلمين، نحن بحاجة لاستعادة دورنا
باعتبارنا مدافعين عن وطننا وعمقنا العربي ومفسرين وسفراء له وناطقين
باسمه. لقد ساهمنا في مساعدة الدولة العربية الناشئة في سنوات تشكلها
على التعرف على أمهات الكتب الإغريقية مثلما ساهمنا في إعادة تشكيل
الهوية العربية وانعتاقها من تخلف الدولة العثمانية. وعلينا ألا نسمح
للأصوليين من الغربيين أو الإسرائيليين في إلقاء الغشاوة عليها من
جديد.
حين
دخل الصليبيون القدس عام 1099، تعرضنا نحن المسيحين العرب للمذابح مثل
المسلمين. والفظائع التي نراها في فلسطين والعراق وأفغانستان توضح لنا
بجلاء أن أخلاقيات الصليبيين الجدد ليست بأفضل من أخلاقيات أولئك
اللذين أتوا إلى هذه البلاد قبل قرون مضت.
رجا مطر مدير إقليمي سابق فيالشرق الأوسط لشركة متعددة
الجنسيات وهو حالياً مستشار تجاري يعيش بيروت:
ranimar@cyberia.net.lb
|