وقبل
بضع شهور فقط راجت شائعات بأن أصحاب القناة يبحثون عن مشتر لها نتيجة
للضغوط الأمريكية كما نقلت نيويورك تايمز عن أحد المسؤلين القطرين
قوله: "إننا نعاني من صداع حقاً، ليس من جانب الأمريكان فقط بل ومن
جانب المعلنين والدول الأخرى أيضاً." ولا شك في أنه كان يقصد إيران
والسعودية والأردن ومصر إضافة لدول أخرى.
ومع
ذلك فإن قناة الجزيرة هي الشبكة الإخبارية العربية الأكثر شعبية على
الإطلاق حيث يتراوح متابعوها المنتظمون بين 30 و50 مليوناً. وتحولت
الجزيرة إلى ظاهرة إعلامية فاجأت العالم العربي مفاجأة كبيرة منذ
انطلاقتها قبل تسع سنوات وكان لها كبير الأثر في إعطاء دولة قطر مكانة
مميزة على خريطة العالم.
غير أن
الشبكة ومنذ فبراير الماضي لم تفلح فحسب في ضحد شائعة البيع بل وأصبحت
على وشك إطلاق قناة الجزيرة إنترناشنال، وهي قناة تلفزيونية إخبارية
جديدة باللغة الإنكليزية على نمط شبكة سي إن إن.
ومن
طبيعة الأمور أن تشعر أمريكا اليمينية الموالية لبوش بالحنق من هذا
المشروع الجديد حيث عكست نيوزماكس هذه المخاوف يوم 18 يوليو الماضي حين
قالت في أحد قصصها الإخبارية: "تنطلق قناة الجزيرة إنترناشنال الموالية
للإرهاب أوائل العام المقبل لتكون شبكة إخبارية ناطقة بالإنكليزية على
مدار الساعة مقرها في الشرق الأوسط..."
ولم
يكن نايجل بارسنز العضو المنتدب في الجزيرة إنترناشنال شديد الاندهاش
من هذا التقديم البعيد عن الإنصاف والتوازن واتهم نيوزماكس بأنها
"جاهلة ومسيئة ومخطئة" في رسالة بعث بها إلى مدير تحريرها وقال:
"الجزيرة إنترناشنال ستكون أول شبكة تلفزيونية دولية تبث باللغة
الإنكليزية. ليست لدينا أجندة خاصة ولا تحيز سياسي. تغطيتنا ستكون
شجاعة ونشطة والأكثر إطلاعاً على حقائق ما يحدث في بقاع العالم الحافلة
بالأحداث. سنكون بديلاً جديداً موجهاً للمشاهدين الراغبين في أن تكون
الأخبار سريعة ودقيقة وغير منمقة..."
هذا
الوعد بأخبار "غير منمقة" هو الذي يزعج الحكومة الأمريكية أكثر من أي
شيء آخر وهي تحاول إخفاء حقيقة الأحداث على الأرض في أفغانستان والعراق
عن أعين الجمهور الأمريكي وتحجب عنهم صور القتلى من الجنود الأمريكان
والنسوة والأطفال العراقيين.
البيت
الأبيض يفضل تصوير أعماله بأسلوب تعقيمي، وهو الأسلوب الذي تبرع به
جداً الشبكات الإخبارية الأمريكية. تقديم صور الجنود الأمريكيين وهم
يقدمون السكاكر للأطفال أصبح طبقاً يومياً ثابتاً على قوائمها، أما
التوابيت الملفوفة بالعلم وهي تعود للوطن فلا مكان لها نهائياً.
آخر ما
تريد واشنطن من الجزيرة إنترناشنال فعله هو بث أخبار "غير منمقة" إلى
ملايين البيوت في أمريكا، وخصوصاً مع تراجع الدعم الشعبي لغزو العراق
ومع رجوع مسؤولي التجنيد العسكري من جولاتهم على مواقع الشباب مثل
المدارس والكليات وغيرها خاوي الوفاض.
ومع
استعداد الجزيرة إنترناشنال لهز المركب الإعلامي الهادئ، ها هو ريز خان
الوجه الشهير السابق على شاشتي سي إن إن وبي بي سي يشرح الأسباب التي
دفعته للتعاقد على العمل مع شبكة تلفزيونية مثيرة للجدل.
ففي
مقال له بعنوان "لماذا التحقت بالجزيرة" يعبر خان عن فرحه الغامر بأن
يكون جزءاً من الجزيرة التي يصفها عن جدارة بأنها "واحدة من أكثر
الأسماء شهرة على وجه الأرض". (في دراسة عالمية حديثة، تفوقت الجزيرة
على سي إن إن حيث احتلت مكاناً بين أكثر الأسماء التجارية شهرة في
العالم إلى جانب علامات مثل مايكروسوفت).
ويقول:
"توفر الجزيرة الوسيلة المثالية لرأب الصدوع بين المجتمعات في الشرق
والغرب.
"أنا
مدرك تماماً للانطباع السلبي المأخوذ عن الجزيرة في الولايات المتحدة
وخصوصاً في الأوساط الحكومية. غير أني أرى أن جانباً من هذا الانطباع
آت من سوء فهم للمكانة الثقافية القوية التي تحتلها هذه القناة لدى
الجمهور في الشرق الأوسط. فهي شديدة الشعبية ليس لصراحتها بخصوص الغرب
فقط بل والحكومات العربية أيضاً.
"وحتى
الآن لا تزال الجهود التي تبذلها الإدارة الأمريكية لترويج صورة
إيجابية عن أميركا بين الناس في الشرق الأوسط فاشلة تماماً." وهو
بالتأكيد يشير إلى قناة الحرة وراديو سوا اللذين تمولهما الولايات
المتحدة وهما آلتان دعائيتان أمريكيتان سافرتان على نحو مخجل تتمتعان
بميزانيات هائلة.
وقد
حصلت الجزيرة إنترناشنال بالفعل على حليف لها يتمثل في شبكة تيليسور
الأمريكية اللاتينية والمدعومة من فنزويلا والتي روج لها الرئيس
الفنزويلي هوغو تشافيز لتكون بديلاً عن وسائل الإعلام الأمريكية.
وقد
ذكرت بعض التقارير أن تيليسور تسعى وراء "تحالف استراتيجي" مع الجزيرة
لتعزيز تغطيتها الإخبارية الشرق أوسطية. ولا شك في أن هذا التحالف مرشح
ليزيد من الضغوط على الحكومة الأمريكية لكون حكومة تشافيز شديدة
الانتقاد لإدارة بوش والسياسة الخارجية الأمريكية.
حين
يتعلق الأمر بالجزيرة يصبح نفاق إدارة بوش فاضحاً. فبعد أن بثت الجزيرة
صوراً لجنود المارينز المأسورين خلال غزو العراق، وجه مسؤولو البنتاغون
ومن بينهم الجنرال جون أبي زيد هجومهم الشرس على أحد مراسلي الجزيرة
خلال مؤتمر صحفي واتهموا القناة بانتهاك معاهدة جنيف.
ومع
ذلك فإن الولايات المتحدة لا ترى أي غضاضة في تجاهل المعاهدة ذاتها حين
يتعلق الأمر بالمعتقلين في غوانتانامو وباغرام أو حين عرضت علناً جثتي
ابني صدام حسين وبثت صور الرئيس العراقي السابق حين كان يخضع للتفتيش
عن القمل في رأسه.
أليس
الأمر بأشد أنواع النفاق أيضاً حين تجد الدولة التي تمجد الديمقراطية
وكأنها كتاب مقدس وهي تحاول أن تلوي ذراع قطر لإجبارها على التخلي عن
قناة تلفزيونية ناجحة ومستقلة تحريرياً؟ إن حرية الكلام والإعلام
عنصران لا غنى عنهما في أي ديمقراطية. ومن حسن الطالع أن قطر إلى اليوم
ترفض الخضوع.
غير أن
هناك مؤشرات على أن الجزيرة قد خففت نبرتها التحريرية بعد قصف مكتبيها
في كابول وبغداد واعتقال كبير مراسليها المقيم في إسبانيا السوري
المولد تيسير علوني.
صَوْرَخت
شهرة تيسير علوني في العالم بعد مقابلة تلفزيونية أجراها مع أسامة ابن
لادن في أكتوبر 2001 وهي المقابلة التي رفضت الجزيرة بثها باعتبارها
غير ذات أهمية إخبارية ثم بثتها بعد عدة شهور
وذلك بعد أن كشفت عنها سي إن إن، التي تجمعها بالجزيرة اتفاقية
تبادل إخباري.
ويعتقد
أنصار علوني الكثيرون بأن هذه المقابلة هي السبب وراء محاكمته، رغم أن
علوني متهم نظرياً بإيواء أعضاء في مجموعة أبو الدحداح الذي يقال أن له
علاقة بهجمات 11 سبتمبر ونقل أموال إلى أحد عناصر القاعدة.
كما
يعتقد خوسيه لويس غالان محامي علوني الإسباني بأن التهم الموجهة لموكله
هي تهم سياسية. ويقول: "لا أحد يشك أبداً بأن موكلي لو كان صحفياً يعمل
لشبكة فوكس نيوز وليس للجزيرة لما وقف على خشبة المتهمين اليوم أبداً."
كما
ينقل الصحفي والكاتب جون برادلي في مقالة له بعنوان "هل تنحني
الجزيرة؟" أن الشبكة قد سحبت "رسمان كريكاتوريان اعتبرا تحريضيين" من
على موقعها في اليوم نفسه الذي طالب فيه مسؤول أمريكي بتقديم شكوى
للجزيرة.
كما
ينقل برادلي عن وزير بريطاني له أجرت معه القناة حواراً قوله: "أعتقد
أني لمست ظهور نبرة أكثر توازناً."
أضف
لذلك خبر فصل القناة للصحفية البريطانية المسلمة إيفون رايدلي التي
اعتقلتها طالبان بعد دخولها الجريء إلى الأراضي الأفغانية وذلك بسبب
موقفها المتشدد المناصر للعراق وفلسطين.
حين
كانت رايدلي مسؤولة عن الموقع الإنكليزي لقناة الجزيرة نشرت قصصاً
إخبارية عن تقييد الجنود الأمريكيين للنسوة والأطفال خلال مداهماتهم
التفتيشية لبيوت العراقيين. كما قيل أنها تعرضت للتوبيخ بعد نشرها
صوراً لبنت عراقية عمرها سبع سنوات ويديها مكبلتان بالقيود البلاستيكية
نتيجة لشكاوى الأمريكيين.
وفي
وقت لاحق اتهمت الجزيرة الصحفية البريطانية بأنها تهديد للأمن الوطني
وحينها رفعت الصحفية دعوى "فصل تعسفي" ضد الجزيرة في محكمة قطرية
وربحتها.
ورغم
تجربتها الصعبة مع القناة، قالت رايدلي بعد الحكم: "لازلت شديدة
الإعجاب بالجزيرة. الكثيرون من الناس الطيبين يعملون فيها بقسميها
العربي والإنكليزي..." أما اليوم فإن "الأخت إيفون" تعمل مذيعة في قناة
إسلامية تبث من لندن وتعد كتاباً عن أسامة بن لادن.
أما
شيستا عزيز التي عملت مع رايدلي في الجزيرة وتعرضت للفصل بعد خمسة
أسابيع من فصل الأخيرة فقد كتبت أيضاً عن القيود التي يمارسها
البنتاغون على الجزيرة.
تقول
عزيز: "أخبرني صحفي يعمل في مكتب الجزيرة في بغداد لا يرغب في ذكر اسمه
بأن مدراء القناة قد طلبوا من الصحفيين الالتزام بالخط الإخباري لوكالة
رويترز.
"قيل
لنا بأنه لم يعد مطلوباً منا البحث عن القصص الإخبارية في العراق وأننا
يجب أن نعمل على أن لا نكون أبداً أول من يظهر في الميدان في حال حدوث
انفجار لأن ذلك سيعرض العاملين في الجزيرة للاعتقال والاستهداف من جانب
الجنود الأمريكيين."
وتقول
عزيز إن "العاملين في الجزيرة كانوا يتعرضون بشكل منتظم للاعتقال
والتحقيق على يد جنود الاحتلال الأمريكي حين كنت أعمل مع القناة وبحسب
معلوماتي فإن أعمال التخويف هذه لا تزال مستمرة.
"وبحلول شهر يونيو تعرض أكثر من 20 صحفي للجزيرة للاعتقال والسجن على
يد الأمريكان في العراق، فيما لقي أحدهم وهو طارق أيوب حتفه حين تعرض
مكتب القناة في بغداد للقصف عام 2003 رغم أن بيانات موقع المكتب كانت
قد أعطيت لقوات التحالف. وينكر الأمريكيون تعمدهم قصف المكتب."
وتضيف
عزيز: "إن المسلمين والعرب بحاجة لأن تكون الجزيرة قوية ومستقلة وأن
تبقى مؤسسة إخبارية تعاملهم على أنهم جمهور ذكي، مؤسسة إخبارية قادرة
على تحدي جزء من التغطية الإخبارية الغربية ذات البعد الواحد عن الشرق
الأوسط وشعبه.
"إن
الآلة العسكرية والإخبارية العظمى في العالم تقوم بكل ما بمقدورها فعله
من أجل إخراس صحفيين مستقلين وذوي تفكير حر وتهاجم الحريات الصحفية على
كل مستوى. كما أن الأثر الخانق الذي تمارسه السياسة الخارجية الأمريكية
على قناة الجزيرة وكل المؤسسات الإعلانية الأخرى حول العالم يمثل ضربة
للديمقراطية في جوهرها التي تدعي الولايات المتحدة مناصرتها."
ليس
هذا فحسب إذ لم تكتف السلطات الأمريكية بتوجيه الإنذارات للجزيرة
ومنعها من تغطية الأحداث في بعض المناسبات بل إنها أبدت منتهى
الاستعداء للقناة في موقفها من أحد الأخبار التي بثتها.
في
ديسمبر 2003 أجبر محللو سي آي أيه السلطات على إلغاء 30 رحلة جوية ورفع
مستوى التأهب الأمني بخصوص الإرهاب إلى البرتقالي لأنهم تخيلوا أن
القاعدة قد أرسلت تعليمات سرية إلى خلاياها عبر أخبار الجزيرة.
وقد
تحدثت إن بي سي عن الأمر في هذا العام وكشفت أن جهابذة السي آي أيه
اعتقدوا أنهم قد فككوا هذه الرسائل السرية المشفرة واستخلصوا منها
تواريخ وأرقام رحلات لاستهداف البيت الأبيض ومركز الفضاء في سياتل
وبلدة قليلة السكان في فيرجينيا.
في ذلك
الوقت أطلق البائس توم ريدج الذي كان وزيراً للأمن الداخلي تحذيراته من
أن "مصادر موثوقة" قد توقعت حدوث هجمات على البلاد. ومن حسن الطالع أن
هذه "المصادر الموثوقة" كانت مخطئة واعترف توم ريدج بعد 18 شهراً
لتلفزيون إن بي سي بأن تلك المعلومات الاستخبارية كانت "غريبة وفريدة
وغير أصيلة ولا مسبوقة." فمن يستطيع أن يجادل ضد هذا الآن؟
ومع
ذلك وحتى لو كانت الجزيرة قد لطفت بالفعل من حماسها حين تغطية القضايا
التي تعتبرها الولايات المتحدة حساسة، فإن هذه القناة لا تزال صاحبة
الجمهور الأكبر في كل الوطن العربي ولا تزال قادرة على إغضاب كم مخيف
من الأفراد والدول... ولهذا لابد أنها تواصل القيام بما هو صواب.
لكن
رغم شعبيتها المذهلة وخطط توسعها الكبيرة، تبقى الجزيرة كما يقال
مشروعاً تجارياً خاسراً وبحاجة لدعم مالي سنوي يفوق 50 مليون دولار لأن
المعلنين عموماً يختارون الوسائل الإعلامية الأقل إثارة للجدل.
ولا شك
في أننا نأمل بأن انطلاقة الجزيرة إنترناشنال ستساهم في تمكين الشبكة
من تحقيق الأرباح لكن ما لم تضحي بنزاهتها الصحفية مقابل التخلص من
المشكلات وتحقيق بعض الأرباح القذرة فإن أحداً يجب ألا يتوقع الكثير. |