بقلم ليندا هيرد
شهد الشهر
المنصرم خروج أكثر من 15 مليون إنسان للتظاهر في 600 مدينة حول العالم
هاتفين بصوت واحد: "لا تشنوا الحرب باسمي." كان هناك مليونان في روما،
ومئات الآلاف في سيدني ونيويورك، بينما غطت واجهة البارثنيون يافطة هائلة
تحمل شعاراً ضد الحرب، أما في نيويورك، فقد ازدحمت شوارع مانهاتان
بطوابير المحتجين. أما مظاهرة لندن المعادية لحرب، فقد كانت الأكبر في
تاريخ بريطانيا.
لم يكن
المتظاهرون من أولئك الذين يُنتظر خروجهم في مثل هذه المظاهرات. لم
يكونوا من المناضلين، ولا من الفوضويين، ولا من الشيوعيين أو هواة الرفض
على أية حال. كانوا جدوداً وجدات، أمهات وآباء يحملون صغارهم، وكثير من
المراهقين.
لكن، وفي
الوقت الذي كان الخمسة عشر مليوناً من البشر العاديين يستخدمون أقدامهم
في محاولة لتجنب غزو العراق، فإن آخرين قطعوا خطوة إضافية لتحقيق الهدف
نفسه. هؤلاء كانوا من الناس الذين اعتبروا أن سيرهم في تظاهرة وترديد
شعار ليس كافياً. بل أرادوا أن يفعلوا ما هو أكثر بكثير من أجل مستقبل
العرق البشري ومستقبل العراقيين. وهؤلاء الناس هم الذين كانوا مستعدين
للتضحية حتى بحياتهم دفاعاً عما يؤمنون به.
وهكذا
انطلقت من لندن باتجاه بغداد مجموعات من الأشخاص من جنسيات متعددة،
بقيادة جندي مشاة البحرية الأمريكية السابق كينيث نيكولز أوكيف، مستقلين
حافلات لندن ذات الطابقين وسيارات التاكسي السوداء التي كتب عليها شعار
"لا تشنوا الحرب باسمي." وكانوا يهدفون لتقديم أنفسهم كدروع بشرية، آملين
الحيلولة دون قصف مراكز البنية التحتية ذات الأهمية الحيوية، مثل الجسور
محطات الكهرباء والمياه، المستشفيات والمدارس.
وفيما كانت
العربات تخترق فرنسا وإيطاليا واليونان وتركيا، كان المزيد من المتطوعين
ينضمون إليها، على الرغم من أن مسؤولي الجوازات الأتراك وجدوا من الأنسب
إعادة أوكيف لإيطاليا، بعد أن رفضوا الاعتراف بمستندات سفره.
والحقيقة أن
أوكيف كان قد أحرق جواز سفره الأمريكي بسبب قناعاته، وتوجه للجوء إلى
هولندا. فلقد كان يشعر أنه لم يعد باستطاعته دفع الضرائب والوقوف لجانب
حكومة محافظة، مبالغة في تطرفها اليميني، ومستعدة لقتل الأبرياء في إطار
طمعها للسيطرة على العالم.
لكن منعه من
عبور تركيا مع رفاقه لم يكن كافياً لإثناء أوكيف عن عزمه، فطار من
إيطاليا إلى سوريا لمعاودة الانضمام إلى القافلة والعمل على تحقيق
أهدافها.
وقال متحدث
باسمها: "منذ شرعت القافلة في رحلتها، انهمر علينا الدعم، فزار موقعنا
على الإنترنت أكثر من 50.000 شخص، فيما تلقينا أكثر من 500 طلب من أناس
يردون أن يكونوا دروعاً بشرية.
وقد أوحت
جماعة أوكيف لآخرين في إسبانيا، سلوفينيا، إيطاليا، أستراليا، البحرين،
الأردن وحتى أمريكا لتشكيل فرق من الدروع البشرية، كما كسبت إعجاب
واحترام جميع أولئك المحبين للسلام الحقيقي، لا سلام جورج بوش.
أحد
المتطوعين، أوزما بشير، قال "أنا لا أريد أن أموت، بل إنني أحب الحياة،
لكن كل حياة ثمينة. وعلينا أن ندرك أنه يجب علينا أن نعارض بصدق معارضة
الحرب التي ستقتل عراقيين أبرياء. أنا ذاهب إلى العراق لأحاول وقف الحرب
وحماية حياة الآخرين."
أما أوكيف،
فقد أعلن في حديث له في برنامج "هارد توك" على محطة هيئة الإذاعة
البريطانية (بي بي سي)، أنه يود أن ينظر في عين عراقي ليقول له أن هناك
في الغرب أناساً يهتمون لأمره، وأنه هو نفسه واحد منهم. وفيما كان يتحدث،
كانت الصدق يشع من عينيه، وكان يذكرني بجميع ما نعرفه عن لورنس العرب.
لقد حاول
لورنس أن يشرح لصديق عربي له أنه مختلف عن سياسيي بريطانيا السمان. وقد
نجح لورنس في الفوز بثقة العشائر العربية التي كانت تقاتل الأتراك، لكن
الحكومة البريطانية طعنته في الظهر وتنكرت لوعودها للعرب. فهل سيتعرض
أوكيف وزملاؤه للخيانة أيضاً؟
وبينما كان
المتطوعون لتشكيل الدروع البشرية يتجهون إلى العراق، كان ناشطو السلام
الأمريكيين والأوروبيين يحيطون بأذرعتهم أعمدة جسر على نهر دجلة، ويغطون
محطات الكهرباء والماء بيافطات ضخمة كتب عليها "قصف هذا الموقع جريمة
حرب."
وبالفعل،
تنص معاهدات جنيف الخاصة بالنزاعات المسلحة على اعتبار تدمير المرافق
الحيوية جريمة، وهو الأمر الذي أقدمت عليه الولايات المتحدة في حرب
الخليج عندما ألقت قنابلها على محطات الكهرباء العراقية، وكذلك إسرائيل
التي فعلت ذلك مراراً في لبنان دون أن يدينها أحد.
وكانت بين
ناشطي السلام السيدة إليزابت روبرتس، وهي أمريكية من كولورادو. وقد قضت
وقتها في بغداد، تقابل الناس وتتعرف عليهم وتتعاطف من محنتهم. وهي تقول
"لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ هذه هو السؤال الذي سمعته من كل شخص تحدثت معه. هل
ستدمرون كل هذا من أجل النفط؟ هل يعلم الأمريكيون أية كارثة ستقع؟ لن
يبقى هناك أي صلة طيبة بين العرب والأمريكيين." وتعترف إليزابت أنها لا
تملك جواباً على كل هذه الأسئلة.
ويتساءل
كثيرن عن السبب الذي يجعل كينيث نيكولز أوكيف وإليزابت روبرتس مستعدين
للمخاطرة بحياتهم من أجل أناس لم يسبق لهم الالتقاء بهم أبداً.
ويجيب أوكيف
على هذا بقوله: "أعتقد أننا وصلنا إلى لحظة في التاريخ حيث أصبح الناس
مستعدين للتضحية بحياتهم دفاعاً عن معتقداتهم. لقد وصلت الأمور إلى درجة
لا نستبعد معها اندلاع حرب عالمية ثالثة، وحصول إبادات بالقنابل الذرية.
كيف نقف مكتوفي الأيدي إزاء ذلك؟ أعتقد أن المكان المناسب لي هو العراق."
هذا الشعور
الجارف بالانتماء لعالم واحد وشعب واحد يوحد الناس كما لم يحصل من قبل
أبداً، جارفاً في طريقه حواجز الجنسية واللون والعقيدة. فالقس جيسي
جاكسون استقبل بحرارة عندما تحدث أمام مهرجان في لندن، والممثل شين بين
جازف بمهنته عندما زار العراق في مهمة للاطلاع على الحقائق، فيما وضع
الزعيم الأفريقي الجنوبي نلسون مانديلا ثقله ضد مطامع بوش / بلير.
لكن ذلك لم
يؤثر في رئيس الوزراء البريطاني توني بلير. فقد صرح بأن تخليص العالم من
صدام حسين سيكون عملاً إنسانياً، وأنه حتى لو كان هناك 500.000 إنسان في
شوارع بريطانيا، فهو أقل من عدد الناس الذين قتلهم الرئيس العراقي.
لكن بلير،
بعد هذه الأقوال، تجنب مواجهة 65.000 متظاهر إسكوتلندي كانوا ينفخون في
الأبواق لإحداث ما يعرف باسم "ضجيج أريحا"، وذلك في إشارة لأصوات الأبواق
التي تسببت في انهيار أسوار أريحا.
ربما تكونون
قد عرفتم، أثناء قراءتكم لهذه الكلمات، ما إذا كان بوش وبلير قد أجبرا
للإصغاء إلى صوت العقل. كما ستكونون قد عرفتم ما إذا كان أنصار السلام قد
كسبوا معركة منع الحرب ضد العراق.
هل سيواجه
بلير تغييراً في نظام الحكم قبل صدام حسين؟ أو هل ستتساقط القنابل لتقتل
ما يقدر بمئات آلاف الضحايا وتحول600.000 شخص إلى لاجئين وتتسبب بمزيد من
التلوث لمياه العراق؟ ربما تكونون قد عرفتم وأنتم تقرأون كلماتي الجواب:
السلام أو الحرب؟
اليوم ينتظر
أبناء الشعب العراقي، الذين تقل أعمار 40% منهم عن 15 سنة، مصيرهم. كثير
منهم يعانون فعلاً من سوء التغذية، ومعظمهم يعيش في فقر مدقع، بينما
يعاني أطفالهم من أمراض السرطان التي سببها استخدام الولايات المتحدة
لليورانيوم المستنفذ في حرب الخليج. فبسبب هذا السلاح الوضيع من أسلحة
الدمار الشامل، يولد الأطفال في العراق حاملين تشوهات مرعبة.
العراقيون
هم الذين سيخسرون الكثير إذا فشلت الشعوب ذات الضمائر الحية في ربح
المعركة ضد مثيري الحروب الجشعين المصممين على بسط سيطرتهم على العالم
والاستيلاء على موارده الطبيعية لإعانة عمالقة قطاعي صناعة الأسلحة
والنفط على أوقات صعبة.
أما إذا
تمكنت حركة السلام الشعبية هذه من تفادي حرب دامية، فقد يصبح العالم
مكاناً أفضل من قبل. أما قادة الغرب الذي يؤمنون أن حياة الناس في العالم
الثالث هي أقل أهمية من حياتهم، فسيترتب عليهم إعادة النظر في قناعاتهم
تحت ضغط قوة الشعوب.
أما البديل،
فمن الصعب جداً تصور قسوته. فعوضاً عن عالم تحترم فيه القوانين
والمعاهدات الدولية ويحترم فيه الإنسان، سنعيش في غابة يلتهم القوي فيها
الضعيف. والأشهر القليلة المقبلة حاسمة، ليس فقط للعراقيين، وليس فقط
للدروع البشرية، وليس فقط لمنطقة الخليج وحدها. الأشهر المقبلة ستكون
بشيراً أو نذيراً بالعالم الذي سنعيش فيه، نحن والأجيال التي لم تخلق
بعد. |