خلف
أحمد الحبتور
كورقة في مهب الريح،
كزجاجة فارغة ملقاة في يمٍ متلاطم، تتقاذفها الأمواج والأنواء، أضحينا
شعوباً وأنظمة،
كنّا "خير أمة أخرجت
للناس" فأصبحنا شعوباً عارضة لا حول ولا قوة، وأسلمنا زمام أمورنا
للآخرين، وضربنا بعرض التاريخ تاريخنا، ونسفنا بأيدينا تراثنا، كأي شعبٍ
مارقٍ لا جذور له، ولا مرتكزات، وأضحينا في اللحظات التاريخية، بلا ماضٍ،
بلا حاضرٍ، وبلا مستقبل ربما،
استسلمنا أمام تحديات
الآخرين، أمام طغيانهم وجبروتهم، ففقدنا آخر شعرة لنا مع الكبرياء،
وأمسينا وفي ومضة بلا وميض، نساق كالأغنام إلى مهاجع بلا سياج، تعصف بنا
عاتيات الزمان، لا ندري إلى أين المسير، ولا ندري ما هو المصير.
ففي الوقت الذي تتدافع
شعوب أوروبا ومعظم أنحاء أميركا في تظاهرات صاخبة وصل عددها إلى 150
مظاهرة في الولايات المتحدة وحدها، وإلى 350 مظاهرة في أنحاء العالم،
آخرها المظاهرة التي انطلقت في لندن بدء هذا الأسبوع بمشاركة أكثر من
مليون شخص، معلنة رفض الحرب على العراق، تستكين شعوبنا في خدرها المتحجر
غير مبالية، وكأن الأمر لا يعنيها أو يضيرها في الزمان والمكان، أو في
مشاعر التوحد القومي أو الإنساني.
فتحية عظيمة، تحية إكبار
وإعجاب، وتقدير لشعوب أوروبا وللشعب الأميركي المنحاز للسلام، هذه الشعوب
عبرت بالتظاهر ضد الحرب على العراق، لتؤكد أن الديمقراطية بألف خير، وأن
المشاعر الإنسانية بألف خير، وأن الأحاسيس الإنسانية أقوى من القمع
والحديد والنار، وستبقى كذلك طالما تتحلى هذه الشعوب الحضارية بالمعاناة
مع الشعوب المضطهدة والمهددة حتى بلقمة عيشها.
إن هذه التظاهرات العظيمة
في أوروبا وفي أميركا واستراليا وكوريا وغيرها ضد الحرب على العراق هي
علامات مضيئة، ومحطات تاريخية، مشعة في تواريخ هذه الشعوب التي لم تقتنع
بكل الأدلة والبراهين التي تسوقها أميركا وإنجلترا ضد العراق، والتي بدا
واضحاً أنها أدلة واهية، ضحلة، وعقيمة، هذه التظاهرات الشعبية في أوروبا
هي إدانة واضحة للصمت العربي، وللتواطؤ العربي حتى، على كافة المستويات،
فهذه الاستكانة العربية المريبة، مرعبة في هذه اللحظات المريرة، فهي لم
تعد على مستوى الأنظمة التي تتصرف إزاء التجييش الأميركي الإنجليزي ضد
العراق، على طريقة " وأنا مالي" بل إن عدوى طأطأة الرؤوس انتقلت هذه
المرة إلى الشعب العربي برمته وكأنه قُدَّ من صخر أصم، لا يرى ولا يريد
أن يرى، ولا يريد أن يسمع، ولا يريد أن يبادر بعد أن قال " الكبار "
كلمتهم وأكدوا عجزهم عن منع ضرب العراق، إضافة إلى لا مبالاتهم.
إن أكثر ما يؤلم أن يباشر
رئيس أكبر دولة عربية بالتصريح والقول، أننا نضحك على أنفسنا، إذا
اعتقدنا بأن في إمكاننا وقف الحرب، ثم يقترح، بعقد قمة عربية في مواعيد
مختلفة آخرها القمة المقترحة في شرم الشيخ، وفي موعد قريب بعد أن علم أن
القمة الأوروبية العاجلة ستنعقد هذا الإسبوع، فما أكثر القمم العربية،
واسقمها، إن الجد وقيامتنا تقتضي أن نعقد هذه القمة فوراً في بغداد...نعم
بغداد ، مهد الحضارات أو في إحدى عواصم دول مجلس التعاون الخليجي وليس في
مصر وفي شرم الشيخ، ... إن القمم ليست اصطيافاً ونزهة، في لحظات الحقيقة
التي تتربص بأمتنا العربية كلها.
أين كنا وأين أصبحنا، نحن
العرب، ولن أقف أمام أطلال التاريخ، ولن أستحضر إلى الذاكرة واللحظة
وقفات قادتنا الذين أصبحوا ينتمون إلى غابر الزمن فعلاً، ولكن أخجل من أن
نفقد كل شيء، وننتظر أن تدافع عنا نساء أوروبا وتتظاهر لنصرتنا صبية في
بعض أنحاء أميركا، في حين تتبرع أوروبيات وأمريكيات حتى، للذهاب إلى
العراق لتقفن دروعاً بشرية تحول دون ضرب أطفال العراق، ومقدرات الهراق،
وأرض العراق.
وستمر السكوت العربي،
وتستمر العيون الخائفة الوجلة، والأيادي الوهنة، التي لا تجرؤ على رفع
الصوت أو التظاهر في عالمنا العربي والإسلامي، دفاعاً عن شعب العراق،
فإلى متى، إلى متى سيبقى حزام الذعر يلفنا؟، إلى متى ستبقى الهزيمة تسرح
في العقل العربي، ومتى يباشر هذا الوعي العربي في قيامته، وفي الخروج من
كنف أسطورة الخوف التي تدك أسوار تاريخه ... متى ... متى ...
لسنا من هواة الحروب، وليس
في تاريخنا مايشي بأننا كنا أمة معتدية، لسنا مع الإرهاب، وإسلامنا دين
رحابة وسماحة، وتعايش مع الآخر أياً كان معتقده، وهويته، وتوجهاته،
ألا يجب أن نخرج من حالة
الجبن التي تتلبسنا كأجسادنا، من حالة التماهي مع الأرض كالنعام المرتعدة
من حال اللاموقف التي تعتور مسيرتنا، يجب أن تتمتع شعوبنا بالوضوح في
إعلان الموقف، وبالصدق في إبداء الرأي، وبالتمسك بالحق، وبالحق المطلق،
وبذلك نستطيع إيقاف الحرب على العراق خلافاً لاعتقاد زعمائنا، وإلاّ
سنبقى نراوح في أمكنة زرية، ولن نكسب احترام الآخرين، وتقديرهم، فشعوب
العالم تطالب بحقنا، وتتظاهر لأجلنا، ونحن قابعين في أوكار أوهامنا
وتوجساتنا.
مجدداً، تحية من القلب من
الوجدان، إلى تلك الشعوب العظيمة، التي تتظاهر مطالبة بحقوقنا، تحية لكل
أم وصبية، ورجل وطفل، يرفع الصوت عالياً في أوروبا مستنكراً الحرب على
العراق، وكل أنواع الحروب الظالمة...
وحتى لا يبقى السؤال
حائراً ضائعاً في أنحاء الجسد لعربي، نقول متى؟ متى تنهض أمة العرب ومتى
ينهض الشعب العربي...
|