رغم أنك رحلت عنا، إلا
أنني على ثقة تامة أنك، وأنت الذي آمنت بالوحدة العربية وناضلت من أجلها
طوال حياتك، ستشعر بالأسى لأن قوة دولية تفعل كل ما بوسعها لإضعاف جهودنا
لتحقيق الوحدة، وذلك عبر بذر بذور التفرقة بيننا، نحن العرب.
المفارقة هي أنه في الوقت
الذي يتواصل فيه الاختلاف بين حكوماتنا وقادتنا، تحت تأثير قوى خارجية
كبرى، فإن العرب جميعاً، صغيراً وكبيراً، ومهما كانت جنسياتهم أو دينهم،
أصبحوا أكثر اتحاداً من أي وقت مضى بعد حقبة الرئيس الراحل جمال عبد
الناصر. بل إن ناصر نفسه، بكل عشقه للوحدة، لم يفلح في اجتذاب أفئدة
الناس جميعاً، كما هو الحال الآن، ليقفوا وراء الوحدة. فقد احتاج الأمر
تدخل قوة دولية لتؤجج الوعي والاندفاع نحو الوحدة العربية في قلوب الناس
مهما كانت انتماءاتهم الاجتماعية في العالم العربي.
لقد كنا، يا صديقي،
فتياناً قي مقتبل الشباب عندما حزم المستعمرون حقائبهم ورحلوا عن ديارنا.
وكانت تملأ قلوبنا الآمال بإعادة إحياء رفعة شعبنا، والأحلام بأننا سوف
نستطيع مجدداً توحيد شعوب العرب ودولهم، لتحقيق نهضة عربية والوصول إلى
مرحلة النمو الاقتصادي التي تتيح لنا أن نتعامل مع الدول الأخرى معاملة
الند للند.
كنا نفكر ونتساءل، كيف
يمكن ألا نتوحد من جديد؟ ألا نشارك جميعاً في تراث واحد، وفي لغة واحدة
يفهمها أكثر من 300 مليون إنسان؟ ألسنا نعتنق، في غالبيتنا العظمى، نفس
الدين؟
كانت البداية مشجعة، وبدت
رؤيا الرئيس عبد الناصر بإقامة جمهورية عربية متحدة تمتد من المحيط
الأطلسي غرباً إلى الخليج العربي شرقاً أمراً ممكناً بعد توحيد سوريا
ومصر. لكن الحلم، للأسف، لم يتحقق.
وعلى مدى الأعوام الخمسين
المنصرمة، لم تكن القوى الكبرى وحدها هي التي باعدت بيننا، بل إن الكثير
من اللوم بسبب فشلنا يقع على طموحاتنا التافهة المثيرة للخلافات، والتي
حولتنا إلى 22 دولة ذات سيادة تحكم معظمها حكومات لا تمثل شعوبها ولا ترى
في الوحدة العربية ما يحقق مصالحها المادية.
لقد أكد صاحب السمو الشيخ
زايد بن سلطان آل نهيان، رئيس الدولة أن "الفرقة بين العرب هي مصدر قوة
أعدائهم". وهذه الفرقة هي التي أدت لاضطهاد الشعب الفلسطيني وموت مئات
الآلاف من أطفال العراق.
وهكذا، يا صديقي، فإن ما
لم نتمكن من تحقيقه بأنفسنا، تقوم بتحقيقه قوى الإمبريالية الجديدة
العمياء، في هذا القرن الجديد. أينبغي علينا أن نعتبر ذلك نعمة مموهة؟ إن
الإمبريالية الجديدة تلعب دور الحافز لكل ما ينتاب شعبنا من إحباط وغضب
وخوف وشعور بالظلم تجاه دول اعتقدنا، بعد حرب الخليج عام 1991 أنها ستكون
صديقة لنا.
النظام العالمي الجديد،
حسبما يعرّفه جورج بوش الأب، هو تجسيد لكل ما نخشاه. ولقد كنا نشعر
بالقلق خلال الأعوام الماضية ونحن نراقب انتشار الثقافة الإمبريالية،
بقيمها المادية، وقيامها بتصويرنا كأشرار في أفلام هوليوود، واجتياح
موجات إذاعاتنا بالموسيقى الغربية ومتاجرنا بالثياب الغربية وشوارعنا
بمطاعم المأكولات السريعة. وكان هدف كل ذلك إغراء أجيالنا الجديدة
بالابتعاد عن تراثهم الثقافي وقيم تقاليدهم. ورغم أن هذا مدعاة للفزع،
إلا أن خشيتنا الأكبر تتركز على عواقب ما تقوم به الإمبريالية الجديدة
على أشقائنا الفلسطينيين والدعم المطلق الذي تحصل عليه دولة الصهاينة من
العواصم الغربية.
فعلى الرغم من قرارات
الأمم المتحدة العديدة التي تنص بوضوح أن احتلال إسرائيل للضفة الغربية
وقطاع غزة غير مشروع، فإن الولايات المتحدة، مثلاً، لازالت تخص إسرائيل
بمبلغ 3.5 بليون دولار سنوياً، أي ما نسبته 40% من إجمالي ميزانية
المعونات الخارجية. وما يزيد الجرح إيلاماً أن ذلك المبلغ ينفق على بناء
مستوطنات غير مشروعة على الأرض الفلسطينية وشراء المقاتلات وطائرات
الهليكوبتر الهجومية لقمع المدنيين الفلسطينيين. وهذا الأمر يساعد على
تفاقم استيائنا، فيما العقوبات المفروضة على العراق بعد حرب الخليج،
والتي أدت حتى الآن إلى موت 500.000 طفل عراقي، تؤجج غضبنا. والسؤال
هنا هو: أعداء من كان هؤلاء الأطفال الأبرياء؟ إن الغرب يضغط بمنتهى
النفاق لمواصلة العقوبات، متهماً صدام حسين بانتهاك قرارات الأمم
المتحدة، فيما يقف دون مواربة إلى جانب إسرائيل عندما تستهزئ بصورة صارخة
بجميع قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالأراضي المحتلة.
هذه الأفعال التي يشعر
العرب بالعجز حيالها هي التي تثير استياءهم. وذلك الاستياء هو سبب الهجوم
الرهيب على الشعب الأمريكي في 11 سبتمبر 2001. إلا أن الغرب، وبدلاً عن
معالجة السبب الجذري للاستياء العربي، اندفع على طريق لا يهدف إلا
للعقاب. وقد أجج ذلك مخاوف العرب والمسلمين وأثار فيهم شكوكاً عميقة حول
نوايا الغرب في منطقتنا، وهي النوايا المتجسدة في رؤية الأبرياء يعانون،
في الوقت الذي يتم فيه حشد قوات رهيبة بذريعة شن حرب علنية وخفية على
الإرهاب.
وإذا كان من سوء الحظ أن
الذين يقفون وراء الهجوم على أمريكا ينحدرون من أصول عربية، فإن أهداف
"الحرب على الإرهاب" هم العرب والمسلمون جميعاً. لقد قرر الغرب عندها غزو
دولة إسلامية هي أفغانستان والإطاحة بحكومتها في إطار مطاردة من يعتقد
أنهم وراء الهجوم على أمريكا. وقد أعقب سياسة التدخل هذه سن قوانين
عرقية صارخة في بعض دول الغرب تميز بشكل واضح بين جميع العرب على أساس
الدين و/أو الموطن الأصلي. واضطر ذلك العرب المقيمين في تلك الدول إلى
تسجيل أنفسهم لدى السلطات. وقد أفاد عدد كبير من جماعات الحقوق المدنية
الأمريكية، على سبيل المثال، أن آلافاً من العرب الذين ذهبوا طوعاً
للتسجيل، اعتقلوا تحت زعم أن أوراق إقامتهم غير قانونية. وبفضل هذه
الإجراءات انطلقت صحافة الغرب ومن يكتبون فيها للإساءة إلى العرب
والمسلمين. ومن ذلك مثلاً ما كتبته آن كولتر وهي كاتبة صحفية أمريكية،
"يجب علينا أن نغزو ديارهم (المسلمين)"، ونقتل قادتهم ونجبرهم على التحول
إلى المسيحية. وفي مقالة أخرى دعت الإدارة الأمريكية إلى طرد جميع العرب
والمسلمين وإجبارهم على الحصول على موافقة من هيئة اتحادية قبل ركوب أية
طائرة في الولايات المتحدة.
إن هذا التجني على العرب
والمسلمين كان يقابله موقف مناقض تماماً تجاه أرييل شارون الذي استغل
جميع المهارات الإعلامية الشهيرة في إسرائيل واللوبي اليهودي في الغرب
لضمان وصول رسالته حول "الإرهابيين الفلسطينيين القذرين". فالآلة
الإعلامية الإسرائيلية تصوره على أنه الصديق الوحيد للغرب في الشرق
الأوسط، وأنه يقاتل "الإرهاب العربي" دفاعاً عن الغرب، وذلك بقتل واضطهاد
جميع أولئك الفلسطينيين الجشعين الذين يثيرون المشاكل ويجرؤون على
المطالبة باستعادة وطنهم، وهو يريد الآن بمساعدة أمريكا أن يجعل الغرب
أكثر أماناً عبر إلقاء العرب الكريهين في البحر.
وقد أدت هذه الأعمال
الهادفة كما تزعم، لحماية الغرب، إلى إثارة حملة من العنصرية والكراهية
والظلم. وأشعلت تلك الحملة الظالمة لهيب نار في أفئدة شعبنا العربي سيكون
من الصعب إطفاؤها. فلو سألتم أي شخص في شارع أي مدينة أو بلدة أو قرية في
العالم العربي عن مشاعره إزاء معاملة الغرب وإسرائيل للعرب
والمسلمين،لأجاب الجميع دون استثناء تقريباً، أن الأمر يبدو كحرب تُشنّ
ضدهم وضد دينهم. وهذا الشعور المتنامي بسرعة يوحدنا بطريقة لم نعهدها من
قبل.
والغرب ينوي الآن أن يصب
الزيت على لهيب الغضب العربي بغزو العراق. كم من البشر سيفقدون حياتهم في
هذا الاستعراض المقبل للقوة الإمبريالية؟ لا أحد يعلم. لكن المؤكد أن
سعير الحرب والغضب سوف ينبت هوية عربية جديدة للقومية. وهذه الهوية لن
تشبه سابقتها بأي حال من الأحوال.
صديقي الغالي تريم، هذه
الهوية العربية الجديدة، كما أخشاه، لن تكون تلك القوة المسالمة التي كنا
نحلم بها لتوحيد شعبنا، فوحدتنا المقبلة ستكون حصيلة للإساءة الكبرى التي
سيوجهها الغرب لأسلوب حياتنا، وسوف تبنى على إرادة شعبنا بأن يكون قادراً
على الصمود والتعبير عن فخره بتراثه الحضاري وتمسكه به، لا أن يكتفي
بتلقي الأوامر من بعض قادته. وإذا لم ينجح التطرف في السيطرة عليه، ولا
القضايا الإقليمية التافهة بتجزئته، فإنه سيكون قوياً بما يكفي للتغلب
فيما بعد على كراهية الغرب له، وسيستعيد عظمة شعبنا ويحقق نهضة الحضارة
العربية، وسينتقل إلى حقبة من النمو الاقتصادي والحرية بما يؤهلنا
لاحتلال مكانة لائقة بين الأمم.
لقد رحلت، يا صديقي، إلى
ما هو أبعد من هذه الاهتمامات الدنيوية، بينما بقيت أنا وجميع إخوانك
العرب مجبرين على ٍالعيش في هذه الأوقات المهمة"، كما يقول المثل الصيني.
لكنني أؤكد لك أن كثيرين من العرب سيفعلون كل ما بوسعهم للإسهام في توحيد
شعبنا وتحقيق حلمنا المشترك.
خلف أحمد الحبتور
|