ضمن
هذا الالتزام القاطع من جانب رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير بتعزيز
"العلاقة الخاصة"، أخذ بلير يغرف بلا حساب من خزائن الضرائب ويبتعد عن
قادة "أوربا القديمة" في الاتحاد الأوروبي وأصبح ينظر إليه كمجرم حرب
محتمل من جانب منظمات حقوق الإنسان ويوصف بأنه "كاذب" من قبل زملائه في
البرلمان البريطاني وبأنه "الكلب المدلل" من قبل شعبه.
إن
من الطبيعي لأفضل العلاقات أن تقوم على الأخذ والعطاء بالطبع، والعلاقة
البريطانية الأمريكية ليست استثناء. إذ أن بريطانيا تعطي وأمريكا تأخذ.
بدأت
أولى إرهاصات هذا التوازن المختل تبدو للعيان حين تجاهل البنتاغون مطالب
بريطانيا بترحيل البريطانيين المعتقلين في غوانتنامو في الوقت الذي وفرت
فيه واشنطن محاكمات عادلة على أرض الوطن للمواطنين الأمريكيين مثل المدعو
بالطالباني الأمريكي جون ووكر. أما المعتقلون البريطانيون فاعتقلوا في
غوانتنامو بدون تمكينهم من الاتصال بعائلاتهم أو محاميهم.
بعد
ذلك، ورغم أن الولايات المتحدة هي شريكة بريطانيا في الجريمة المرتكبة في
العراق، لأن ما حدث هو بالتأكيد جريمة، رفض جورج بوش التوقيع على معاهدة
المحكمة الجنائية الدولية فيما أصبح البريطانيون ومواطنو معظم الدول
الأخرى خاضعين لسلطانها القضائي.
وهذا
يعني أن مسؤولين كبار في حكومة بلير والقوات البريطانية قد يجدون أنفسهم
يوماً ما بجانب سلوبودان ميلوسيفتش في محكمة لاهاي بتهمة ارتكاب جرائم
حرب أو غيرها من الانتهاكات لحقوق الانسان التي ارتكبها الأمريكان في
غزوهم غير الشرعي بمشاركة بريطانية.
أما
فيما يتعلق بالمعاهدات ثنائية ومتعددة الأطراف، فقد أصبح يعرف عن إدارة
بوش أنها تضع مصالحها الخاصة قبل أي شيء آخر. ومن أبرز الأمثلة على ذلك،
معاهدة كيوتو للتغير المناخي التي رفض بوش المصادقة عليها ومعاهدة الحد
من الصواريخ البالستية التي أنهاها بوش من طرف واحد.
أنانية الحكومة الأمريكية بادية أيضاً في سياساتها التجارية. ولنتذكر
أيضاً التعرفات الجمركية التي فرضتها على واردات الفولاذ في انتهاك
لقواعد منظمة التجارة العالمية والتي لم ترفعها إلا في عام 2004 حين هدد
الاتحاد الأوروبي والدول الآسيوية بإجراءات انتقامية مماثلة. بوش كان
يعرف أن هذه التعرفة لم تكن قانونية، ومع ذلك مضى قدماً في فرضها.
كما
تستخدم الإدارة الأمريكية اتفاقيات التجارة الحرة مع الدول الأخرى كعصا
وجزرة لتجبر الدول الأخرى الأصغر على الدخول فيها، وهي اتفاقيات تميل
بشكل مفرط في صالح الولايات المتحدة.
وعلى
سبيل المثال، خلال المفاوضات الأمريكية الحالية مع الإمارات العربية
المتحدة على اتفاقية التجارة الحرة، طالب الأمريكيون بأن تلغي الإمارات
عقوبة الإعدام كشرط مسبق لتوقيع الاتفاقية. إن النفاق في هذا المطلب
سافر.
وسفور انعدام التوازن حاضر أيضاً في معاهدة تبادل المطلوبين الموقعة عام
2003 بين بريطانيا والولايات المتحدة بهدف مزعوم هو تسريع عملية اعتقال
وإدانة المشتبهين بالإرهاب. إذ فيما تطالب الولايات المتحدة بتقديم دليل
دامغ من الدرجة الأولى كشرط مسبق لإرسال مواطنيها ووضعهم تحت وصاية
أجنبية، لا تطالب بريطانيا بأكثر من إيماءة أو إشارة إلى جانب إثبات
لشخصية المطلوب.
وهناك المزيد أيضاً. إذ على الرغم من أن الهدف الأصلي من وراء توقيع
الاتفاقية هو التخلص من الروتين وتسريع الإطار الزمني حين التعامل مع
مسألة تسليم المشتبهين بالإرهاب، أصبحت الولايات المتحدة تستخدم هذه
الاتفاقية على راحتها لتغطي أي جريمة حتى ولو لم تحدث على الأراضي
الأمريكية. ومن أصل 43 قضية بتسليم مشتبهين قدمتها الولايات المتحدة
لبريطانيا منذ توقيع المعاهدة، فإن نصفها تتعلق بجرائم مالية.
وهناك عدة قضايا منها لاتزال قيد التنفيذ. الأولى تتعلق بثلاثة مصرفيين
سابقين بريطانيين هم ديفيد بيرمنغهام وجيلز ديربي وغاري ميلغرو الذين
يعرفون بـ "ثلاثي بيرمنغهام".
وقد
طلبت محكمة في تكساس بترحيلهم إلى الولايات المتحدة لما يزعم عن تورطهم
في فضيحة شركة إنرون حينما كانوا موظفين في مصرف ناتويست بانك، وهو شركة
شركة فرعية لمصرف رويال بانك أوف سكوتلاند غروب. ويتهم الثلاثة بالتآمر
مع مسؤولي إنرون لإقناع مصرف ناتويست ببيع حصته في شركة مقرها جزيرة
كايمان لإنرون بسعر زهيد جداً.
وفي
تلك العملية، كان هناك تباين بين السعر الذي قبضه مصرف ناتويست مقابل
حصته وهو مليون دولار أمريكي وبين 20 مليون دولار دفعتها إنرون. وتقول
المحكمة الأمريكية إن هذا الفارق قد اختلسه ثلاثي بيرمنغهام إلى جانب
أندرو فاستو ومايكل كوبر من إنرون.
محامي ثلاثي بيرمنغهام يدفع ببراءة موكليه، وهذا أمر طبيعي، لكن أياً
كانت الحقيقة فإن لديه دعوى لا يمكن دحضها. الثلاثة هم مواطنون بريطانيون
وجريمتهم المزعومة حدثت داخل بريطانيا كما أن رب عملهم السابق هو مصرف
بريطاني. ومع ذلك، فإن وزير الداخلية البريطاني تشالز كلارك يستعد
لتسليمهم إلى السلطة القضائية لمحكمة أجنبية بسبعة تهم فساد في التحويلات
المالية دون أن ترف له عين.
الثلاثي من جانبهم يستعدون للمقاومة بكل طاقتهم من أجل البقاء في
بريطانيا بالنظر إلى السمعة غير الطيبة للنظام القانوني في تكساس كما
يستعدون للاستئناف ضد قرار وزير الداخلية أمام مجلس اللوردات وإذا لم
ينجح ذلك فسيعترضون عليه أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. أضف لذلك
أنهم يقولون إن الدعوى المقامة ضدهم إن عرضت أمام محكمة بريطانية فلن
يكون لها فرصة في النجاح.
البريطاني الآخر الذي ربما يتعين عليه أن يحزم أمتعته ويعبر الأطلسي هو
غاري ماكينون من شمال لندن. ماكينون تتهمه وزارة الدفاع البريطانية
باختراق 97 كمبيوتراً للبنتاغون وناسا والبحرية والجيش الأمريكي بين
فبراير 2001 ومارس 2002 مما سبب خسائر بحوالي مليون دولار.
اعتقل ماكينون في بريطانيا عام 2002 وأطلق سراحه دون توجيه اتهام له. غير
أن الولايات المتحدة تلاحق طريدتها هذه بدون هوادة متجاهلة أن الاتفاقية
الموقعة تختص بجرائم العنف والإرهاب فقط.
كارين تودنر محامية ماكينون تقول: "إن ماكينون مواطن بريطاني ويجب أن
يحاكم هنا أمام محاكمنا وبهيئة محلفين بريطانيين وليس في الولايات
المتحدة."
كما
تلاحق المحاكم الأمريكية بريطانياً آخر هو إيان نوريس المدير التنفيذي
السابق لشركة مورغان كروسيبل الهندسية البريطانية والمتهم بتثبيت أسعار
الكربون عبر شركتين فرعيتين أمريكيتين لمورغان كروسيبل بين 1989 و2000
على الرغم من أن مثل هذه الأفعال الاحتكارية لم تعتبر مخالفات قانونية في
بريطانيا حتى عام 2003.
ومثل
البقية فقد اعترض نوريس على قرار تسليمه للولايات المتحدة ورفض اعتراضه
ومثل البقية أيضاً يعتزم عرض قضيته على مجلس اللوردات.
هناك
حالياً 19 سجيناً غير أمريكي في السجون الأمريكية بتهم الاحتكار، غبر أن
نوريس هو أول من تسعى الحكومة الأمريكية لتسلمه. وفي حال نجحت المطالبة
الأمريكية، يعتقد المدعون الأمريكيون أن هذه السابقة ستفتح الباب أمام
سيل من المدراء التجاريين البريطانيين غيره وخصوصاً وأن المعاهدة ليست
محدودة بعدد أعلى.
لا
أحد يعلم إلى أين يمكن أن تصل هذه المطاردات بتهمة الاحتكارات. لكن من
المفهوم أننا قد نرى اليوم الذي تقرر فيه الولايات المتحدة أن منظمة
أوبيك هي كارتل احتكاري وبالتالي تبدأ بمطاردته.
في
عدد مايو الماضي، نقلت مجلة إيكونوميست عن نائب مساعد وزير العدل
الأمريكي سكوت هاموند قوله أمام مؤتمر للجرائم المالية قوله: "إن جعل
المملكة المتحدة الدولة الأولى التي تدعم جهودنا في تسليم المطلوبين
إنجاز مهم."
نعم
بالتأكيد هو إنجاز مهم. فحكومة المملكة المتحدة تبدو ناكرة للذات نهائياً
حين يتعلق الأمر بتسليم مواطنيها للأجانب بدون أن تطالب بالمجاملات نفسها
في المقابل. وحين توقع على معاهدات تعطي الجانب الآخر معظم الغنائم حين
يكون الطرف الآخر هو الولايات المتحدة.
وإذا
كان المدراء التجاريون الكبار والنافذون والمتعلمون يشحنون لمواجهة
العدالة الأمريكية، إذاً أي فرصة سيحصل عليها المسلمون البريطانيون
المتهمون بنشاطات إرهابية؟
بموجب معاهدة 2003، قرر قاض بريطاني أن بابار أحمد البالغ من العمر 31
عاماً، وهو خبير في الكمبيوتر يعيش في لندن، جاهز للترحيل إلى الولايات
المتحدة بزعم أنه استخدم مواقع إنترنت من أجل التحريض على قتل جنود
أمريكيين.
القاض تيموثي وركمان الذي رفض استئناف أحمد ضد قرار تسليمه أعطى الانطباع
بأنه لم يكن راضياً جداً عن قراره نفسه لأن يديه كانت مقيدتين بشروط
المعاهدة.
يقول: "هذه قضية صعبة ومربكة. المدعى عليه، وهو من الرعايا البريطانيين،
متهم بأنه ارتكب مخالفات إن توفر الدليل عليها لكان بالإمكان محاكمته في
هذا البلد. ومع ذلك، فإن حكومة الولايات المتحدة مخولة بأن تطلب تسليمه
لها بموجب شروط المعاهدة وأنا راض لأن ... أياً من الاعتراضات المبطلة لا
تنطبق على حالته..."
هذه
الدعوى أثارت غضب المسلمين البريطانيين الذين قاموا بعدة تظاهرات في
الشوارع. ويقول إقبال ساكراني الأمين العام للمجلس الإسلامي في بريطانيا:
"هذا يوم حزين جداً لكل من يحترمون العدالة والإنصاف. أصبحت الولايات
المتحدة ببساطة قادرة على أن توجه أوامرها بانتزاع المواطنين البريطانيين
من شوارعنا وإرسالهم إلى السجون الأمريكية عبر إطلاق مزاعم خطيرة وغير
ذات دليل عليها نهائياً ضدهم."
أحد
الذين يعرفون تماماً أمر هذه المزاعم الخطيرة وغير ذات الدليل عليها
نهائياً هو ديريك بوند، وهو جد ومستشار هندسي بريطاني في أواسط
السبعينيات من العمر أمضى ثلاثة أسابيع ونصف في سجن بجنوب إفريقيا بطلب
من مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي.
ذهب
بوند في إجازة طالما حلما بها ولكن قبل أن يحزما حقائبها ويعودا ألقي
القبض عليه. الأمريكيون قالوا للجنوب إفريقيين إن الرجل الذي طلبوا
اعتقاله ليس هو في الحقيقة ديريك بوند وإنما هو نصاب اسمه ديريك سايكس.
ومرت الأسابيع دون أن يكلف مكتب التحقيقات الفيدرالي نفسه عناء الذهاب من
أجل التحقيق مع المطلوب لهم والتأكد إذا ما كان هو ديريك سايكس والذي
اكتشفوا وجوده في لاس فيغاس و يعرف أن بوند كان لايزال في السجن في جنوب
إفريقيا.
لقد
حان الوقت بالتأكيد ليعيد البريطانيون تقييم ماتدعى بالعلاقات الخاصة بين
بريطانيا والولايات المتحدة. قد نعذر البريطانيين إذا ما اعتقدوا أنهم
"بأصدقاء مثل هؤلاء، فمن الذي يحتاج لأعداء؟" لكن للإنصاف، ليست الولايات
المتحدة هي التي تستحق كل اللوم. إذا أن ما سمح لها بالتصرف كيفما تشاء
دون مساءلة إنما هو التملق الذليل من جانب داوننغ ستريت.
مؤخراً، ذهب طوني بلير إلى واشنطن ليصرف من رأسماله السياسي لدى جورج
بوش- أو ما يعتقد أنه رأسماله السياسي- بخصوص قضيتي المناخ العالمي
وإنهاء الفقر في إفريقيا. وعاد من هناك بحفنة من الدولارات لاتمثل أكثر
من قطرة واحدة في محيط بأكمله مقارنة بالمبالغ التي ينفقها البيت الأبيض
على الحروب والقليل غيرها.
في
السابق أمل بلير أن بوش سيهتم شخصياً بإقامة دولة فلسطينية غير أن كل ما
حصل عليه هو الكثير من الحبر على الورق.
إن
هذه العلاقة الخاصة ليست أكثر من طريق في اتجاه واحد، البريطانيون هم
الخاسرون فيها. لقد أصبحت ماسوخية رئيس الوزراء شيئاً محرجاً لبريطانيا.
كانت
مارغريت تاتشر مولعة بالقول "إن هذه السيدة ليست للدوران" لكن في حالة
طوني بلير يتعين عليه أن يستدير 180 درجة سريعاً بداية بتمزيق المعاهدة
التي ستأخذ المصرفيين وخبراء الكمبيوتر والمهندسين البريطانيين من بين
أقاربهم وأصدقائهم وتضعهم أمام محاكم أمريكية بدون أي دليل على ارتكابهم
مخالفات.
وإليكم المفارقة هذه. إدارة بوش مهتمة بتسليم البريطانيين المتورطين في
كارتيلات احتكارية، لكنها لاتقول شيءاً عن دعمها لأحمد جلبي ومحاولته
تزعم العراق رغم أنه مطلوب في الأردن بتهمة الاختلاس. بل إنها نصبت جون
نغروبونتي سفيراً لها في بغداد وهو من أهم المتورطين بفضيحة إيران
كونترا.
يؤسفني القول إن الشيء الوحيد الخاص في العلاقة البريطانية الأمريكية هو
تكرار المرات التي يتعين على رئيس وزراء بريطانيا أن يمضغ البرغر في
كراوفورد ويتجشأ كرامة بلاده.
|