هذا
التفوق التركي في سلاح المدفعية مكن الأتراك من فتح معظم شبه جزيرة
البلقان و حصار فينيا مرتين قبل أن يبدأ الأوروبيون بتطوير
تقنيتهم المدفعية. وعلى الجانب الآخر من العالم، استطاع الأتراك أن
يوسعوا سيطرتهم على مختلف أنحاء وسط آسيا.
واكتملت الإمبراطورية الإسلامية بقيام الإمبراطورية المغولية على يد
بابار حاكم كابول. فقد استطاع بابار أن يهزم الجيش الضخم ولكن سيء
التنظيم الذي كان لإبراهيم لودي في 21 إبريل 1526 بفضل الأسلحة النارية
الصغيرة والفاعلة إضافة إلى سلاح جديد رهيب أتى به معه وهو المدفع. ولا
بد أن هذا النجاح لمدفعية بابار في بانيبات قد جعلت من المدفعية سلاحاً
لا غنى عنه وأصبح استخدانها شائعاً في الهند المسلمة.
بعد
ثلاث سنوات من معركة بانيبات، سيطر بابار على كامل شمال الهند وأوصل حكمه
إلى حدود البنغال. وسرعان ما بدأ جيشه بالاصطدام مع قوى البنغال التي
كانت معقلاً للباتان والأفغان لأكثر من قرن قبله.
أحد
أشهر المدافع التاريخية هو "مالك الميدان" في بيجابور بجنوب الهند. وهذا
المدفع صنعه عام 1549 ضابط تركي في خدمة ملك أحمدناغار. يبلغ طول المدفع
14 قدماً وأربع بوصات وقطره 4 أقدام و11 بوصة ووزنه حوالي 55 طناً ومزخرف
بنقوش عربية وفارسية. وحين سقط حصن باراندا، حيث كان المدفع منصوباً، بيد
بيجابور أخذوه كغنيمة حرب ووضعوه في مكانه الحالي عام 1632. واحتاج نقله
لعشرة أفيال و400 ثور وأعداد كبيرة من الرجال. المدفع مصبوب من سبيكة من
النحاس والحديد والقصدير وحين يطرق يرن مثل الجرس.
أطول
مدافع بيجابور كان "لامباشاري"، الذي يبلغ طوله 30 قدماً و7 بوصات. وقطره
عند الفوهة 3 أقدام وبوصتين. هناك أيضاً مدفع آخر طوله 19 قدماً و10
بوصات وعيار السبطانة 8 بوصات. كل هذه المدافع باستثناء مالك الميدان
كانت مصبوبة من الحديد. وكانت تصنع بوضع قضبان أفقية طويلة مربعة المقطع
حول نواة أسطوانية، فيما تزلق حلقات حديدية حارة فوق هذه القضبان واحدة
بعد الأخرى مشكلة سبطانة صلبة متماسكة حين تبرد وتلحم مع بعضها.
المدفع الوحيد الذي كان يقارن بمدفعية بيجاور الضخمة كان مدفع مدينة دكا
في بنغلادش الحالية والمفقود حالياً. وكان مصنوعاً مثل مدفعية بيجابور من
14 قضيب حديدي بطول 22 قدماً و10 بوصات ونصف. أما قطره عند الفوهة فكان 3
أقدام و3 بوصات ويزن 25 طناً. لكن ضفة النهر الذي كان منصوباً عليها
انزلقت نتيجة تيار النهر فغرق المدفع وضاع منذ ذلك اليوم.
مدفع
"كالو جامجان" في دكا أيضاً يبلغ طوله 11 قدماً وقطره عند الفوهة قدمان
و3 بوصات فيما عيار السبطانة 6 بوصات. ويعتقد أن صانع هذا المدفع هو كالو
كامار والذي يعتقد أيضاً أنه صانع مدفع دكا الضخم الذي غرق في النهر. اسم
المدفع الذي غرق هو "مريم" وقد سمي كذلك على اسم زوجة صانعه، فيما " كالو
جامجان" سمي على اسم صانعه. مريم، المدفع، يعتقد أنه كان ضعف حجم كالو
جامجان. غير أن كالو جامجان لا يقل عنه شهرة ومن يزورون دكا اليوم لا
تكتمل زيارتهم إن لم يشاهدوا هذا المدفع على ضفة النهر في ساردارغات.
عادت
الحرب إلى القسطنطينية مرة أخرى عام 1807، مع البريطانيين هذه المرة.
هاجم البريطانيون القسطنطينية بأسطولهم من البحر. وفي ساعة الحاجة تلك،
عاد الأتراك مرة ثانية إلى سلاحهم الذي كان قد فتح لهم المدينة قبل 354
سنة. أنزلت المدافع من أماكن عرضها ودكها المدافعون وبدأو بقصف الأسطول.
قذيفتان زنة 700 رطل أصابتا هدفيهما وأصابتا سفينتين بريطانيتين إصابتين
بالغتين وقتلتا 70 بحاراً بريطانياً. وهكذا عادت مدفعية الزمن الغابر
لتمكن الأتراك من توجيه ضربة فتاكة لتهديد داهمهم في يومهم الحاضر.
ثم
عاد السلام، وبعد 60 عاماً من تلك المعركة كانت العلاقات الجيدة تجمع
الأتراك والبريطانيين. وكعربون صداقة، أهدى السلطان عبد العزيز ملكة
إنجلترا فيكتوريا أحد المدافع التي أطلقت نيرانها على جنودها. وغير
البريطانيون اسم المدفع الذي يزن 17 طناً ليصبح "مدفع الدردنيل" وعرض عند
برج لندن الشهير حيث يأتيه السياح من كل أنحاء العالم ليروه.
تعددت أشكال وأحجام المدفعية في القرون التي تلت اختراعها. غير أن هذا
السلاح ظلت تعيقه ضعف قدرته على الحركة وبقيت فاعليته مقصورة على كونه
سلاح حصار. مدفعية القرنين السادس عشر والسابع عشر كانت تصب من البرونز.
وفي أوائل القرن السابع عشر استطاع الملك غوستاف أدولفوس أن يدخل بجيشه
مدفعية ميدانية متحركة تطلق قذائف خفيفة. وحتى عام 1888، كان أضخم مدفع
في الخدمة هو المدفع الإيطالي كروب الذي يزن 119 طناً وأنتج عام 1884.
لكن في عام 1888- 1890، أنتج الصانع نفسه مدفعاً يزن 135 طناً لجزيرة
كرونستاد. وكان أثقل مدفع بريطاني في ذلك الوقت يزن 111 طن ويطلق قذائف
زنة 1800 رطل بسرعة أولية تبلغ 2216 قدم/ ثانية عند الفوهة.
واستطاعت الأساطيل سريعاً أن تدخل المدفعية إلى السفن وتصبح سلاحاً
أساسياً في الحروب البحرية. ولاحقاً تراجعت شعبية المدفعية الضخمة أمام
الرغبة في المدفعية الخفيفة ذات سرعة الإطلاق الكبيرة. ومع تزايد قدرتها
الحركية، أصبحت المدفعية أكثر فاعلية في الحروب ضد الجنود والخيل. وفي
القرن التاسع عشر حلت القذائف المتفجرة محل المقذوفات الكروية. وباندلاع
الحرب العالمية الأولى كانت الجيوش تمتلك أيضاً مدفعية الهاون والهاوتزر.
كما تزايد استخدام المدفعية المركبة على دبابات في الحرب العالمية
الثانية ثم تطورت عقب الحرب المدفعية المحمولة وأنواع أخرى من المدفعية
المتخصصة مثل تلك التي تطلق الصواريخ والقذائف النووية.
|