حينها
أصبح غالاوي الرجل هو المستهدف. صحيفة كريستيان ساينس مونيتور اتهمته
بقبض مبالغ ضخمة من صدام حسين واعتمدت في اتهامها هذا على وثائق مزورة
حصلت عليها من جنرال عراقي سابق. كما أن أحد مراسلي ديلي تلغراف في بغداد
عثر على واحدة من هذه الوثائق المزيفة في واحدة من الوزرات العراقية. وفي
كلتا الحالتين رفع غالاوي دعوى تشهير أمام القضاء وربحهما وحصل على مبالغ
كبيرة تعويضاً عن الضرر وتكاليف المقاضاة.
ثم عاد
غالاوي المنتصر، في 2004، إلى تلفزيون أبو ظبي مرة أخرى وأخذ يطلق
انتقاداته النارية اللاذعة قائلاً: "إن الذين غزوا العراق وقتلوا أكثر من
مليون عراقي بالعقوبات والحرب سيحرقهم الله في نار جهنم وسيصفهم التاريخ
بالقتلة ومجرمي الحروب على مدى الزمن.
"الفلوجة
هي جيرنيكا، هي ستالينغراد، والعراق يحترق بسبب أفعال هؤلاء المجرمين
وليس المقاومة، لا أحد غير هؤلاء المجرمين الذين غزوا العراق وولغوا في
دم شعبه كالذئاب."
ومع
اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية البريطانية، بذل الإعلام كل ما بوسعه
للتشهير بغالاوي. وخلال لقاء تلفزيوني مع آي تي إن قبل الانتخابات، بث
التلفزيون صور فيديو لغالاوي وهو يتبادل المجاملات مع صدام حسين خلال
زيارته تلك لبغداد مما دفع ذلك الاسكتلندي الذي لا يعرف المراوغة إلى رمي
السماعة التي على أذنه والخروج من الاستديو قائلاً إن تلك الصور بثت دون
أن توضع في سياقها. وقد كانت كذلك بالفعل.
ولم
تتمكن صنداي تايمز من مقاومة الهجوم على غالاوي قبل سويعات فقط من بدء
البريطانيين التصويت. واختارت الصحيفة أن تنقض على مقتل لغالاوي بالتطرق
إلى حياته الشخصية لخبر يقول "زوجة غالاوي تطلب الطلاق عشية الانتخابات".
ولكن حيث تطرق آدم بولتون من سكاي نيوز عن الأمر بابتسامة صفراء، رد عليه
غالاوي على الفور قائلاً: "الذي بيته من زجاج يجب ألا يرمي الآخرين
بالحجارة."
كما ألمح
غالاوي إلى أن أجهزة خارجية كانت وراء إفشال زواجه عبر دفع مجهولين إلى
الحديث مع زوجته بالهاتف وإخبارها بالكثير من الأكاذيب عن خياناته
المزعومة.
واختار
غالاوي أن ينافس حزب العمل على أكثر المقاعد التي تعتبر مضمونة للحزب
ونجح في التغلب على البرلمانية المؤيدة للحرب والتي كانت بالغة الشعبية
وهي أونا كينغ بفارق 10 آلاف صوت.
وقعت
المواجهة بين الاثنين في أحد أحياء لندن الفقيرة الذي تسكنه جالية مسلمة
كبيرة وكانت مواجهة شرسة حافلة بالتنابز بالألقاب والتهديدات ورمي البيض
وحتى اللكمات. وحين احصاء الأصوات خرج غالاوي منتصراً. وكانت تلك لحظة
مجد وفرصة لثأر لذيذ من حزب العمال الذي ألغى عضويته بكثير من التبجح.
وقال
غالاوي منتشياً في خطاب قبول عضويته قبل أن يتهم الخصوم بمحاولة التلاعب
بإحصاء الأصوات في مصلحة كينغ: "يا بلير، كل هؤلاء الناس اللذين قتلتهم
وكل تلك الأكاذيب التي قلتها لنا، ها قد عادت لترتد عليك." كان ذلك صدمة
وإزعاجاً غير مسبوق لبلير وحزب العمال.
وبدلاً
من أن يهنئ الإعلام عضو البرلمان العائد، عاود الهجوم عليه. وتوجه إليه
جيرمي باكسمان من بي بي سي بالسؤال: "سيد غالاوي، هل تشعر بالفخر لأنك
تخلصت من واحدة من النسوة السوداوات القليلات جداً في البرلمان؟"
غالاوي
الفرح بانتصاره ومقعده الجديد في البرلمان اختفت ابتسامته العريضة. وقال
له: "ياله من سؤال مناف للطبيعة؟ أعرف أن الوقت أصبح آخر الليل، لكن أليس
من الأفضل أن تبدأ بتهنئتي على تحقيقي واحداً من أكثر الانتصارات
الانتخابية إثارة في تاريخنا المعاصر؟"
لكن
باكسمان أعاد السؤال. فطلب منه غالاوي أن يتابع، غير أن باكسمان أعاد
هجومه كالكلب الذي يحمل على عظمة وقال له أخيراً: "أنت لم تجب على هذا
السؤال؟"
فأجاب
غالاوي :" لا. أعتقد أن الناس يفوزون بالانتخابات بفضل تاريخهم وسياساتهم
وليس بسبب لون جلودهم." ومثلما حصل مع آي تي إن، خرج من الأستوديو ولكن
ليس قبل أن يصف زملاءه في البرلمان بأنه "جبناء" و"متملقون" ولم ينس أن
يتهم بلير وأونا كينغ بقتل أعداد لا تحصى من العراقيين
في غضون
ذلك، أدانت لجنة من مجلس الشيوخ الأمريكي تحقق في فساد برنامج النفط
مقابل الغذاء غالاوي إلى جانب وزير فرنسي سابق بتلقي ملايين البراميل من
النفط العراقي مقابل دعمهما للنظام العراقي السابق.
وقال
رئيس اللجنة الجمهوري نورم كولمان: "برنامج النفط مقابل الغذاء وضع
للسماح للحكومة العراقية ببيع النفط مقابل السلع الضرورية إنسانياً
لتمكين الشعب العراقي من التكيف مع العقوبات الدولية التي فرضت على
العراق بعد غزو الكويت عام 1991. غير أن صدام تلاعب بعوائد البرنامج
للحصول على إيرادات غير شرعية وكسب النفوذ عبر إعطاء مسؤولين حكوميين
وناشطين ومسؤولين دوليين وصحفيين قسائم نفط عراقي يمكنهم بيعها لاحقاً
لتحقيق الأرباح."
وقالت
اللجنة إن غالاوي حصل على مخصصات بلغت 20 مليون برميل بين 2000 و2003 عبر
صندوق خيري لمعالجة الأطفال المصابين بسرطان الدم أسسه غالاوي لمساعدة
طفلة عراقية في الحصول على العلاج وزعمت أن اسم غالاوي كان موجوداً على
وثيقة الإدانة.
بالنسبة
للجنة فإن غالاوي أدين وشهر به غيابياً وانتهى، غير أن ذلك الاسكتلندي
الذي الذي لا يهادن لم يعتبر أن الأمر قد انتهى بعد. فقد قال أن اللجنة
لم تتصل به أبداً ولم توجه إليه الدعوة ليقول ما لديه. حينها ارتكب
كولمان خطأ فادحاً بدعوته غالاوي دون أن يخطر بباله مطلقاً أن الأخير
سيأخذ الدعوة على محمل الجد ويذهب إليهم.
وهكذا
ذهب غالاوي إلى واشنطن بدلاً من أن يحضر جلسة افتتاح البرلمان الجديد.
وطلب غالاوي من كتائب الإعلام أن يحجزوا مقاعدهم بجانب الحلبة. ولم يخيب
غالاوي ظنهم.
قدم
غالاوي أداء قتالياً لم يسبق لمجلس الشيوخ المهذب أن واجه مثله واتهم
اللجنة بتشويه سمعته في كل أنحاء العالم دون أن توجه إليه سؤالاً واحداً.
وقال لأعضاء مجلس الشيوخ إن مزاعمهم هي "أم كل الأضاليل" وأضاف: "لم أكن
لا في السابق ولا الآن تاجر نفط لا شخصياً ولا بالوكالة." وقال لهم إن ما
يسمونه دليلهم هو زائف ويعتمد على وثائق مزورة بالطريقة نفسها الذي فعلته
كريستيان ساينس مونيتور وديلي تلغراف من قبلهم.
في ذلك
اليوم لم يكن غالاوي هو الذي يقف أمام المحكمة وإنما إدارة بوش. ورداً
على اتهامه بأنه كان ودوداً جداً مع صدام حسين، أجاب: "لقد قابلت صدام
حسين عدد المرات ذاتها التي قابله فيها دونالد رامسفيلد. أما الفرق فهو
أن رامسفيلد قابله ليبيعه الأسلحة... أنا قابلته لأقنعه بالسماح لمفتشي
الأمم المتحدة بالعودة إلى العراق."
ثم قال:
"انظروا إلى الفضيحة الحقيقية لبرنامج النفط مقابل الغذاء. إنظروا إلى
أول 14 شهراً حينما كنتم مسؤولين عن إدارة بغداد وحينما فقدت 8.8 مليار
دولار من ثروة العراق النفطية تحت أنظاركم. انظروا إلى هاليبرتن وغيرها
من الشركات الأمريكية التي لم تكتف بسرقة أموال العراق فحسب بل وسرقت
أموال دافع الضرائب الأمريكي.
"إنظروا
إلى النفط الذي امتنعتم حتى عن قياسه قبل أن تشحنوه وتبيعوه والذي لا
يعرف أحد أين ذهبت أثمانه. انظروا إلى 800 مليون دولار أمريكي أعطيتموها
للقادة العسكريين الأمريكيين للتجول بها حول البلاد دون أن تعدوها أو حتى
تزنوها..
"انظروا
إلى الفضيحة الحقيقة التي تتحدث عنها الصحف اليوم، والتي تم الكشف عنها
هنا في هذه اللجنة بشهادة سابقة. أكبر الجهات التي اخترقت العقوبات لم
يكن أنا أو الساسة الروس أو الفرنسيين. منتهكو العقوبات الحقيقيون كانت
شركاتكم وبتغاض من حكومتكم أنتم.
"لقد
أعطيت قلبي وروحي لمعارضة السياسة التي كنتم تروجون لها. لقد ضحيت بحياتي
السياسية لإيقاف القتل الجماعي للعراقيين بالعقوبات التي قتلت مليون
عراقي معظمهم أطفال... كما قلت للعالم إن دعواكم للحرب ليست سوى رزمة من
الأكاذيب."
بدا
أعضاء مجلس الشيوخ مرتبكين ومحرجين. تجاهلوا التهم الموجهة ضدهم وضد
حكومتهم وأنهوا المواجهة بسرعة. وعاد غالاوي إلى بلاده بطلاً. في تلك
المواجهة قال ما لا يجرأ أحد على قوله: الحقيقة كما رآها. ولهذا فليس من
المفاجئ أن شهادة غالاوي قد أزيلت من كل السجلات العلنية لمجلس الشيوخ
ومواقعه على الشبكة. كما أن معظم وسائل الإعلام الكبيرة في الولايات
المتحدة قد عدلتها أو أسقطتها.
ومنذ ذلك
الوقت تلقى غالاوي أكثر من 20 ألف رسالة تهنئة إلكترونية إلى جانب "عدد
لا يحصى" من الرسائل ووصف شهادته أمام اللجنة بأنها "نعمة مقنعة".
وبدلاً
من أن يركن إلى انتصاراته تلك، أسس غالاوي مؤخراً دار نشر ويعمل الآن على
تأليف كتاب بعنوان "المعركة في بيثنال غرين" يركز فيه على مقعده
البرلماني وكيف فاز به. ويصف كتابه بأنه ملتهب كما يتهم فيه أنصار حزب
العمال بالتلاعب بالأصوات وهو أمر يجري التحقيق فيه حالياً.
أمريكا
تنتظر غالاوي مرة أخرى أواخر هذا الصيف حيث سيبدأ جولة للحديث في عدة
جامعات أمريكية عن موقفه المعارض للحرب.
في رسالة
إلى صحيفة اسكتلاند أوف صنداي، تقول ماري ماك إلفين إنها مستعدة "للوقوف
في أي طابور من أجل أن أسمع ما سيقوله غالاوي عن حرب العراق وعن الأكاذيب
التي لا حصر لها التي قالتها لي حكومتي..."
وأضافت:
"فيما كان غالاوي يتحدث إلى لجنة مجلس شيوخنا ويهاجم حكومتنا التي لم تكن
صادقة مع الشعب الأمريكي، انتابني شعور بالحماس والغضب. أتمنى أن يكون كل
قادتنا المنتخبين مثل غالاوي، لكان العالم أفضل." الكثيرون، ومن بينهم
كاتبة هذه السطور، سيقولون إنها محقة
سواء
بجلناه أو ازدريناه، لا يمكن لأحد أن يتجاهله. جورج غالاوي يجب أن يوضع
في خانة أشجع السياسيين. حتى الآن يهاجم غالاوي أعداءه وخرج من معاركه
برائحة عطرة كالورود. غير أن سكاكينهم لم تسأم بعد ولن تجعله يعيش يوماً
دون أن ينشغل بمراقبة من يتربص به شراً. فالذئاب، مثل الفيلة، لا تنسى
بسرعة.
|