خلف أحمد الحبتور
لأيام
خلت، كنت أتابع عبر إحدى المرئيات الإنكليزيات حواراً مباشراً، على
الهواء، بين رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، ومجموعة من السيدات
الإنكليزيات، حول المستجدات الدولية الأخيرة، وخاصة حول الحرب على الشعب
العراقي، التي تجِّيش لها كل من الإدارتين الأمريكية والإنكليزية.
كان
واضحاً، أن مُحَاورَات توني بلير ينتمين إلى فعاليات اجتماعية مختلفة،
فبينهم سيدة الأعمال، وربة المنزلْ، والأم، والزوجة الخ...
الحوار،
ونوعية الأسئلة، والجرأة في طرح المواضيع وتوجيه الاتهام المباشر، وزرابة
اللسان، ووضع النقاط على الحروف، كان السمة الأبرز التي طغت على الأسئلة
التي كان لها الطابع الصريح والواضح، والتوجه الفوري إلى النقاط والأفكار
المطلوب مناقشتها، تمحيصها وتوضيحها...
الحوار
برمته، وكما بدا جليا،ً لم يكن نوعاً من الترف الفكري تتبارى فيه سيدات
بلا هدف، سوى إظهار سطحيتهن - ولا أعمم هنا - كما تعودنا في الكثير
الكثير من " الحوارات" العربية، التي تعد بترتيب مسبق مع " الجهات
المختصة"، وبتنسيق كامل مع " ذوي الشأن".
الحوار،
كان صرخة قلق، وألم، ورفض مطلق للحرب واستعداد لمحاولة منعها، حتى
بالأجساد...
أجزم، إنني
كرجل شرقي، ينتمي إلى هذه الأمة العربية والإسلامية كنت مندهشاً في أكثر
من مرحلة من هذا السجال الشيّق الذي دار بين بلير و السيدات الإنكليزيات،
كما اعتراني نوع من الإعجاب المفرط في ذلك المذيع الإنكليزي " ماكدويل"
الذي كان يدير الحوار بانحياز كامل إلى وجهة نظر السيدات المناوئة للحرب
على العراق، وببراعة المدرك لأصول التخاطب الطبيعي البعيد عن المجاملات
والمراهنات التي طغت على إحداثيات وشؤون الحوارات المماثلة في وطننا
العربي.
إحداهن على
ما أذكر، وجهت اتهاماً واضحاً إلى رئيس الوزراء البريطاني بأنه " الكلب
الصغير" المدلل للرئيس الأمريكي، قائلة بالحرف الواحد "يقولون عنك انك
مطواع، ورفيق " كالبوديل"، - والبوديل هو نوع من الكلاب الصغيرة الحجم
والفعالية – لدى جورج بوش"،
سيدة أخرى
أكدت أنها لن تعيد انتخاب بلير، لأنه خرج عن المبادئ التي انتخبته
لأجلها،
إحداهن
أبدت استعدادها لتكون درعاً بشرياً أمام الجيوش التي ستغزي العراق، وأخرى
جاهرت بتوجيه كلاماً استفزازياً لبلير حين قالت له أن ابنها قتل في أحداث
11 سبتمبر في نيويورك ولكنها لا تقبل هذه الحرب التي يحاول شنّها بلير
وبوش ضد المسلمين والعراق،
سيدة أخرى
اتهمت بلير بالعرقية والعنصرية، وقالت إن لا بلير، ولا غيره من الحكام
يملك أن يورط بريطانيا في حرب على الآخرين، ومن أجل بعض الآخرين، فالساسة
يرحلون، وتبقى الأوطان.
هذا غيض من
فيض ذلك الحوار الساخن، تلك المساجلة المشرّفة بين عينة من المجتمع
البريطاني، من الرأي العام الإنكليزي الذي يرفض برمته الحرب التي تشنها
إدارته على العراق.
أعترف، إن
تقديري لهذا الشعب العظيم تضاعف، وتضاعف، وأعترف
أيضاً إن إعجابي بتلك الديمقراطية العظيمة التي تسود بريطانيا
قد أزداد وأزداد، ألا أنني وفي الوقت عينه، أعترف أيضاً بأن خيبة أمل
شديدة تملكتني، وأنا أستحضر في خاطري صورة العالم العربي الرمادية على
مستوى الديمقراطية،
وكاد
الإحباط يتسلل إلى مواقع حصينة في تفكيري عندما عكست تلك الصورة على
الواقع العربي، اللامبالي والمرير...
ففي الوقت
الذي تدافع عنا نساء أوروبا، ويبدين استعدادهن للذهاب إلى العراق كدروع
بشرية تقف سداً، حائلاً، دون إراقة دماء أطفال العراق، في هذا الوقت عينه
تغط شعوبنا في سبات عميق، لا تدري ما تفعل.
هذا
الحوار، وأشباهه، التظاهرات الأوروبية المناهضة للحرب على شعب العراق
جعلني على يقين نهائي بأن الديمقراطية، قد دفنت في عالمنا العربي، دون
إجراء مراسم وفاتها، وان حرية الرأي قد اغتيلت في أصقاع امتنا، منذ نعومة
أظفارها، وان العمل الفعّال المبادر قد تم وأده منذ قرون عديدة...
فتحية
تقدير للديمقراطية الحقيقية... مرة جديدة وربما أكثر من كل المرات.
تداعيات
عظمة
الديمقراطية الإنكليزية، عظمة الشعب الإنكليزي تتجلى راهناً في لندن، وسط
كل هذه التداعيات الرسمية...
وزيرة
البيئة استقالت... وزير آخر في حكومة بلير يهدد بالاستقالة... عدد كبير
من أعضاء حزب العمال انسحبوا من الحزب، وبلير نفسه مهدد بالسقوط، ويقف
الآن في زاوية ضيقة نتيجة الحرب على الشعب العراقي...
وسط هذا
كله، يتلقى بلير الصفعة تلو الصفعة لكنه لا يبادر ويرد بانفعالية بعض
الديكتاتوريات العربية التي ترفض مواجهة شعوبها بالحقائق وَتُدخل الحوار
في دائرة الممنوعات، والسجال في خانة المحظورات والجريمة المتمادية...
الكون
يدور... والكرة الأرضية تدور أيضاً في حركتها الطبيعية نحو مساراتها...
ونحن أمة لا تعرف التواصل مع حكامها، أو قادتها، بينها وبينهم هوّة سحيقة
لا قرار لها، ولا نهاية... فمتى ننتظم في آلية الكون... في ديمقراطية
العالم... في المسار الصحيح.
|