بقلم: ليندا هيرد
دائماً
كان الأمريكيون هم أبطالي المفضلين. أذكر سنوات نشأتي التي قضيتها في
بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية حينما كان الأغنياء فقط يقتنون
التلفزيونات. بدلاً من التلفزيونات كنا نصطف نحن المحرومين من الترفيه
في طوابير صباح كل يوم أحد خارج دور السينما المحلية المتواضعة لنشاهد
عروض الإعادة لأفلام "لوريل وهاردي" وبوب هوب في سلسلة "الطريق" وأفلام
الحرب العالمية الثانية وأفلام رعاة البقر المذهلة لجون واين. لم تكن
معرفتنا للنهايات مقدماً تفسد علينا متعة المشاهدة. فالطيبون سينتصرون
حتماً على الأشرار، والطيبون هم دوماً الأمريكيون. لم يكن الفارس أبداً
يتردد في الظهور حين تلوح الفرصة، تماماً مثلما كان رئيس الشرطة ينجح
دوماً في الإمساك بالأشقياء.
دروس
التاريخ وآباؤنا علمونا أن الأمريكيين هم من منعوا هتلر من احتلال بلادنا
وكنا شاكرين لما اعتقدنا أنها أمة من الأبطال أمثال ستيف ماكوين الذين
حفروا بشجاعتهم الأنفاق إلى خارج معسكرات الاعتقال النازية المزرية
ليخرجوا منها بالحبال فتيتنا الأكثر سذاجة من أن يفعلوا ذلك بأنفسهم.
حين كان
آباؤنا يغمغمون متأففين بعبارات من مثل "الأمريكيون يحصلون على أجور
عالية ويفرطون في الغواية وفي وجودهم هنا"، كنا نعزو ذلك للشعور بالحسد.
كنا نعرف أن كل شيء على الجانب الآخر من الأطلسي أكبر وأفضل من أي شيء
تستطيع بلادنا المتواضعة توفيره لنا.
لازلت
أتذكر بوضوح والدي، الذي كان ضابط لاسلكي أيام الحرب، وهو يقول لي إن
أكثر يوم إثارة عاشه في حياته كان اليوم الذي دخلت فيه سفينته ميناء
نيويورك، ليجد هناك تمثال الحرية عينه منتصباً أمامه. يومها أدهشته أضواء
المدينة وهو يقارنها في مخيلته بقتامة أوروبا وأذهله توفر كل شيء يريده
المرء في أي ساعة من اليوم وفي أي مكان. ومع مرور السنين أصبحت بريطانيا
العظمى أقل "عظمة" مما كانت عليه مع اكتساب مستعمراتها الاستقلال. لكن
هذا لم يمنعنا من الشعور بالقدر السابق نفسه من الأهمية بفضل علاقتنا
الطبيعية مع العم سام. فالأمريكيون بطبيعة الحال هم أبناء عمومتنا،
والتاريخ والثقافة البريطانيان متداخلان عضوياً مع نظيريهما الأمريكيين،
وهذا ما جعلنا نفتح عقولنا وقلوبنا وبطوننا أيضاً لرموز "العالم الجديد".
منارة
الديمقراطية
مع
تقدمنا أكثر في العمر، أدركنا أن أمريكا قد ارتكبت أخطاء بعض الأحيان،
مثلما فعلت في جنوب شرق آسيا، لكننا كنا متأكدين حينها أيضاً أن قلب هذا
البلد ينبض في خانة الحق. فقد كانت أمريكا المنارة المشعة للديمقراطية
والحريات المدنية وحقوق الأنسان. وإذا ما رأى العالم ذات مرة أنه بحاجة
لمن يقوم بدور الشرطي، كانت الولايات المتحدة هي الخيار المنطقي
للكثيرين.
لم يكن
البريطانيون وحدهم من تطلعوا إليكم أيها الأمريكيون. فمعظم العالم قد
فعل، وبينهم العرب. ألا تصدقوني؟ اسألوا أي عربي تقابلوه عما كان يحسه
اتجاه الولايات المتحدة قبل 11 سبتمبر. على الأغلب سيفاجئكم الجواب.
بريطانيا هي من كان يُنظر إليه على أنه الاستعماري الشرير، وليس الولايات
المتحدة التي، كما قال كولن باول مؤخراً، كان كل ما أرادته هو بقعة صغيرة
من الأرض في ركن من العالم لتدفن موتاها.
بطبيعة
الحال، كان في أمريكا سياسيون فاسدون شأن باقي العالم كله، لكنها كانت
دائماً ما ترفضهم آخر الأمر لأن الأمريكيين في أعماقهم كانوا يعرفون
الفرق بين الصواب والخطأ.
حينما
قادت الولايات المتحدة الحملة ضد العراق في حرب الخليج عام 1991 وإلى
جانبها البريطانيون وغيرهم، كنا فخورين بهذه القيادة الأمريكية. فقد أخطأ
صدام حسين حين غزا جاره وعوقب على فعلته.
كوسوفو
بدورها رآها معظم البريطانيين حرباً عادلة. واحترمنا الولايات المتحدة
لأنها خاضت حرباً لا لأجل المكاسب ولا لدوافع أنانية بل لمجرد أن ذلك كان
الصواب.
لم تنظر
أمريكا للكوسوفيين من منظور دينهم. لقد كانوا مسلمين، لكن وما الفرق؟ ما
رأته الولايات المتحدة كان بشراً بأمس الحاجة لمن يمد لهم يد العون.
ثم أتى
11 سبتمبر 2001. وأي يوم كان! أي لحظة تفاعلية غيرت أصدقاءنا الأمريكيين
وباقي العالم، حين تهاوى البرجان التوأمان وتعرض معقل الولايات المتحدة،
البنتاغون، للهجوم.
حين
أصبحت أمريكا تحت الحصار، شعرنا نحن البريطانيين أيضاً بأننا تحت الحصار.
مليكتنا أمرت بتنكيس علم البلاد فوق قصر بكنغهام إلى منتصف ساريته في
خطوة لم تعرفها قرون من البروتوكول في البلاد. وجرى تعليق الشعائر في
الكاتدرائيات والكنائس في كل بريطانيا. لقد شاركنا أمريكا في آلامها
وخشينا على سلامتها.
لكن في
أقل من سنتين سريعتين، تغير كل شيء. أمريكا نفسها تغيرت.
دولتانا
بدأتا حرباً استباقية وغزواً لا شرعياً ولا أخلاقياً للعراق ضد رغبة
المجتمع الدولي. والحكومة البريطانية، بزعامة توني بلير، جعلت من نفسها
ذيلاً لأمريكا للخير والشر.
أصبح
زعيمنا بلير يُرى في صورة فرد من حاشية بوش. فهو وحكومته تلاعبوا
بالحقيقة بطلب من أسيادهم على الجانب الآخر من المحيط وعملوا على تغطية
النقيصة التي ارتكبتها أمريكا واستعدوا الكثيرين من حلفاء بريطانيا.
العداء لأمريكا انتشر في كل العالم، وما هو أسوأ من وجهة نظري، تحول
البريطانيين إلى منبوذين في عيون الكثيرين.
نعم، لقد
رأينا أمريكا وهي تتغير من أمة خيرة، أمة توفر الطعام للملايين من البشر
في أنحاء الأرض وتنشر الأفكار النبيلة والأمل للفقراء والمحرومين وتقاتل
من أجل حصول الجميع على حرية التعبير إلى دولة انعزالية في طموحاتها
ومفرطة في قوميتها ومستعدة للتخلي حتى عن أصدقائها القدامى إن خالفوها
الرأي.
أمريكا
تخلت من دون تردد عن فرنسا. ولم تتردد الخطابة الرعناء التي تأتينا من
غرب الأطلسي عن وصف الفرنسيين بأنهم "القرود الجبناء من أكلة الجبن"،
فيما كان أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي يسكبون المشروبات الفرنسية الفاخرة
في المجارير. وزير الخارجية باول قال إن فرنسا ستنال عقابها لموقفها
المعارض للحرب وأشار بوش إلى أن على الرئيس شيراك ألا يتوقع في المستقبل
القريب دعوة منه إلى مزرعته. أما غوندوليزا رايس فقالت إن بلادها يجب أن
تعاقب فرنسا وتتجاهل ألمانيا وتغفر لروسيا.
من يظن
هؤلاء أنفسهم بحق السماء؟ الشيء الوحيد المؤكد هو أن أولئك الذين أخذتهم
العزة بقوتهم قد اشتطوا ولا بد من أن تكون هناك عواقب لهذا.
لأصدقائي
الأمريكان، أقول:
كنتم
محقين في حربكم على الإرهاب، لكنكم أخطأتم حين خلطتم بين صدام حسين
وأسامة بن لادن. هل تعرفون أن 50 في المئة من الأمريكيين لا يزالون
يعتقدون أن الرئيس العراقي كان متورطاً في هجمات 11 سبتمبر؟
أنتم
محقون في حماية أنفسكم لكن ليس في التضحية بحرية الآخرين، مثلما فعلتم في
العراق الذي أصبحت بلادي وبلادكم قوتا احتلال فيه تدعيان توفير
الديمقراطية له، في الوقت الذي يدرك فيه بوش وبلير على وجه اليقين أن
إقرار نظام صوت واحد لكل مواطن لن يكون أمراً يسمحان به أبداً لأنه سيكون
دعوة مؤكدة لحكومة دينية إسلامية فيه.
لكم الحق
في الخلاف مع حلفائكم، لكن ليس في إهانتهم بسبب مخالفتكم الرأي، مثلما
فعل دونالد رامسفيلد وغيره من وجوه إدارتكم.
أنتم
محقون في حماية حدودكم لكن ليس في معاملة أناس طيبين، يريدون زيارة
بلادكم لأغراض مشروعة، بدون أي احترام، مثلما تفعلون مع الزوار المسلمين.
أنتم
محقون في محاولتكم كسب التأييد لقناعاتكم، لكن ليس في رشوة وترهيب الدول
الأصغر والأضعف منكم مثلما حاولتم فعله في مجلس الأمن الدولي قبيل الغزو.
أنتم
محقون في توقعكم من حلفائكم العتيدين في الشرق الأوسط أن يقفوا معكم
جنباً إلى جنب وقت الحاجة لهم، لكن على ألا يكون ذلك على حساب أمنهم
ومعتقداتهم - وهو القرار الذي فرضتم على تركيا والسعودية والأردن مؤخراً
مواجهته.
إنكم
تستحقون الإدانة لدعمكم إسرائيل ما دمتم تقدمون هذا الدعم دون أي قيد أو
شرط، وهو ما يمكن إسرائيل من التمترس بحمايتكم وقوتكم لتفعل ما تريد ضد
الشعب الفلسطيني المسكين الرازح تحت احتلالها. ومادمتم تستخدمون نفوذكم
داخل الحكومة الإسرائيلية كورقة ضغط تلوحون بها في وجه الدول العربية لحث
قادتها على الانحناء أمام إرادتكم وأنتم تلوحون لهم بما يسمى "خريطة
الطريق".
على
أمريكا أن تكون صديقاً لكل المنطقة. وعليكم أن تكسبوا احترام كل أبنائها،
يهوداً وعرباً، وتوظيف قوتكم لإحلال السلام والرخاء لكل أبناء الشرق
الأوسط. بمقدوركم أن تكونوا طاقة دافعة هائلة نحو الخير.
انعطافة
ضالة
خلاصة
القول، إن حكومتكم قامت بانعطافة ضالة في مسارها. ففيما يتعلق بالعراق،
فشلت حكومتا بلادي وبلادكم تماماً في إثبات أن صدام حسين كان يمثل
تهديداً لجيرانه أو للولايات المتحدة أو العالم.
وليس
هناك سوى دليل واه على أن الحكومة العراقية السابقة كانت على صلة
بالقاعدة، ومهما كان صدام حسين طاغية، فقد التزم مؤخراً بالقواعد الدولية
وفتح مخلصاً النية أبواب بلاده أمام مفتشي الأسلحة.
وفي
المقابل، تجاهلت حكومتانا إرادة المجتمع الدولي وهمشتا مجلس الأمن
واقتحمتا أراضي ذلك البلد بجيوشها الغازية لتقتلا أكثر من 2000 مدني وما
لا يعرف عدده سوى الله فقط من الشبان العراقيين الذين كان جرمهم الوحيد
هو الدفاع المشروع عن وطنهم.
لقد كان
بمقدور أمريكا أن تأخذ لنفسها صورة أسد دانيال المليء بالعسل؛ دولة قوية
وقادرة على احتواء طموحات حتى أطماع الطغاة. وفي الوقت نفسه، كان
بمقدورنا جميعاً أن نكون الشهود على قلبها الرؤوم وروحها الإنسانية
وطبيعتها الحانية الحقيقية. نعم، كان بمقدورنا أن ندير عملية نزع سلاح
صدام حسين بطريقة مختلفة لو كان نزع سلاحه فعلاً هو الهدف الحقيقي من
وراء الغزو.
لكن
بدلاً من ذلك، يعتقد الكثيرون منا أن هذه الحرب شنت لغرس الجبروت العسكري
الأمريكي في المنطقة وإعطاء عقود إعمار العراق للشركات الأمريكية
والسيطرة على نفط العراق والإبقاء على سيطرة الدولار على أسواق النفط
وحماية إسرائيل ربيبة أمريكا.
آه يا
أمريكا! لقد خيبت أنت وصديقتك بريطانيا أملنا. لقد خيبت أمل العالم. لقد
خيبت آمال الصغار من مثل علي الذي فقد كامل عائلته وذراعيه حينما سقطت
قذائفك على بغداد. لقد خيبت آمال العراقيين حينما لم تعبئي بتوفير الماء
النظيف والكهرباء لهم.
لقد خيبت
آمال الآتي من الأجيال حين سمحت لجندك بالاكتفاء بالفرجة حين كانت غائلة
النهب والنار تلتهم المتاحف والمكتبات العراقية. وتركت لهم بدلاً منها
إرث القنابل العنقودية واليورانيوم المستنفذ.
كان جيلي
معجباً بك يا أمريكا. فهل ستقول أجيال المستقبل الشيء ذاته؟ هل تتلذذين
برؤية العالم لك كوحش مسعور؟ هل تكترثين بخوف الآخرين منك وكرههم لك؟
أعتقد أن الجواب على كل هذه التساؤلات هو النفي. ولهذا أتقدم بهذه
المناشدة. إن الأمر برمته متروك لكم يا أصدقائي الأمريكيين. كنتم محقين
حين قلتم إن العراقيين تعرضوا للصدمة والرعب... لكن هذه كانت حالنا
جميعاً أيضاً. إن كنتم تقيمون أي اعتبار لصداقتنا، أو على أقل تقدير،
لاحترامنا لكم فاجعلوا مسلسل القتل يتوقف عند هذا الحد! لا تجعلوا من
أنفسكم ألعوبة دعاية قادتكم. لقد حان الوقت لتعودوا لعقولكم وتستعيدوا
اليد الأخلاقية الأعلى.
وفي غضون
ذلك، من الجدير بنا أن نتذكر كلمات قالها أحد الزعماء الأوروبين
السابقين:
"ليست
لدينا أي مصلحة في اضطهاد شعب آخر. إننا لا نتحرك بدافع الحقد على أمة
أخرى. لا نحمل لأحد أي ضغينة. أنا أعرف كم هي الحرب مأساوية.
"أريد أن
أحمي شعبنا من مثل هذا الشر. أنا لا أقصد بذلك تلك البلاد. بل أقصد
زعيمها. إنه يقود حكماً إرهابياً. لقد ألقى بأعداد لا تحصى من الناس في
حضيض البؤس. وقد أظهرنا قدراً كبيراً من الصبر، لكني لم أعد مستعداً
للبقاء ساكناً فيما هذا الرجل المجنون يسيء معاملة الملايين من البشر."
كلمات
قالها أدولف هتلر في 14 إبريل 1939 متحدثاً عن إدوارد بينيس رئيس
تشيكوسلوفاكيا حينها.
ألا تبدو لكم كلماته مألوفة؟ ألا تذكركم بشيء؟
|