ولربما
أتاح التنباك ذو النكهة المعطرة للشيشة فرصة الانتشار السريع. لكن
الحقيقة أن الشيشة عرفت المجد الحقيقي في تركيا قبل غيرها, حيث انتشرت
المقاهي المتخصصة فيها في شتى أرجاء البلاد. بل أنها غدت نواة للتواصل
الاجتماعي, ومقياساً للمركز الاجتماعي ورمزاً للعراقة. وكانت الصالونات
الراقية تشهد كثيراً من اللقاءات الاجتماعية حول الشيشة حيث كان الرجال
(والنساء أيضا في الصالونات الخاصة بهن) يستسلمون للخدر اللذيذ الذي يطغى
على الحواس.
ولم
يقتصر انتشار الشيشة على الشرق الأوسط, بل نقلها البريطانيون معهم حيثما
وجدوا, وعرف عنهم ولعهم الشديد بها. كما وصلت إلى الولايات المتحدة في
الثلاثينيات والستينيات من القرن الماضي. وشهد العالم افتتاح المحال
التجارية المتخصصة ببيع الشيشة ولوازمها والتنباك, حيث تتراوح أسعارها
بين 20 دولارا لأكثرها بساطة وأكثر من ألف دولار لتلك المصنوعة من
الكريستال والمذهبة.
ويقول
صديقي محمد الذي يمتلك شيشة صغيرة في بيته "أدخن الشيشة عادة بصحبة اثنين
أو ثلاثة من الأصدقاء. فأنا أكره تدخينها وحيداً. إنها عادة اجتماعية,
وليس هناك أمتع من دعوة أصدقائك إلى المقهى المفضل من أجل تدخينها وتناول
مشروب ما معها." ويضيف بثقة "كما أنها لا تسبب الإدمان مثل السجائر. إن
الناس يدخنونها للاسترخاء." وكان يشير بذلك إلى من يزعمون أن دخان الشيشة
أقل ضرراً بالرئتين لأن المياه تقوم بتصفية الدخان بصورة مكثفة.
إلا أن
ذلك لا يزال موضع جدل كبير. فأحد المواقع على الإنترنت ينقل عن طبيب
مزعوم قوله إن كل شيشة (مقدار التنباك الذي يستخدم في كل مرة) يحتوي على
قطران ونيكوتين يعادل ما هو موجود في 51 سيجارة!! وبالطبع فإن ذلك
مستحيل, لأن مقدار التنباك ذاك يعادل بالضبط التبغ المستخدم في 3 سجائر.
كما أن مراجع طبية أخرى تؤكد أن عملية غسل أوراق التبغ ونقعه بالماء
لتخفيف حدته, ومن ثم تصفيته عبر الماء أثناء التدخين, يجعل منه بصورة
حتمية أقل ضرراً من السجائر, إلا أنه لا ينفي أنه يبقى ضاراً.
تحولت
الشيشة في الدولة العثمانية إلى موضوع يتفنن فيه صانعوها. فالوعاء أصبح
من الكريستال أو الزجاج الملون أو حتى الفضة, يزدان من خارجه بنقوش تمثل
زهورا أو فاكهة فضية, فيما كانت الخراطيم تغطى بالحرير الموشى بالذهب,
وكانت المباسم تصنع من العنبر. كما أصبحت بأشكالها الفاخرة موضوعاً
للتباهي في المقاهي وبيوت الأثرياء على حد سواء.
وحتى
أوائل القرن الماضي, كانت المقاهي في اسطنبول تخصص زاوية معينة لمدخني
الشيشة. وكان هؤلاء أول من يصل إلى المقهى في الصباح الباكر لتدخين شيشة
الصباح قبل التوجه إلى أعمالهم. ويمكن القول أن الشيشة غدت من أقدم وأعرق
التقاليد التركية.
وكما
ذكرنا, أصبحت الشيشة كذلك رمزاً مهماً للمركز الاجتماعي. وكان تقديمها
للضيف يعتبر تقديراً كبيراً وعلامة على الثقة. أما الامتناع عن ذلك فقد
يعتبر إهانة بالغة. وكانت تستخدم أيام العثمانيين كوسيلة للتصالح بين
الناس. بل إن المسؤولين الكبار كانوا يقدمونها للدبلوماسيين الأجانب كرمز
للسلام القائم بين دولهم (وهذا يذكرني بالتقليد الشائع الذي كان يمارس
قبل ذلك لدى قبائل الهنود الحمر في أمريكا). وقد بلغ من أهمية الشيشة في
تركيا أن أزمة دبلوماسية اندلعت عام 1841, وذلك عندما رفض السلطان
العثماني أن يمنح السفير الفرنسي شرف تدخين الشيشة معه.
لا تعتبر
جميع أنواع التنباك صالحة للاستخدام في الشيشة, إلا أن أفضلها كان التبغ
الداكن المستورد من إيران (والمسمى بالتبغ العجمي). وكان يتم غسله مرات
عديدة نظراً لطعمه الحاد. وكان الفحم المستخدم مصنوعا من خشب السنديان
على وجه التحديد. ودرجت العادة لدى بعض المدخنين على وضع حبيبات من الكرز
أو العنب في وعاء الماء والاستمتاع بمنظرها وهي تتقلب في الماء أثناء
التدخين. وكان آخرون يضيفون إلى الماء عصير الرمان أو زيت الورد العطر.
وفي
العالم العربي انتشرت الشيشة بسرعة بالغة خصوصا في مصر. لكن الوعاء
الكريستالي كان باهظ الثمن بالنسبة للمصريين الذين اجتهدوا لابتكار بديل.
وسرعان ما طوروا نفس ما كان الهنود يستخدمونه, ألا وهو جوز الهند. كانوا
يجلبون الجوزة ويثقبونها من مكانين متقابلين ويفرغون السائل منها ثم
يغرسون في الثقبين قطعتين من قصب البامبو ويثبتون الحجر المصنوع من
الفخار على أحد القصبتين. وقد أطلق المصريون عليها اسم الجوزة, ولا يزال
كثيرون منهم يستخدمون نفس الكلمة للشيشة.
إلا أنهم
واجهوا مشكلة العثور على التنباك المناسب. وكان كثير من الناس في تلك
الأيام يدخنون السجائر التي كانت تجارتها قد راجت كثيرا. لكنه لم يكن
ممكنا استخدام تبغ السجائر لأنه يقطع على شكل شرائح رقيقة خلافاً لتنباك
الشيشة. كما أن التنباك لم يكن يستقر عند وضعة على الحجر خاصة عندما يجف
تحت تأثر الجمر, واستدعى ذلك البحث عن حل ملائم. ويحكى أن أحد المدخنين
كان يتناول عشاءه فاسترعت انتباهه لزوجة العسل المستخرج من قصب السكر,
وهو طبق شائع في مصر. وعندئذ خطرت بباله فكرة إضافة ذلك العسل للتنباك
لإكسابه قواماً متماسكاً. وقد نجحت التجربة نجاحاً باهراً وأضافت للتنباك
نكهة مميزة, وسرعان ما اصبح المنتج الجديد يعرف باسم المعسل.
ومع
تعاظم الحديث عن أخطار التدخين في النصف الثاني من القرن الماضي، ونسبة
كثير من الأمراض إليه، بدأ صانعو المعسل في البحث عن طرق لتوفير تنباك
أقل ضرراً، مثلما كان الحال بالنسبة للسجائر المفلترة. وفي منتصف
الثمانينيات، نجحت شركة مصرية بتطوير أنواع أخرى من المعسل، وذلك بمزج
التبغ المعالج لتقليل النيكوتين فيه مع عجائن فواكه ونباتات عطرية مختلفة
مثل التفاح والفريز والكرز والشمام والنعناع والورد الجوري والياسمين،
وغيرها. كما قامت بتحديث التعليب بصورة تحافظ على نضارة خلائط المعسل.
والشيشة
التي دخلت المدن العربية على أيدي الأتراك، أصبحت منظراً شائعاً في مقاهي
الأرصفة في دمشق والقدس والقاهرة وبيروت وغيرها. وكانت كل مقهى تحتفظ
لديها عادة بحوالي 60 شيشة، قليل منها تخصصه لزبائن محددين، بحيث لا
يستخدم أحد غيرهم الشيشة الخاصة بكل منهم. ويفضل المدخنون الأكبر سناً
التبغ السوري واللبناني المعروفين بقوتهما، والمشهورين عالمياً باسم
التبغ الفرجيني. أما جيل الشباب فيفضلون المعسل المعطر المستورد من مصر
أو البحرين.
يستغرق
تدخين الشيشة ساعة واحدة تقريباً إذا كانت معطرة وحتى ساعتين للتنباك
العادي. ودخانها أبرد بكثير من دخان السيجارة، ورائحته غير منفرة أبداً.
ويقول المدخنون أن الماء الذي يتحول لونه إلى البني يقوم بتخليص الدخان
من كثير من الشوائب الضارة.
وفي مضى
من الأيام، كان بعض المدخنين يضعون في شيشتهم يعض أنواع المخدرات. بل إن
عدداً من السلاطين العثمانيين كانوا يدخنون مزيجاً يدخل في تركيبه
التنباك والأفيون والعطر وغبار اللآلئ المطحونة. أما اليوم فإن قليلاً
جداً من المدخنين يضيفون للتنباك الحشيش أو بعض المواد المخدرة الأخرى.
"ليس
المهم ما تضعه في الشيشة، بل مع من تدخنها"، كما يقول أحد المدخنين.
ويضيف "في المقاهي ترى الناس بمختلف مشاربهم، الطيبين وكبار السن والشبان
ومعظمهم يتصرف حيالك بالود نظراً لأنكم تشتركون بنفس العادة. وطالما كانت
هناك حاجة للصداقة، وطالما احتاج الناس للتأمل في الأمور والتفكير في
شؤونهم، ستبقى مقاهي الشيشة مزدهرة."
وفي شبه
الجزيرة العربية، كان سكان القرى الساحلية والتجمعات السكنية الموسمية
المرتبطة بصيد الأسماك والغوص على اللؤلؤ، يدخنون شيشة مصنوعة بالكامل من
الفخار. وكانوا يدعونها في دبي وغيرها من مناطق الإمارات العربية المتحدة
"الكدو". أما الشيشة التي نعرفها اليوم، فقد بقيت من اختصاص الخيم
الرمضانية لحوالي عقدين من الزمن. وفي منتصف التسعينيات تقريباً، أضافت
بعض المقاهي الشيشة إلى ما توفره لزبائنها، وسرعان ما انتشرت مقاهي
الشيشة، خصوصاً في دبي، حيث تعد اليوم بالمئات.
وقد
اكتسب بعض تلك المقاهي شهرة فائقة لتفننها في تقدين نكهات أكثر لزبائنها،
علاوة على أنواع المشروبات المختلفة. وتكلف الشيشة الواحدة ما بين 5-7
دراهم في مقاهي المطينة، بينما تصل إلى 50 درهماً في مقاهي فنادق الخمسة
نجوم التي شرعت بتقدمها كي تحافظ على زبائنها. كما أنشئت محلات تجارية
عديدة متخصصة ببيع الشيشة ومستلزماتها.وتكلف الشيشة الجيدة في دبي حوالي
200 درهم، فيما يصل سعر الشيشة المزركشة والمطعمة بالفضة والذهب لأكثر من
5.000 درهم. |