ووفقاً
للتقاليد، يقوم الأزواج بالتسوق، وإلا فخادم العائلة، بينما نادراً ما
ترى النساء في الشوارع، ومن الشائع ألا تغادر الشابات بيوتهن إطلاقاً قبل
يوم زفافهن، إلا أن النساء الأكبر عندما يخرجن في مناسبات نادرة، فإنهن
عادة ما يكن منقبات، ولا تظهر منهن إلا عين واحدة.
أما
رجال معزاب فهم معروفون في كافة أنحاء الجزائر بكونهم رجال أعمال وتجار
ناجحين، وغالباً ما يمضون فترات طويلة بعيداً عن موطنهم، ولكن تبقى
دائماً فكرة العودة للتقاعد في واحتهم الصحراوية بعد جمع ما يكفي من
المال.
أولاد نايل
مررنا
قبل ذلك في رحلتنا خلال الجزائر، وهي إحدى أكثر دول العالم تنوعاً
وجمالاً، مررنا بالخيام السوداء الكبيرة في منطقة أولاد نايل، التي تنتشر
على المنطقة الجبلة قرب جلفا، ثم توجهنا إلى بسكرة، وهي واحة صحراوية
ترتبط دائما براقصات أولاد نايل.
على
الجهة المقابلة من تشدد أبناء معزاب، تأتي بنات أولاد نائل، اللواتي
تعلمن فن الغناء والرقص منذ الطفولة، حتى يكتسبن مهنة يعشن من خلالها،
وهي الرقص لتسلية أبناء المدن الصحراوية. وهذه المهنة وراثية، وتعود
الفتيات بعد سنوات إلى خيامهن مقلدات بأطواق من العملات الذهبية دون أن
تشوب سمعتهن شائبة بين أفراد مجتمعهن، وهناك يتركن الرقص، ويتزوجن ويصبحن
ربات بيوت.
أما
بسكرة، فهي مدينة عصرية مقارنة بمعزاب، وفيها عدة فنادق جيدة نسبياً، وقد
شاء الحظ أن نصل إليها أثناء احتفال قبلي، وسرعان ما اكتشفنا عدم وجود
غرف شاغرة في النزل، وعوضاً عن ذلك، أعطونا عنوان مكتب السياحة المحلية،
الذي أمن لنا المنامة ليلتها في بيت أسرة محلية.
وقد
قبلنا العرض دون أن نرى المكان، ووجدنا أنفسنا ننام على حصر من القش،
بينما تدخل أحياناً دجاجة شاردة إلى الغرفة. وكان هناك جهاز تسجيل يعمل
بالبطارية موضوع فوق خزانة أدراج خشبية، وكنا نسمع من خلاله في ذلك الوقت
أغنية آلان بارير "ما فيا"، وهي من أغاني المفضلة، وبدا الوضع سريالياً
للغاية.
ولم يكن
هناك حمام في البيت المصنوع من الطين، لذا ذهبنا صبيحة اليوم التالي إلى
الحمام التركي في السوق قبل أن نذهب باحثين عن راقصات أولاد نايل،
اللواتي لم نحظ برؤيتهن.
عوضاً
عن ذلك، وصلنا إلى ميدان القرية المربع، حيث وجدنا رجال القرية الذين
يرتدون البرانس يتسابقون على ظهور الخيل، وسحرة الأفاعي يقدمون عروضهم
للجماهير، والفرق الفلكلورية تقدم عروضها من الغناء والرقص. وكان الهواء
مشبعاً برائحة المرغيز، وهو نوع من النقانق الحمراء الحارة، والتي
اشتريناها من إحدى المنصات وتناولناها بشهية للإفطار.
قضينا
الأيام الثلاثة التالية مسترخين عند أحواض السباحة الخاصة بأحد أفضل
فنادق بسكرة، وتمتعنا برفاهية الغرف ذات الحمامات الخاصة، والقهوة والآيس
كريم التي نستطيع طلبها من خدمة الغرف. وكنا قد خططنا لمتابعة رحلتنا إلى
منطقة تمنراست، موطن أشهر قبائل الجزائر، الطوارق، أو الرجال الزرق، إلا
أن سيارتنا رفضت أن تتابع المسير. وبعد إصلاحها، فضلنا العودة إلى
العاصمة عوضاً عن التقدم جنوباً.
الطوارق (الرجال الزرق)
كان
الطوارق فيما سلف محاربين أشداء، طالما تحملوا مسؤولية موت المكتشفين
الجريئين. وكان يهابهم كل من يتجاسر على اجتياز أرضهم. كما كانوا أسياد
القوافل المحملة بالملح والعبيد والذهب، تحكمهم ثقافة إقطاعية ولهم لغتهم
الخاصة المكتوبة.
لقب
"الرجال الزرق" جاءهم من الصبغة النيلية التي لونت ثيابهم، والرجال منهم
محجبون، ويقضون وقتهم، عندما لا تشغلهم الحرب، في ممارسة طقوس الشاي
واستعادة قوتهم لنزاع جديد لا يمكن تلافيه. إنهم رجال شجعان شرفاء
يفضلون استعمال السيف والخناجر والتروس على الأسلحة الحديثة. وهم غالباً
يسحقون عدوهم بشجاعتهم ومهارتهم.
في
أواخر القرن التاسع عشر، أعد الفرنسيون، المحتلون للجزائر حينذاك،
مشروعاً لبناء سكة حديد تجتاز الصحراء الغربية. ولكن محاربي "الطوارق"
وقفوا لهم بالمرصاد، ولم يكن من بد للفرنسيين أمام بأس هؤلاء إلا التخلي
عن المشروع.
يتحدث
عالم الآثار "كونت بايرون دي بروروك" في كتابه الموضوع في عشرينيات القرن
الماضي والذي يحمل اسم "الصحراء الغربية الغامضة" عن الطوارق ويصفهم
بأنهم "عملاق الصحراء الغربية الأبيض العرق". قابل "بروروك" خمسة آلاف
من رجال الطوارق وهم يتقلدون السيوف، وكان الحظ حليفه لأنه لم يلاقي حتفه
على أيديهم كمصير الكثير من معاصريه.
يحكم
الطوارق مجتمع أمومي تقوم فيه المرأة السافرة بمعظم الأعمال. وكان
"بروروك" قد اعتزم العثور على قبر ملكتهم "تين هينان" معتقداً بأن ذلك
سوف يساعد على حل لغز أصول هذه القبائل. ولقد اكتشف "بروروك" في النهاية
بقايا الملكة ممددة بجانب قطع من عملة رومانية قديمة وبعض حلى البحر
المتوسط الأخرى من عقود وأساور، وذلك قبل أن يكتشف الطوارق أنفسهم هوية
القبر وإلى من يعود.
خربت
ديار الطوارق بمأساوية مع حلول القرن العشرين. وآلت أسطورة الخيال
المحارب إلى آلية جذب سياحية فيما عاث الفقر والجفاف في البلاد. وهكذا
لم يبق للطوارق اليوم إلا محاولة المحافظة على نبل عنصرهم ورفعة مظهرهم.
القبايل
في
عودتنا إلى العاصمة، انعطفنا كي نعبر في "تيزي أوزو"، مدينة البربر
الرئيسية، والتي كانت لدهر مضى هادئة فاتنة. كانت نساء القبايل يلبسن
الثياب البراقة، يبتسمن ويحييننا قبل أن نتوقف في مقهى على جانب الطريق
لشرب بعض عصير الشمام المنعش.
أراد
صاحب المقهى أن يقدم لنا ذكرى لزيارتنا فقام بإعطائنا صورة لابنه
"الأخضر"، ولقد أصاب فعله هذا شيئا من نفسي وعلق في ذهني حتى الآن.
من
السائد أن البربر هم السكان الأصليين للجزائر. وكانوا قد قاوموا الرومان
ثم العرب فالأتراك وبعدهم الفرنسيين الذين قضوا ما يناهز الثلاثين عاماً
وهم يحاولون أخذ حصونهم الجبلية. أما اليوم فهم في معضلة وصراع للحفاظ
على هويتهم وثقافتهم ولغتهم في بلد تحيق به المشاكل السياسية من جميع
الجهات.
|
إنني على علم بأن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء. ولكني من وجهة
نظر أنانية بحتة، أنتظر اليوم الذي أستطيع فيه، بسلامة، إعادة رسم
خطواتي من جديد هناك. ومن يدري ! ربما يكون بمقدوري أن أحظى
"بالأخضر" وهو رب عائلة، أو أن ألقي التحية على القرود في "حلق
الشفا"، أو أن أذرع غابات "السريدي"؛ تلك القرية الخلابة التي تطل
على "عنابة". ومن يدري، فلربما أصطاد "وردة الرمل" من جديد في
الصحراء الغربية (صخور الكوارتز) أو أترك الربيع الدافئ يغمرني في
"غويلما". وفي نفس الوقت، كفعل الطوارق، أستطيع أن أحلم بالماضي وأثق
بمستقبل أفضل للشعب الجزائري الذي عانى طويلاً
. |
|