و مع أن
فيلبي سافر في أرجاء الهند ووصل بغداد وطهران, فإن الجزيرة العربية هي
التي أسرت قلبه. فمنذ وقت مبكر يعود إلى عام 1918, قال عربي رآه يمر في
الطائف إن من المستحيل تمييزه عن بقية البدو الذين يرافقونه. فإتقانه
للغة العربية ومعرفته العميقة بأزياء العرب وهيئتهم العامة جعلتا من
السهل عليه أن يتنقل وكأنه عربي. لكن كان هناك فارقان وحيدان يميزانه
عنهم, كما قال ذلك العربي, وهما عيناه الزرقاوان وقدماه اللتان كانت أنظف
قليلاً من أقدام المسافرين في الصحراء عادة.
معرفة
فيلي المذهلة بالجزيرة العربية هي التي جعلته على اتصال مباشر مع وايتهول
مقر رئاسة الحكومة البريطانية) ولورد كورزون وحكومة الحرب في لندن. فقد
استدعي إلى هناك للوقوف على رأيه في الأحداث الجارية حينها في الجزيرة
العربية. وتحدث إليهم عن ابن سعود باعتباره الرجل المُقدر له أن يتزعم
الجزيرة العربية الموحدة. واستمع الساسة في وايتهول لما كان يقوله لهم,
وفي النهاية قالوا له إنه كان مجنوناً ليأتي إليهم ويخبرهم بهذه التوقعات
السياسية المثيرة للسخط.
قابل
فيلي ما قالوه بابتسامة وترك لديهم عنوان إقامته في الفندق قائلاً إنهم
يستطيعون العثور عليه حينما يريدونه. لكنه لم ينتظر طويلاً. فسرعان ما
بدأت أجهزة استقبال الأخبار في وايتهول بالعمل لتخبرهم أن ابن سعود,
الزعيم العربي, أخذ يجتاح البلاد بمن معه من جند كما النار في الهشيم,
وأصبح جزء كبير من الجزيرة العربية تحت سيطرته الآن. وفوراً استدعي فيلبي
لوزارة الخارجية ليقابله لورد كورزون طوال ساعتين, أخذ يحزم حقائبه
بعدهما ليرحل إلى الجزيرة العربية.
في
الجزيرة العربية سعى فيلبي لمقابلة ابن سعود. لقد أتى إلى أرض يعرفها. بل
إنه كان يعرف أرض الجزيرة العربية وشعبها أكثر مما يعرفون أنفسهم. غير
أنه كان حينها في مهمة رسمية. فقد ذهب بتفويض مباشر من الحكومة
البريطانية ليمثل مصالحها ويتفاوض مع زعيم شعب الجزيرة, وكان يعرف عن هذا
الزعيم أنه رجل ذو شخصية ورؤية والأهم من كل ذلك أنه ذو مبدأ. كان فيلبي
قد توقع لهم في لندن أن ابن سعود سيتقدم ذات يوم نحو مكة. لكن الحكومة
البريطانية أرادت أن تعرض على ابن سعود معونة سنوية تبلغ 60 ألف جنيه
استرليني للإبقاء على حالة السلم.
أثبتت
السنون أن يوم اجتماع فيلي مع الملك ابن سعود هو أحد أهم أيام عمره لأنه
غير مسار حياته نهائياً. فقد كان بداية صداقة مدى الحياة بين الملك
العربي والرجل الإنجليزي, وهي الصداقة التي ما كان لرحلة فيلبي الشهيرة
عبر صحراء الربع الخالي أن تحدث أبداً. وقد ترك الملك انطباعاً قوياً
جداً عند فيلبي وهو الشعور الذي ساهم اللقاء بتأكيده وزيادته, ومهد للقاء
ثان به انتهى بتقديمه استقالته من وظيفته ليصبح التاجر العربي الحاج عبد
الله.
في
الوطن, لم تضع مواهب فيلي ومعرفته بالشرق الأوسط, بل تم تكريمه لأجلها.
ففي عام 1912 أصبح مستشاراً لوزارة الداخلية في بلاد الرافدين. وفي العام
التالي عين ممثل بريطانيا في منطقة عبر الأردن.
وقد حصل
بالضبط ما توقعه فيلبي خلال أحد اجتماعاته في وزارة الخارجية بلندن, حيث
سيطر ابن سعود على مكة المكرمة وهذا ما أقلق وزارة الخارجية. فرغبتهم
باستمرار السلام في الجزيرة العربية لم تتحقق. وكان هناك شيء وحيد لابد
لهم من انجازه فوراً, وبالتالي استدعوا فيلبي وطلبوا خدماته للتعامل مع
الوضع الجديد.
عاد فيلي
إلى الجزيرة العربية وطلب الاجتماع بالملك وهو ماحصل عليه فوراً, حيث
التقى به في خيمته طوال عدة ساعات. لا أحد يعرف بالضبط ما الذي اتفق عليه
الاثنان حينها. لكن حالما خرج فيلبي من خيمة الملك, أرسل برقية إلى لندن
قدم فيها استقالته من كل المناصب التي كان يشغلها وتخلى عن كل رتبه
وترقياته وكل ما أنجزه في حياته. ثم أعلن اعتناقه الإسلام وقرر أن يصبح
تاجراً في مدينة جدة. وهكذا أصبح فيلبي الحاج عبد الله.
نعم ,لقد
تخلى عن كل شيء من أجل دينه الجديد. وأصبح يلتزم تعاليم دينه الجديد أكثر
مما كان يفعل العرب أنفسهم. وخلال ممارسته التجارة صقل معرفته بالعربية
ولهجاتها حتى أصبح يتحدثها بكمال وطلاقة أبناء الجزيرة العربية أنفسهم.
في غضون
ذلك, ألقت عليه صداقته للملك بمزيد من المسؤوليات. فقد أصبح عبد الله
وزيراً للمالية عند الملك ابن سعود. ووضع القصر الملكي في جدة تحت تصرفه
كما أصبحت صداقته للملك علاقة دائمة. وأصبح الرجلان يفهمان بعضهما على
أكمل وجه ويحترم كل منهما أفكار الآخر ويعترف بعظمته وتسامحه وتحفظه. كان
الإثنان رجلي أفعال وأقل الكلام.
ابن سعود
رجل مبادئ ومثاليات رفيعة. وكان مؤمناً صادقاً بتعاليم القرآن الكريم
ويتبعها نصاً وروحاً. التدخين والشرب كانا شيئين مقيتين عنده. وكان يفرض
معايير أخلاقية رفيعة على نفسه والمحيطين به, حيث أتقن فن ضبط النفس وهي
السمة التي ساعدته في فرض النظام والانضباط على الآخرين. كما امتلك ميزتي
الهدوء والمهابة اللتين جعلتا الآخرين يتطلعون إليه لتولي زمام القيادة.
وكل هذه السمات كانت تجذب بقوة رجلاً من مثل عبد الله.
عبد
الله, مثل حاله حينما كان جون فيلبي, كانت في نفسه رغبة شديدة قديمة في
استكشاف صحراء جنوب شرق الجزيرة العربية التي يعرفها العرب باسم الربع
الخالي. وأراد أن يكون أول من يعبر هذه الأرض الواسعة "الجدباء" التي
تلاقي فيها حيوانات الصحراء مصيرها موتاً من العطش والجوع والتي لا
تستطيع حتى آكلات الجيف فيها ان تخترق جيفها وتبعثر عظامها. ولم يعرف
حينها أن تلك الأحداث التي جعلته يتخذ الجزيرة العربية وطناً جديداً له
سيكون لها أثر مباشر في رحلته الخطيرة عبر الربع الخالي, والتي قدر له أن
يخرج بها عام 1932.
قبل أن
يصبح عبد الله, اكتسب جون فيلبي شهرة لنفسه كمغامر ورحالة حينما عبر
الجزيرة العربية من الخليج العربي إلى البحر الأحمر نهاية الحرب العالمية
الأولى. وقد مكنته تلك الرحلة من استكشاف أراض لم يكن يعرفها سابقوه في
الجزيرة العربية وكانت إلى ذلك الوقت ترسم كمناطق غير معروفة على
خرائطها. واستطاع حينها أن ينجز مسيرته من البحر للبحر عبر الجزيرة
العربية في أربعة وأربعين يوماً.
سمع
فيلبي الناس يتحدثون عن صحراء الربع الخالي وأساطيرها الغريبة. وتحدثت
الأقاويل التي وصلته عن بقايا عمران غامضة في قلب تلك الصحراء وعن كتلة
ضخمة من الحديد بحجم بعير موجودة هناك. ألهبت هذه القصص خياله وأحدثت في
نفسه توقاً شديداً لا يقاوم لاستكشاف آثار تلك المدينة المنسية القديمة
في الصحراء التي ربما تحكي قصة ماضي الجزيرة العربية البعيد الذي لم
يتعرف عليه أحد بعد.
عاش
الحاج عبد الله في مدينة جدة على حواشي الصحراء الكبيرة التي أمل أنه
سيعبرها ذات يوم. لكنه عرف أن ذلك لن يحدث بين ليلة وضحاها, بل يحتاج إلى
دراسة معمقة وتخطيط طويل قبل الشروع به. وقبع عند مياه البحر الأحمر
الخضراء في جدة يفكر بحملته العتيدة عبر الربع الخالي. تحوله للإسلام وفر
له طمأنينة البال التي طالما سعى وراءها وأحدثت في نفسه فهماً أعمق
للجزيرة العربية وشعبها مثلما وهبته العزم على تنفيذ طموحه حتى النهاية. |