شرح أعمال أفلاطون
إن ما أثار إعجاب العرب بالفارابي هو الفارابي نفسه- الفيلسوف وعالم
المنطق. فقد انطلق الفارابي مسلحاً بفهمه الفلسفي المعمق في مشروعه
الاستكشافي الضخم في عالم الفلسفة الكبير. وكانت الثمرة هي تلك الثقة
الكبيرة التي وضعها إخوانه المسلمون فيه حين لقبوه بالمعلم الثاني، بعد
أرسطو، كما سبق وذكرنا. ولابد أن الفارابي كان فخوراً جداً بهذا اللقب،
باعتبار أنه هو نفسه كان محللاً شارحاً لأعمال وأفكار أرسطو وأفلاطون.
في سياق دراسته للفلسفة الأفلاطونية رأى الفارابي أن الفكر هو نتاج أربع
حواس. وأن مقدرة الإنسان الفكرية هي الصلة الأوثق التي تجمعه بالله.
أولاً، هناك الحاسة الكامنة في الروح الإنسانية التي تفكر؛ وهذه قوة
فكرية كامنة. وحين توظف هذه المقدرة لاستخلاص الأنماط الأفلاطونية
الأساسية من الكينونات المادية، فإنها تصبح مقدرة فكرية فعلية. وفي مرحلة
تالية، حين تبدأ التفكير في هذه الأنماط الأساسية وبالتالي في ذاتها،
تصبح مقدرة فعلية مكتسبة. لكن مثل هذا التحول يتطلب سبباً كافياً، وذلك
هو العقل الفعال. وهذا العقل الفعال هو المقدرة العقلية الأدنى الموجودة
ذاتياً في الأجرام السماوية ، والمرتبطة بشكل لا حياد عنه وعبر نظرية
الفيض بالعقل الأولى، ألا وهو الفعل السماوي السرمدي لإدراك الذات.
وبالتالي، مادمنا نرى العقل الفعال على أنه يمثل جوهر العملية الفكرية،
والتي عبرها نرسم صورة هذا العالم المؤقت، فإن الإنسان هو النتاج الجوهري
لهذه العملية- جسد بلغ ببنيته حد الكمال وروح منطقية في الجانب النفسي.
وقد وسع الفارابي مستخدماً الموروث التراكمي للمدرسة الفلسفية الإغريقية،
محيط الحقيقة النظرية في مسعاه لإرساء صيغتها. وكان مهتماً بشكل خاص
بالعلاقة التي تجمع بين اللغة والمنطق. فقد كان الفارابي، بشروحاته
الغزيرة لأعمال أرسطو في المنطق، أول من استخدم العربية لشرح كامل
الاستعارات العلمية وغير العلمية للجدل. وبفضل عمله هذا، استطاع الفارابي
أن يرسي مكانة المنطق باعتباره عنصراً أساسياً في التحليل الفلسفي. وبشكل
عام، فإن مؤلفات الفارابي في العلوم الطبيعية استعارت من أعمال أرسطو
الأولية وأفكاره في الفيزياء ودافعت عنها بتوضيحه بعض الأجزاء غير
المكتملة منها.
الدين والفلسفة عند االفارابي
النصوص الضخمة التي وضعها الفارابي عن القضايا الدينية والسياسية ألقت
بالضوء أمام عيون الفلاسفة العرب على مسألة التشابه والتباين بين الدين
والفلسفة. فقد استعرض الفارابي مجموعة من القضايا المعقدة التي استطاع
الفلاسفة اللاحقون أن ينقحوها ويبنوا عليها بأساليب متعددة. غير أن
الفارابي كان ثابتاً على مقولاته. إذ يقول في أحد مخطوطاته إن من الصعب
جداً تحديد ماهية الله بسبب محدودية مقدرتنا العقلية واتحادها بالمادة.
ومثلما يمثل الضوء المبدأ الذي تصبح بفعله الألوان مرئية لنا، فسيكون من
المنطقي أن نقول على النحو نفسه إن الضوء الكامل يجب أن يعطينا رؤية
كاملة. لكن العكس تماماً هو الذي يحدث. ذلك أن من شأن ضوء كامل أن يبهر
أبصارنا. الشيء نفسه ينطبق على الله. إذ أن المعرفة المحدودة المتاحة
لدينا عن الله هي نتاج لحقيقة أن الله هو مطلق الكمال. وهذا يفسر كون
كماله المطلق يحير عقولنا حين نتفكر به. لكن إذا تأتى لنا أن نجرد
طبيعتنا من كل ما يمكن وصفه بأنه ’مادة‘، فمن المؤكد حينها أن إدراكنا
لكينونته سيكون كاملاً.
بتأكيد الفارابي على أن الدين يحاكي أو يوازي الفلسفة، فإنه بذلك إنما
يفترض أن المشرّع الملهم الحقيقي هو نتاج الطبيعة نفسها للملك الفيلسوف.
أضف لذلك أن الدين عند الفارابي هو عامل توحيد لأي مجتمع. ولأن المجتمعات
عرضة لأن يصيبها النقصان أو الفساد، فإن هذا ينطبق أيضاً على الأديان،
وبالتالي فإن الإثنين يقللان من مستوى المنضوين تحتهما. لهذا يعتبر الدين
السليم موازاة لأعلى درجات الفلسفة. وهذا الشيء يمكن اختباره لمن حقق
أعلى مراتب الإنسانية الحقة عبر التسامي بالمقدرة الفكرية الناشطة إلى
حيث تنتمي حقاً لتكون قناة نقية من المقدرة الفكرية العاملة.
مكانة الفارابي
في حياته التي أمضاها بحثاً لا يكل عن المعرفة، أنتج الفارابي مجموعة،
أقل ما يقال فيها بإنصاف إنها رائعة، من المؤلفات في مجموعة رائعة بالقدر
نفسه من المواضيع. فبتحليلاته لأعمال أرسطو في المنطق نجح الفارابي في
إرساء علم نفس يقوم على العقل. وتجده في أعماله يعيد بنظريته معالجة
مقدرات النفس والمقدرة الفكرية وعلاقتها بالجسد.
كما بحث أيضاً مسائل التوحد والواحد، وتفكر في العقل والإدراك، وطور
نموذجاً ماوراء طبيعياً للعالم في أفكاره التجريبية عن المادة والزمن
والفراغ والقياس والحكمة والمعرفة الإلهيتين. وإضافة لهذا فقد صاغ
الفارابي دراسة الأخلاق في منظور جديد وساهم في تطور النظرية الموسيقية
ووضع تصنيفاً للعلوم.
أعمال الفارابي في القضايا السياسية والحكم كانت محط الإعجاب بفضل منهجها
الإبداعي فعلاً والمنطقي جداً. ومن أفكاره البارزة التي سرعان ما أصبحت
شائعة في الفكر الإسلامي، الفرز بين القادة العلماء، وهم الفلاسفة
والأنبياء، والعامة القادرين على إدراك الحقيقة فقط حينما تكون مجسدة
بالرموز.
|