رغم كل السحر والرومانسية والإثارة التي لا يمكن إنكارها، فإن أجواء
العاصمة المصرية، القاهرة، ملوثة وصاخبة. وأينما ذهبت يمتزج مسلسل
الاصطدامات المرورية الذي لا يتوقف مع آلاف أبواق السيارات في صخب لا
تستطيع الهرب منه إلى أي مكان.
غير أن الأصوات الوحيدة التي تصل آذان سكان القوارب في القاهرة – الذين
يعيشون في العوامات - هي تغريد الطيور المهاجرة وحفيف النخيل المتمايل مع
الريح وأصوات المؤذنين ورقرقة مياه النيل وهي تداعب أطراف بيوتهم
العائمة.
تقول إخلاص حلمي التي ولدت ونشأت في واحدة من أقدم العوامات وتمتلك اليوم
واحدة من أجملها: "إذا ما عشت في النيل فإنك لن تعود إلى البر أبداً. إنه
عالم آخر. هنا نتنفس هواءً نقياً ونستمتع بطقس بلادنا الرائع... والأهم
من كل شيء أننا لا نشعر بالوحدة أبداً."
عام 1950، كان في القاهرة 300 عوامة، أما اليوم فبالكاد هناك عُشر ذلك
العدد، وحتى هذا المتبقي منها تستهدفه حالياً بلدية الجيزة التي لاتكل عن
محاولة تحويل شواطئ النهر إلى منتزه عام... والعوامات إلى حطب.
هذا التداخل البيروقراطي الدائم جعل مُّلاك العوامات وسكانها جالية مقاتلة.
وقد انتصر هؤلاء في الجولة الأخيرة لهم أمام المحاكم منذ عدة سنين لكنهم
لا يتوقفون عن الاستعداد لخوض الجولة المقبلة. وفي غضون ذلك تجد هذه
الجالية النهرية –المكونة من مصريين وسعوديين وبريطانيين وفرنسيين وألمان
وأستراليين وإيطاليين- وهي تمارس سياسة الأبواب المفتوحة حقاً حيث تجد
أياً كان داخلاً وخارجاً من بيت أي كان.
لكن قضية هؤلاء تعرضت لعثرة حين حدثت وفيتان نتيجة لغرق عوامة مهترئة، فيما
تحولت عوامتان أخريان لمجرد حطام طاف على المياه حين أفلتت واحدة من
حبالها عقب اصطدام طوافتين كبيرتين ببعضهما وهما متجهتان شمالاً. وحينها
اصطدمت العوامة الفالتة بجارتها.
حينها كادت العوامتان تغرقان لولا مسارعة صياد يعيش في قارب صغير بالعمل.
فلم يكتف صياد السمك بتقدم الآخرين بعد أن استنجد بهم، لمنع غرق
العوامتين، بل أسرع بالتجذيف وراء واحدة من الطوافتين وتقاتل مع طاقمها
لمنعهم من الهرب من المكان قبل وصول خفر السواحل.
مثل هذه الأوجه السلبية للعيش على شواطئ النهر لم تكن حاضرة في ذهني خلال
زيارتي المرتجلة لهذا العالم المدهش الذي تعيشه السيدة إخلاص. ولم يتطلب
الأمر سوى دفعة خفيفة لباب مدور من درب مزدحم لأدخل هذا المعادل الموضوعي
القاهري لـ "الحديقة السرية".
حين دخلت الباب خلفت ورائي غابة من الإسمنت، ورأيت أمامي درجات تمر عبر
الأزهار والنباتات وأشجار الليمون والجوافة والنخيل. كان عبق الياسمين
والخبيزة يملأ الجو فيما عشرات القطط متأنقة بفرائها أو ملتفة بأجسادها
في كل أنحاء المكان دون أي اكتراث بهذا العالم كله.
|