وحتى
23 مليون عام كانت الجزيرة العربية قد تحركت بعيداً عن إفريقيا إلى
الحد الذي جعلها تقطع بحر تيثيس في حركة أدت إلى تشكل جبال زغروس في
إيران. وإلى 5 ملايين سنة مضت (أواخر العصرين الميوسيني والبليوسيني)
كان لا يزال هناك جسر بري ضيق يصل إثيوبيا في إفريقيا باليمن في
الجزيرة العربية على نحو يواصل السماح بهجرة الحيوانات البرية بين
القارتين الإفريقية والآسيوية مروراً بالجزيرة العربية. في ذلك الوقت،
وحين كانت تلك الحيوانات موجودة، كان المناخ في المنطقة الغربية في
أبوظبي مختلفاً تماماً عما هو عليه الآن. فهناك أدلة على وجود منطقة من
أقنية الماء العذب العميقة كانت تعيش فيها التماسيح بطول أربعة أمتار
وأفراس النهر وأسماك السلور بأعداد كبيرة. وعلى السهول المعشبة بين هذه
الممرات المائية عاشت النمور سيفية الناب والخيول ثلاثية الأظلاف
والقرود والضباع والفيلة رباعية الأنياب إلى جانب الثدييات الأصغر
حجماً مثل العضل.
أثر
ذلك على حاضرنا هو أننا نستطيع الآن العثور على مستحاثات لافقاريات
بحرية يعود عمرها حتى إلى 70 مليون عام في المنطقة الشرقية من الإمارات
ومستحاثات فقاريات برية تعود إلى 5 ملايين عام على أقل تقدير في
المنطقة الغربية من أبوظبي. وتلك حالة يندر مواجهتها في بلد صغير
نسبياً مثل الإمارات. ومن المعروف الآن أن في الإمارات أكبر قدر من
بقايا العصر البليوسيني في الجزيرة العربية. بل إنه عثر في مسندم على
مستحاثات أقدم من ذلك تعود حتى 150 مليون سنة، غير أن المنطقة خارج
الإمارات.
كثير
من الحيوانات التي كانت تعيش على هذه الأرض قد انقرضت. بل إن تقديرات
العلماء تقول إن 98 في المئة من الحيوانات التي ظهرت على هذه الأرض حتى
الآن قد انقرضت. وهذا يعني أن كل التنوع الحيواني الذي نراه على الأرض
الآن لا يمثل إلا اثنان في المئة فقط من أنواع الحيوانات التي عاشت على
الكوكب. النمر سيفي الناب، وحتى العضل الصغير الذي عثر على نابه في
رسوبيات بينونة كان فصيلة غير معروفة من قبل. ولتخليد اسم المنطقة التي
عثر عليه فيه فقد أطلق عليها الاسم العلمي "أبوظابيا بينونسيس".
بدأت
دراسة المستحاثات في الإمارات بالتسارع عام 1979 عندما عثر العالم
الراحل بيتر وايبرو المختص بالعصر البليوسيني من متحف التاريخ الطبيعي
في المملكة المتحدة على مستحاثة أسنان حصان في في الصخور الرملية قرب
جبل الظنة. وهذا الحيوان هو من فصيلة الحصان ثلاثية الأظلاف الذي يدعى
"هيباريون" وبالتالي فقد أرجع عمرها إلى 16 مليون عام. يذكر أن الحصان
لم يظهر في أوروبا إلا منذ 11 مليون عام وربما وصل إليها قادماً من
الجزيرة العربية.
ومنذ
ذلك الاكتشاف توصلت 35 عاما من البحوث إلى دراسة معمقة لحوالي 200
كيلومتر مربع من الصحاري (من أصل 10000 تقريباً) وعثر على المستحاثات
خلالها في أنحاء بعيدة تصل حتى الرميثة. وخلال الدراسات تم تقسيم
الصخور إلى فئتين هما تشكيل الشويحات وتشكيل بينونة. وقد تكونت صخور
تشكيل الشويحات من تحجر الرمال المحمولة بالريح وبالتالي لا تحتوي على
أي مستحاثات يمكن اعتمادها لتحديد عمرها. غير أن العناصر المعدنية
الموجودة في هذه الصخور أرجعت عمرها إلى حوالي 14 مليون عام. وبعد تكون
هذه الصخور، ظهر في المنطقة مصب نهري في المنطقة المعروفة الآن باسم
سبخة مطي. وأخذ هذا النهر يلقي بالرمال والحصى والطمي الذي يأتي به من
تشكيل بينونة. وعلى الرغم من عدم العثور على أي هيكل عظمي كامل لحيوان
أبداً فإن الأجزاء التي عثر عليها كانت كافية لتحديد هويتها. وحتى الآن
أعطانا تشكيل بينونة 4 فصائل من اللافقاريات وفصيلتين من النبات و8
فصائل من الزواحف و3 فصائل من الطيور و31 فصيلة من الثدييات وبعضها لم
يكن معروفاً للعلماء في السابق. بل وعثر في منطقة مليسة على مستحاثة
أثر قدم فيل.
كما
عثر بيتر وايبرو أيضاً على قشرة بيضة نعامة متحجرة في تشكيل بينونة
أعيد عمرها إلى العصر الميوسيني قبل حوالي 5 إلى 7 ملايين سنة. وعثر
غيره على قشور بيض نعام يعود إلى مرحلة لاحقة في ليوا إلى جانب أحجار
صوان وفحم يعود إلى العصر الحجري. ربما لم تكن هذه البيوض مأخوذة من عش
نعام بل كانت تستخدم من قبل أولئك الأوائل كمواعين. يذكر أن النعام
العربي كان قد انقرض أوائل القرن العشرين.
مستحاثات المنطقة الشرقية من الإمارات أقدم عمراً وأكثر بكثير في بعض
المواقع. وقد تشكل جبل حفيت قبل مابين 50 و30 مليون عام نتيجة حدوث
ثنيات في قشرة القاع البحري. ومع الزمن تآكلت قمة هذا الجبل وبقيت منه
الكتلة الحالية وهي الجزء السفلي من الثنية.
تعود
المستحاثات في جبل حفيت وجبل حوية المجاور إلى حقبتين زمنيتين
مختلفتين، العصر الأيوسيني (34-55 مليون عام) والأوليغوسيني (34-23
مليون عام). وعلى السفوح الدنيا للجبل وقرب الفتحة التي يمر بها الطريق
نحو مصنع الاسمنت يمكن العثور على مستحاثات نوموليت فيشتيلي والمرجان
وبطنيات الأقدام وقنافذ البحر.
أما
جبل حوية الشهير بمستحاثاته التي تعود للعصر الطباشري (140-60 ملون
عام) ففيه أيضاً صخور أعيد تاريخها إلى العصر الأوليغوسيني (حوالي 30
مليون عام) بوجود محارات متحجرة فيها.
قبل
حوالي 30 مليون عام، كانت سلسلة جبال حجر مجموعة من الجزر في مياه بحر
التيثيس الدافئة والضحلة. الجبال ذاتها تتكون من صخر أسود مخضر (أوبني
محمر باهت) لا يحتوي مستحاثات يدعى الأوفيوليت. كما أن الرسوبيات
الملقاة في خلجان المياه الضحلة الداخلية المحيطة بالمنطقة فقد كونت ما
يدعى الآن تشكيل سمسمة. ويمكن التعرف على نماذج جيدة من هذا التشكيل في
جبل حوية وجبل روضة وجبل بوحيص وقرن مرة. وتحتوي الصخور الكلسية في هذه
التلال على أعداد كبيرة من مستحاثات بطنيات الأقدام والمرجان
والروديست، وهو نوع من الرخويات ثنائية المصراع على شكل مخلب انقرض
أواخر العصر الطباشيري. ومن المخلوقات المنقرضة الأخرى هناك أكتيونيلد
وهو من بطنيات الأقدام. بعض الصخور الموجودة أشبه بعنقود واحد كبير من
هذه المستحاثات. وبأخذ مقطع عرضي لها تجد أنها ذات بنية ذات طبقات
ملفوفة حول بعضها. كما يمكن العثور أيضاً على مستحاثات لفصائل عديدة من
قنافذ البحر.
هناك
1700 فصيلة من شوكيات الجلد معروفة للعلماء حتى الآن، بضع مئات منها
انقرض ولا نعرفه إلا متحجراً على شكل مستحاثات. وتتضمن عائلة شوكيات
الجلد حيوانات مثل أنواع نجوم البحر العديدة التي تتميز كلها تقريباً
بخمسة أذرع متناظرة.
يتكون
الهيكل العظمي لقنافذ البحر من صفائح كلسية تأخذ شكل قرص. ولقنفذ البحر
أقدام أنبوبية بها يتغذي ويتحرك ويتنفس. وتمكن معرفة عدد وشكل وحجم هذه
الأقدام في مستحاثات شوكيات الجلد حيث تبدو مثل سلسلة من الثقوب
الصغيرة في تشكيلات معينة. وبالنظر إلى الصفائح وتشكيلات الثقوب تمكن
معرفة فصيلة الحيوان المتحجر. وقد تم حتى الآن اكتشاف أكثر من 30 فصيلة
من قنافذ البحر المتحجرة حتى الآن وبعضها لم يكن معروفاً إلا قبل بضع
سنوات فقط.
في
إحدى المرات ذهبت إلى جبل بوحيص مع الدكتور أندرو سميث، الخبير بقنافذ
البحر من متحف التاريخ الطبيعي في لندن، الذي قال لي: "هناك أنواع
عديدة من قنافذ البحر. فهناك الكاسحة التي تأكل الطحالب من على الصخور.
وهناك الناخلة التي تصفي الماء بحثاً عن الطعام بين العوالق التي
تلتقطها."
وفيما
كنا نتمشى تحت نتوء صخري في مكان كان المطر الهاطل قبل أيام قد غسل
الأرض وشطف تلك الطبقة السطحية من التراب والغبار مما جعل المستحاثات
على الصخور تحتها تبدو للعيان فأشار أندرو إلى مستحاثة كبيرة فوقنا
أعلى من أن نصلها. كانت لقنفذ بحر بحجم الكف ولكن بهيكل عظمي رقيق بعد
أن تآكل معظمه. وتحته بقليل وجد مستحاثة لنوع آخر من قنافذ البحر أصغر
هذه المرة انتزعها من مكانها بضربة موزونة واحدة بمطرقته. وحالما قلبها
لينظر إلى الجانب السفلي منها قال متعجباً :"انظري، ها هي قدم أنبوبية
لا تزال موجودة. وهذا يعني أن الحيوان كان لا يزال حياً يرزق ويبحث عن
طعامه على قاع البحر حين طمره الطمي الناجم عن نشاط ما في حقبة ما قبل
التاريخ." وكانت القدم الأنبوبية ظاهرة على شكل خطوط بلورية متناثرة
على حواف جسد القنفذ.
قبلها
كنت قد عثرت على مستحاثة أمونيت في صخرة حاول أندرو رفعها لأن الأمونيت
يساعد في تحديد عمر المنطقة. وتبين لاحقاً أن تلك كانت واحدة من أكبر
مستحاثتي أمونيت عثر عليهما في الإمارات. ثم قام متحف التاريخ الطبيعي
في لندن لاحقاً بتحديد فصيلتها من قبل الدكتور مارك هاورث على أنها
"باشيديسكوس جاكوتي". وكانت هذه الفصيلة من الأمونيت قد عثر عليها في
فرنسا وشمال إفريقيا ومدغشقر. والمستحاثة كان من الممكن جمع أجزائها
على نحو جيد رغم أن وسطها لم يكن محفوظاً كما يجب أي أنها لم تكن تقدم
كامل تفاصيل جسد الحيوان الأصلي. وتم عرضها في متحف التاريخ الطبيعي
البريطاني ضمن معرض مؤقت تضمن مستحاثات من الإمارات.
وتمكن
الآن مشاهدة ودراسة المستحاثات التي عثر عليها في الإمارات في العديد
من معارض التاريخ الطبيعي داخل البلاد وخارجها، مثل:
o
متحف التاريخ الطبيعي، منتزه الصحراء، الشارقة
o
معرض التاريخ الطبيعي في مركز التوثيق بأبوظبي
o
متحف الأطفال في حديقة الخور بدبي (مجموعة صغيرة قدمتها
كاتبة هذه السطور)
o
متحف التاريخ الطبيعي البريطاني في لندن
o
على
موقع مشروع المسح الأثري لجزر أبوظبي
http://www.adias-uae/fossils.html.
يقدم الموقع معلومات مفصلة وصور لكل المستحاثات
المذكورة وأماكن وكيفية العثور عليها وجمعها.
|