في العقد
الأول من القرن العشرين لم يكن هناك أي باحث يستطيع أن يجاري
جيرترودبيل في معرفتها بأراضي آسيا الصغرى والبلدان المتاخمة للأجزاء
الشمالية من شبة الجزيرة العربية والتي كانت جزءاً من الإمبراطورية
التركية الممتدة من اسطنبول إلى العراق
شرقاً
والأراضي السورية وفلسطين وشبه الجزيرة العربية وصولاً إلى سواحل عدن
في اليمن جنوباً، حيث بسط العثمانيون سيطرتهم على الحجاز وعسير تاركين
الجزء الأكبر من الصحراء للقبائل. عاشت هذه القبائل في أراض لم تطأها
قدم إنسان باستثناء من سكنها من القبائل البدوية الذين لم يعترفوا بأي
سلطة عليهم أو يكنوا الاحترام لأي قانون غير قانون الصحراء.
في مطلع
القرن العشرين كان الملك عبدالعزيز بن سعود يحاول بسط سلطته على شبه
الجزيرة العربية، حيث بدأ بقتال الجيوش التركية المتمركزة في حصون
الصحراء. وكان يحاول جاهداً بسط نفوذه على القبائل البدوية سعياً
لجمعها تحت سلطة مركزية. وكان يحاول إقناعها بالتخلي عن أسلوب حياتها
المتمثل في التنقل الدائم وأن تستقر في الواحات الخضراء لتتحول إلى
مجتمع زراعي.
بعد تفكير
وتمحيص طويلين قررت جيرترود بيل القيام برحلتها عبر تضاريس الصحراء
الصعبة في شمال شبه الجزيرة العربية، وهو ما يشكل رحلة طموح وتحدي
بالنسبة لسيدة، آخذين بعين الاعتبار المخاطر التي الكامنة في رمال
الصحراء الملتهبة. بدأت جيرترود رحلتها مبحرة إلى الإسكندرية، ومن ثم
سافرت إلى دمشق في شهر نوفمبر من العام 1913. وعند وصولها لدمشق شعرت
بالطمأنينة للأخبار التي سمعتها بأنها ستكون بمأمن عند مرورها لأن
الحرب القبلية أنهيت بموجب اتفاقية سلام. كان منظر الصحراء الكبيرة
يبدو آمناً للوصول إلى حائل التي كانت عاصمة ابن رشيد في منطقة نجد،
وهو الذي كان يشن هجمات متقطعة على الجيوش التركية وبحالة عداء دائم مع
جيوش ابن سعود الذي عزم على أن يُخضع منطقة نجد لسيطرته.
بدأت
جيرترودبيل في دمشق تجهيز قافلتها التي ستقلها عبر الصحراء. وبتاريخ 12
ديسمبر أجري لها حفل وداع في السوق المحلي في مركز المدينة وكان
برفقتها مندوب عن ابن رشيد، حيث قام هذا المندوب بالإبراق إلى سيده في
حائل عن السيدة الإنجليزية التي تعتزم زيارة العاصمة وحصل على موافقته
قبل أن تغادر. وبعد أربعة أيام من مغادرتها لدمشق وبينما كانت تشق
الصحراء السورية، قررت جيرترودبيل أن تقسم رحلتها إلى مرحلتين. المرحلة
الأولى من الرحلة تقوم من خلالها باستكشاف الأوابد الأثرية للبيزنطيين
القائمة في برقة واستكشاف البركان الهامد في جبل سايس. لقد تعرضت لبرد
شديد بسبب سفرها في أواسط الشتاء عبر الصحراء السورية عندما كانت درجات
الحرارة في الصحراء تهبط بشكل ملحوظ في الليالي القارسة، وكان الصباح
يجلب معه الصقيع والمطر البارد والرياح. ومما زاد الطين بلة تعثر نوقها
بالطين، وكان كل من معها في القافلة يشعر بالبرد ينخر عظامه على الرغم
من وجود الملابس الدافئة.
ومع ذلك
كانت جيرترودبيل مستمتعة في اجتياز الصحراء التي يطبق عليها الصمت
والعزلة، والتي كانت تطوقها من جميع الجهات، وكان الشيء الحقيقي الوحيد
هو الأصوات التي تصدرها حيوانات القافلة والمساعدين المرافقين لها. وفي
اليوم السابع من الرحلة وصلت قافلة جيرترود إلى موقع للبدو من جبل
الدروز اختاروا هذا المكان لنصب خيامهم. وبمجرد رؤية قافلتها، أتت
مجموعة من الفرسان مسرعة على خيولها وأحاطت بقافلتها وقاموا بتجريد
رجالها من أسلحتهم. كانت لحظة رهيبة بالنسبة لجيرترود بيل التي اعتقدت
بأن كل آمالها المرجوة من الرحلة قد تبخرت، كانت جالسة على جملها تراقب
بهدوء دليلها يشرح بالعربية للبدو الذين لم يكونوا يصدقوا بأن السيدة
كانت في طريق رحلتها إلى حائل بناء على دعوة شخصية من ابن رشيد.
وخلال وقت قصير، كان قادة القبيلة قد وصلوا إلى المكان وأمروا بأخذ
مؤنهم، وبعد أن عرفوا الدليلين الخاصين بها علي ومحمد أعادوا النظر عن
قرارهم وأعيدت لهم ممتلكاتهم.
وبتاريخ 25
ديسمبر وصلت قافلة جيرترود إلى الحصن البيزنطي القديم في برقة، والتي
لم تطأها قدم أوروبي لقرون مضت. وبعد الانتهاء من دراسة الآثار
الموجودة في هذا الموقع، مضت قافلتها متجهة جنوباً لتدخل صحراء النفوذ
في 14 يناير عام 1914. كانت الصحراء مغطاة جزئياً بالشجيرات الخضراء
والأعشاب المزهرة في فصل الشتاء، فتباطأت الجمال وهي تتناول الأعشاب
مما أخر الرحلة قليلاً. سارت عبر الهضاب التي تشكلت من الرمال الحمراء
الذهبية لمدة أربعة أيام، وقامت معظم قبائل الصحراء باستضافتها
ومرافقيها بحفاوة واحترام بالغين نظراً لأنها المرة الأولى التي
يصادفون فيها شخصاً قادماً من أوروبا إلى هذا الجزء من العالم، فيما
قامت جيرترود بشكرهم على عاداتهم الصحراوية الأصيلة. بعد ذلك تابعت
طريقها تشق صحراء النفوذ لتدخل التضاريس الصخرية المملوءة بشجيرات
السنط الشائكة والنخيل الصحراوي. وأخيراً وصلت إلى حائل بتاريخ 25
فبراير 1914.
هناك تناهى
إلى علمها أن الحاكم الأمير ابن رشيد كان في الخارج يقود معركة في
الصحراء في محاولة منه لقمع القبائل الثائرة في منطقته والتي رفعت راية
الثورة على حكمه. تم اصطحابها إلى القصر الذي بدا لها أنه مستوحى من
قصص الليالي العربية التي طالما قرأت عنها أيام طفولتها، لتنتظر عودة
الأمير الذي لم يكن من المرجح أن يعود قبل شهر آخر.
كونت
جيرترود صداقات مع نساء القصر الملكي وحصلت على الإذن للذهاب إلى أي
مكان تريده وسمح له بالتقاط الصور الأمر الذي أسعدها كثيراً. تم قطع
وعد لها ولمرافقيها بأن يتم إيصالها بأمان إلى بغداد، حيث كانت قد قررت
أن تكون وجهة سفرها التالية إليها. وبغرض إبقاءها بمأمن عن الأذى طوال
رحلتها استعانت بخدمات مرافقين للتأكد من أنها تعامل معاملة ضيفة لا
عدوة. لم يكن هناك قانون مكتوب في الصحراء، ولذا فإن الأمر الذي سيمنع
معظم القبائل العربية المعادية من إيذاءها إذا ما كانت بصحبة رفاقها.
وقد التزم مرافقوها بقوانين وأعراف الصحراء أثناء خدمتها وأوصلوها إلى
مدينة بغداد بتاريخ 29 فبراير 1914، ومن هناك سافرت إلى دمشق مروراً
بمدينة تدمر الأسطورية.
لقد كانت
رحلتها، بغض النظر عن كونها مغامرة كبيرة، إنجازاً غير مسبوق بالنسبة
لسيدة، حيث قامت بإضافة مخططات معروفة وغير معروفة لخريطة شبه الجزيرة
العربية، ووضعت حدود مناطق حكم التدمريين والرومان والأمويين الأمر
الذي أثرى تي. إي لورانس بالمعلومات الهائلة خلال حملاته ضد الأتراك في
الجزيرة العربية في عامي 1917 و1918.
كرست
جيرترودبيل بقية حياتها للعالم العربي. فقد أصبحت موظفة ذات صلاحيات
كبيرة في الإدارة البريطانية في بغداد بعد انتهاء الحرب العالمية
الأولى وساعدت في وضع حدود العراق بعد الحرب، حيث قسمت إلى ثلاثة
أقاليم وهي الموصل وبغداد والبصرة كبلد مستقل، ورسمت سياسة العراق
الحديث بمساعدة رئيسها السير بيرسي كوكس الذي كان يشغل منصب المفوض
السامي البريطاني. وكانت تلك السياسات تنص على الاحتفاظ بالمنطقة
الكردية بالقوة إذا كان ذلك ضروريا في شمال العراق وتعزيز ومساندة
المسلمين السنيين في محيط بغداد ليحكموا الشيعة، وتشجيع رجال الدين
الشيعة إذا رغبوا للانتقال والعيش بشكل دائم في إيران. لقد كانت
جيرترودبيل متعاطفة مع العرب وتؤمن بحقهم في الاستقلال، وكان لديها
اليقين بأن العراق لديه رجال قادرين على تسلم زمام السلطة وإدارة
بلدهم.
في ربيع
1921، دعا ونستون تشرشل لعقد مؤتمر في العراق، حيث كانت جيرترودبيل هي
المرأة الوحيدة من بين الحاضرين. وبجهود منها أصبح الأمير الهاشمي فيصل
الذي أخرجه الفرنسيون من سوريا ملكاً للعراق في عام 1921، وخلال
السنوات الأولى من حكمه، كانت هي القوة الكامنة وراء العرش، حيث كانت
المستشار الشخصي للملك في جميع الأمور المتعلقة بحكم بلده وسياسته في
الشؤون الخارجية. ولكونها لم تكن راغبة في ترك البلد التي كرست حياتها
في سبيله، تم تعيينها مديرة بمرتبة الشرف للآثار القديمة في بغداد، حيث
قامت بتأسيس الجناح الرئيسي لمتحف بغداد والذي ما يزال يحمل اسمها.
أعطاها السكان العراقيون اسم "خاتون"، وهو اسم كان شائع الاستعمال لوصف
السيدة الجميلة والنبيلة. وبعد أن أتعبتها سنين طويلة من العمل الدؤوب
لنصرة قضية العرب في من أجل استقلالهم، أغمضت جيرترود بيل عينيها
الإغماضة الأخيرة في يوليو من عام 1926 ودفنت في بغداد. |