كنا،
على ما أعتقد، أربعة أصدقاء، وأنا، في منزلي المتواضع الذي يقع وسط
غابة من الأشجار المعمرة، والتي يتضوّع منها رائحة الصنوبر، مضفياً على
الجلسة سحراً خاصاً، حاولنا نحن عرب تلك الأمسية أن نبحر عبرها، أو إلى
حوافيها، من يباب واقعنا المقيم .
لابأس ولا غرابة
من ذلك، فلا يمكن
للمرء أن يستقيل من واقعه، أو يغترب عن هموم أمته.
نحاول
أحياناً، نحن جيل الإحباطات العربية أن نجد لإنفسنا مكاناً للفرح، أو
برهة لنسيان الحزن، ونستجر أنفسنا إلى أمكنة قصيّة، ومطارح بعيدة، إلا أننا نبقى ... حيث يجب
أن نبقى ... ترافقنا أزماتنا كظلالنا، كهاماتنا، تتفيىء في حقائبنا
ساخرة من محاولات هروبنا المزعوم، ومن مشاريع تفلت لحظوي وهمي.
الجلسة
كانت تضم مجموعة من الأصدقاء
الإنكليز،
وكان الحديث لا يتعدى حدود العموميات الإجتماعية ، والسياسية وإن بقدر
أقل،
ولم أعد أذكر على وجه الدقة المسار العام للنقاش (وعلى ما
أجزم ولادة طفل لأحد حضور العشاء) ، عندما توجه نحوي الصديق الإنكليزي
متسائلاً عن عدد الدول العربية التي تعتمد نظاماً إجتماعياً يقضي بدفع
مساعدات أو إعانات شهرية للأطفال حديثي الولادة وذلك بغرض مساعدة أهاليهم
على شراء الحليب والمواد الأخرى التي يحتاجها المولود في إستعمالاته
اليومية ، وليس الدواء لأن الطبابة مؤمنة ومجانية ليس لحاملي الجنسية
الإنكليزية ، بل لكل مقيم على أراضي المملكة المترامية ، كما أضاف صاحب
الكلام .
أعترف
بأنني ، زعمت حينها ، إنني لم أستوعب السؤال ، وذلك رغبة مني بأن أستمع
إليه مرة أخرى ، فأعاده السائل ، بهدوء أكثر ، وبصوت أكثر رتابة، مشدداً
على تعبير "حين يرى الوليد النور" تسري تلقائياً مفاعيل المساعدة الشهرية
الحكومية ،
بصوت متردد تعلوه نبرة الإستقواء بأن هذا التدبير قد لا
يكون معتمداً في المملكة المتحدة ، سألت جليسي الإنكليزي : وهل مثل هذا
الإجراء الإجتماعي موجود لديكم في بريطانيا ، حتى تسألون عن مدى إلتزام
بلادنا وأنظمتنا بحيثياته ؛
بالهدوء
الإنكليزي المعهود والمعتاد رفع صديقي حاجبيه مستغرباً إجابتي مؤكداً أن
الحكومة البريطانية تقوم بدفع مبلغ يزيد عن الستين جنيهاً إسترلينياً
شهرياً لكل طفل إنكليزي إعتباراً من يوم ولادته وحتى سن السادسة عشرة ،
كائناً ما يكن عدد أطفال العائلة الواحدة أو المنزل الواحد .
وأضاف
صديقي هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن الحكومة المذكورة تتنصل من
مسوؤلياتها تجاه هذا المواطن بعد سن السادسة عشرة ، بل أن ثمة إلتزامات
دائمة وضمانات دائمة من الحكومة البريطانية تجاه مواطنيها، فبالإضافة إلى
الطبابة والتعليم المجاني تلتزم هذه الحكومة بتوفير فرص العمل لشبابها
حسب إختصاصاتهم ، وثمة دوائر تتولى توجيه وإرشاد الأجيال الشابة نحو
الإختصاصات المجدية والأكثر فعالية بحيث لا يترك أي مجال لوجود فائض في
إختصاصات علمية ، وثغرات ونواقص في إختصاصات أخرى ، أي أنه بإختصار يوجد
ما يسمى بالتخطيط الإجتماعي والعلمي في المملكة المتحدة وعلى أراضيها لكل
الأجيال المتوالية.
هذا عدا
، عن ضمان الشيخوخة ، والدور المتخصصة برعاية وإيواء المسنين ومواساتهم
وتقديم كل أنواع الرعاية الحياتية التي يحتاجونها ، بل أن هناك الكثير
الكثير والتي لا مجال لحصرها من التقديمات الإجتماعية التي توفرها هذه
الدول العظيمة لشعوبها ، وتصرف الكثير من الجهد والمال في سبيل راحة
مواطنيها ذهنياً ً وجسدياً.
لا
مندوحة من القول إن شعوراً متناقضاً قد خالجني في الوقت عينه ، وأزعم أن
هذا الشعور قد بدأ يتسرب إلى وجداني ، ولم يكن صديقي الإنكليزي قد أنهى
شروحاته المستفيضة حول التقديمات الفضلى التي يتمتع بها المواطن في
أوروبا عامة .
الأول:
كان عارماً بالرضى والإعجاب والفرح بأن بعض الدول والأنظمة تغدق على
أهاليها كل ما يبعد عنهم شبح الفاقة والعوز وعدم الأمان الإجتماعي .
الثاني:
شعور بالإحباط والمرارة من الأوضاع الإجتماعية التي تسود في معظم أرجاء
الوطن العربي ،
فعلى
الرغم من الثروات الهائلة الني تمتلكها بعض حكوماتنا والتي تقارع لا بل
تزيد عما قيل عن خزائن " آرون" . فعلى الرغم من غنى أراضينا بالثروات
الطبيعية وبالنفط تلك النعمة الإلهية ، على الرغم من كل هذا نرى أن
المواطن العربي وفي معظم الدول العربية يعيش حالة من فقدان التوازن
الإجتماعي والخوف المتنامي من المستقبل ، إضافة إلى الغربة النفسية عن
واقع بعض الحكومات التي لا تولي لشعوبها أية حسابات على الصعيدين الحياتي
والمعيشي ،
بمرارة كانت تلك
المشاعر تتجاذبني ، ولا أدري ، لماذا ، باشرت في عقد مقارنة خجولة وصامتة
بين المليارات والثروات التي يهدرها بعض العرب ، وبين التخطيط العلمي
المبرمج والمدروس الذي يتصدى له الغرب لمواجهة أعباء شعوبه ومتطلباتها .
في لحظة
واحدة ، ودفعة واحدة مرّ شريط أسطوري في خاطري متجولاً بين أرجاء الوطن
العربي والإسلامي حتى ، وبين بعض أرجاء الأنظمة الديكتاتورية التي تضع
مصالح شعوبها في آخر إهتمامتها.
ولعلي
أدري ، ولعلّ القارئ النبيه أيضاً يدري ، أن عقد المقارنة بين هذين
النظامين هو خير مؤشر على تداعيات كلٌ منهما ،
فليس بالصدفة أن الدول العظمى ، لم تصل إلى مواقعها
الحضارية المتقدمة إلا لأنها راعت إحتياجات مواطنيها وهيأت لهم الأرضية
الخصبة للإبداع والخير والعطاء .
وأيضاً
فإن الدول الأخرى التي تغط في دياجير الجهل ، وتسكن إلى ثبات عميق ، تقع
في هذا الدرك الأسفل من سلم العالم الحديث لأنها إغتالت العقل ، وقتلت
الإبداع ، وصادرت الفكر والمستقبل والحرية وهيأت لمواطنيها كل بؤر الفساد
، ومكامن الجهل ، والغربة في الوطن وعن الوطن .
ألا
نستفيق ، ألا تستفيق حكوماتنا العربية والإسلامية ، ألا تهب لعقد
المصالحة الكبرى ، والتسوية التاريخية مع شعوبها وأهلها .
لقد آن
الأوان .
إن تلكؤ
أو تقصير بعض الحكومات العربية عن القيام بواجباتها لا يعني أن ثمة تراص
وإلتزام لدى الكثير من الفعاليات الإقتصادية العربية المتقدمة والتي تملك
أوزاناً راجحة في موازين التحولات الإجتماعية أو في التأثير فيها على
الأقل.
ولا
أعفي هنا ، بعض الكوادر الفلسطينية في الكلام عن تقصيرها الفادح إزاء
قضايا شعبها على المستوى الإقتصادي والإجتماعي على الأقل ، فالهوّية هي
إلتزام ، وعطاء ، وتضحية ، ومشاركة ، ولا يجوز أن تصبح هذه الهوية جسر
عبور نحو الهروب من المترتبات على كافة أنواعها .
خلف أحمد الحبتور |