ففي
عام 1929 توفي والدها، وبعد ذلك بسنة، أي سنة 1930، لحقت به أمها. ثم
كانت الفاجعة الكبرى عندما توفي جبران خليل جبران سنة 1931م، فحرمت بموته
من ذلك النبع الذي كان يرفدها، عن بعد، بعواطف روحية سامية، ثم تعاقبت
عليها، بعد ذلك، الصدمات النفسية، فمن موت إلى موت، ومن ظلم الأقارب إلى
تخلي الأصدقاء.
وكانت قمة المصائب أن تكالب عليها أقاربها طمعاً بثروة والدها عقب وفاته،
وما لبثوا أن حاكوا ضدها مؤامرة أثمرت عن إيداعها مستشفى العصفورية الخاص
بالمجانين في لبنان بعد أن زعموا أنها فقدت صوابها. لكن حفنة من الأصدقاء
المخلصين، على رأسهم المفكر الكبير أمين الريحاني، وقفوا إلى جانبها
وأثبتوا بما لا يقبل مجالاً للشك طبيعة المؤامرة التي حيكت ضدها، فخرجت
من المستشفى مباشرة إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، حيث ألقت محاضرة
مطولة أمام مئات الحضور، فدحضت بذلك مقولات المغرضين الجشعين.
وحاولت بعدئذ معالجة وضعها المتدهور، ومداواة نفسها الحزينة، بالأسفار
إلى أقطار أوربا المختلفة تارة، ومطالعة الكتب القديمة. ثم عادت في نهاية
المطاف إلى مصر عام 1939هزيلة الجسم، والروح، والنفس، وقضت ما تبقى لها
من أيام وحيدة، منعزلة، غارقة في بحار الألم والحزن، وبقيت هناك حتى لفظت
أنفاسها الأخيرة.
وعندما انتشر خبر وفاتها، فجع العالم العربي وهزه المصاب ، فانطلقت أقلام
الكتاب والمفكرين للحديث عنها، عن مي زيادة الأديبة، والكاتبة، والصحفية،
والخطيبة، وأبنها الكثيرون، وكان من أبدع ما قيل في رثائها قصيدة الشاعر
خليل مطران في الحفل الذي أقيم لتأبينها:
نعمةٌ ما سخا بها الدهــرُ حتى آب كالعهدِ سالباً وضَنيـنا
أيُّـهذا الثرى ظَفِرْتَ بحسـنٍ كان بالطُّهْرِ والعفافِ مصونا
لَهْفَ نفسي على حجىً عبقري كان ذُخْراً فصارَ كَنزاً دفيناً
فعليكِ السلامُ ذكراكِ تحـيا وبرغـمِ البِعـادِ لا تبعــدينا
والحقيقة أن مي زيادة لم تكن مجرد أديبة تكتب الشعر والنثر، بل إنها كرست
حياتها وأدبها لخدمة قضايا أمتها العامة، وخصت منها قضايا المرأة، وأهمها
التحرر. وكانت في تلك الفترة، هي والعديد من السيدات المصريات والعربيات
يخضن معركة اتسمت بالحدة والتطرف في كثير من الأحيان من أجل الحصول على
الحقوق المشروعة للمرأة. وقد انضمت مي إلى الحركة النسائية التي كانت
ترأسها هدى شعراوي، وكذلك اشتركت في الاجتماعات التي كانت تعقدها في
الجامعة المصرية القديمة. وكتبت عن شهيرات النساء في عصرها من الداعيات
إلى تحرر المرأة وإنصافها مثل باحثة البادية وعائشة التيمورية.
ولعل أجمل تعريف بمي، ما قالته هي في وصف نفسها في رسالة بعثتها إلى جوليا
طعمة دمشقيّة:
"أصحيح
أنك لم تهتدي بعد إلى صورتي؟ فهاكِهَا: استحضري فتاة سمراء كالبنّ أو
كالتّمر الهنديّ، كما يقول الشعراء، أو كالمِسك كما يقول متّيم
العامريّة، وضعي عليها طابعاً سديميٍّا من وجد وشوق وذهول وجوع فكريّ لا
يكتفي، وعطش روحي لا يرتوي، يرافق ذلك جميعاً استعداد كبير للطرب
والسرّور، واستعداد أكبر للشجن والألم- وهذا هو الغالب دوماً- وأطلقي على
هذا المجموع ميّ..."
لقد
كانت مي ظاهرة غريبة في المجتمع العربي المعاصر, حيث عاشت حياتها دون
زواج، على الرغم من أنها جمعت بين الفن والشباب والجمال والشهرة,
وكانت محل اعجاب الكثير
من ضيوف ندوة الثلاثاء، كما
وطلبها للزواج شخصيات لها مكانتها الاجتماعية المرموقة،
لكنها لم تتزوج أحدا ممن تقدموا إليها, وظلت حتى وفاتها دون زواج،
مكتفية بنوع غريب
من الحب، حب على الورق بينها وبين جبران خليل جبران الرجل الوحيد الذي
حقق المعادلة
الصعبة.. استطاع جبران ان يحرك مشاعرها كامرأة, بالروعة نفسها والعمق
نفسه,
الذي حرك بهما عقلها المبدع, وكانت الرسائل المتبادلة بين مي وجبران
منذ
عام1912 حتى عام1931، عام وفاة جبران هي وسيلة
الالتقاء الوحيدة.
كتبت في أثناء رحلة عمرها، عدداً غير قليل من المؤلفات، منها:
- أزهار حلم: وهو ديوان شعر باللغة الفرنسية
- باحثة البادية: ألفته سنة 1920م، وفيه درست شخصية ملك حفني ناصف
(الملقبة بباحثة البادية) ونظريتها الاجتماعية، ولقد علّقت على تلك
النظرية تعليقات جريئة وصريحة، استقبلت في العالم العربي بترحيب نسائي لا
مثيل له وانتقادات كبيرة من جانب الجنس الخشن..
- كلمات وإشارات: وهي مجموعة من الخطب الاجتماعية طبعت سنة 1922م، وفيها
عالجت حالة البؤس والشقاء التي يعيش فيها اليتيم والفقير، ودعوات إلى
مساعدتهما مساعدة فعالة.
- سوانح فتاة: جمعت في هذا الكتاب، الذي نشر سنة 1922م، بعض النظريات
والآراء التي اقترحها عليها الأديب ولي الدين يكن.
- المساواة: وهو كتاب فريد من نوعه في اللغة العربية، درست فيه قضية
الطبقية الاجتماعية وكيفية نشوئها، ثم عرضت الكثير من الحلول العملية.
- الصحائف: ظهر هذا الكتاب سنة 1924م، وهو يشتمل على مقدمة قيمة في النقد
الأدبي، ثم على قسمين، خصصت أحدهما لصحائف بعض الأشخاص، وخصصت الآخر
لرحلات السندباد البحري.
- بين الجزر والمد.
- ظلمة وأشعة.
ويشتمل هذا الكتابان الأخيران على مقالات أدبية، وفنية، وشعرية.
كما قامت بترجمة عدد من المؤلفات الأجنبية إلى اللغة العربية، ومنها:
- ابتسامات ودموع: وهو مترجم عن اللغة الألمانية سنة 1911م.
- الحب في العذاب: وهو مترجم عن اللغة الإنجليزية سنة 1925م.
- رجوع الموجة: وهو مترجم عن اللغة الفرنسية سنة 1925م.
|