كيف
نفهم المتنبي
جموح
الخيال والاستعارات الحالمة والمبالغات في الصور مما نجده في شعر المتنبي
جعلت الكثيرين يصفونه بأنه المثال الأبرز لشعر المديح والفخر. ولنفهم
أهمية المتنبي في الشعر العربي, علينا أن ننظر عن كثب لأنواع الشعر
السائدة في عصره.
تنقسم
الأشكال الشعرية السائدة حينها وفق القواعد التقليدية إلى شعر الغزل الذي
يضم قصائد الحب والقطعة أو المقطوعة وهي نوع أدبي أصغر وأقل جدية يتحدث
عن الجانب الهزلي من الحياة وهناك القصيدة وهي الأسلوب الذي اختاره
المتنبي بأسلوبه التأكيدي الأكثر ذاتية، ولكن ببعض التعديل.
ولدت
القصيدة الشعرية مع فجر المجتمع العربي قبل الإسلام. وتطورت لتصبح الشكل
الأول للأدب العربي والذي كان أساساً شعراً يتحدث عن الشجاعة والإقدام
تفخر به القبائل في بدايات العصور العربية. القصيدة في مضمونها تصف مراحل
من حياة كاتبها وتجاربه أو حياة وتجارب قومه. وكان هذا الوصف يصاغ بأسلوب
مفعم بالقوة والرصانة. بنية شعر القصيدة تتضمن ما بين عشرين وأكثر من مئة
بيت. كما أن أسلوب القصيدة القائم على الالتزام بالبحر والقافية نفسيهما
في كل الأبيات لا
يزال
سائداً حتى اليوم.
يبدأ
الشاعر القصيدة بمقدمة هي بالضرورة أبيات غزل تعرف باسم النسيب. بعدها
يأتي وصف الشاعر لتجربته التي يريد التحدث عنها. ثم ينتقل إلى الخاتمة
التي تتضمن جزءاً يمدح فيه معطيه ويهجو أعداءه. وفي أحوال نادرة, يحس
الشاعر بالحرية لينهي قصيدته بأبيات يفخر بها بنفسه وقد اعتاد المتنبي
على فعل ذلك مراراً.
وكانت
القصيدة شديدة الجاذبية للعرب، وأصبحت تعتبر الشكل الشائع لشعر المديح,
وهو عموماً نص شعري يمتدح فيه الشاعر زعيماً معيناً يرفع فيه من شأنه
وخصاله.
وإلى
جانب ذلك كانت القصيدة تكتب أيضاً للتعبير عن المواضيع الفكرية. إذ في
سياق تطورها أصبحت المقدمة أحياناً تتحدث عن الطبيعة أو الحكمة. وفي
أحيان نادرة كانت المقدمة تستخدم ليثبت فيها الشاعر فصاحته وتمكنه من
اللغة في تعبيره عن نفسه.
مضى
المتنبي بالقصيدة خطوة أخرى وبز كل شعائرها بفضل ما وصفه الدارسون بأنه
"جموح خياله وجرأته".
وفي
نتاجه الشعري جرب المتنبي ومزج بين التقاليد الأدبية في الشام ومصر
والعراق والمعايير الأدبية العربية التقليدية الصارمة. وقصائده التي
كتبها - مدائح لرعاته بأبيات مقتضبة وجذلة
لا
تزال ترددها الألسن حتى اليوم- كانت دائماً تلهب خيال العرب وخصوصاً
زعمائهم. إذ دائماً ما تمتع المتنبي بقدر كبير من المعجبين بقصائده
المفعمة بعباراته القوية وجرسها الرفيع. ومرة أخرى, فإن القارئ لأشعاره
المترجمة من غير المحتمل أن يشعر بقدر كبير من المتعة الفنية مثلما يفعل
قارئه العربي.
كان
المتنبي الذي ملأ الفخر بالنفس رأسه يتغنى في كثير من الأحيان بمآئره
مثلما نجد في بيته الشهير:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس
والقلم
إن
فهماً أعمق للقامة الشعرية العالية للمتنبي تتطلب معرفة المهارات التي
يتوجب على الشاعر العربي أن يمتلكها. أولاً يجب أن تكون للشاعر ثقافة
عالية وبالتالي أن يكون حسن التعليم. كما يتوجب عليه أن يتجاوز مجرد
المعرفة العامة بالأدب التقليدي العربي والفارسي. أضف لذلك أن عليه تحقيق
قدر طيب من المعرفة بمختلف الميادين العلمية وأهمها إطلاعه على الأساطير
والقصص والمعتقدات العامة والتقاليد الشعبية. كما يتطلب الأمر منه
المقدرة
على بناء مزيج من هذه العناصر وغيرها وأن يشير إليها في قصائده. هذا
المزيج كان فناً يمسك المتنبي بناصيته وأعطى به صوراً شعرية خيالية تعتمد
في أغلب الأحيان على هوايات الحكام مثل الشطرنج والصيد والفروسية
وغيرها.
|