المصريون
الذين تقل أعمارهم عن 25 عاماً لم يعرفوا حتى الآن رئيساً غير مبارك الذي
تسلم السلطة عام 1981 بعد اغتيال أنور السادات. وعلى مدى العقود الثلاثة
التالية لم تبدر عنه أي إشارة إلى نيته التخفيف من قبضته على السلطة. بل
ساد اعتقاد لبعض الوقت أن مبارك الذي يحصل دوماً على 98 % أو أكثر من
أصوات الناخبين إنما يجهز إبنه جمال ليصبح رئيساً بعده في يوم ما.
إذاً ما
الذي كان وراء هذه الانعطافة في موقف الرئيس وما الذي جعله يتأخر كل هذا
الوقت ليفهم أن الديمقراطية هي الطريق الوحيد الذي عليه أن يتقدم فيه،
وليس طريق الجمهورية الملكية التي يرث فيها الابن رئاسة أبيه والتي يعتقد
معظم المصريين إنها كانت في باله؟
لا شك في
أن الضغط الأمريكي قد لعب دوراً رئيساً في تغيير مبارك لموقفه، ولم تخف
واشنطن رغبتها في إدخال الديمقراطية التي تريد إلى المنطقة سواء أحب
قادتها ذلك أم لا.
في
البداية كانت أفغانستان ثم أتى دور العراق والآن تهز أمريكا العصا في وجه
سورية وإيران. ليبيا رأت أن من الحكمة اتباع الحكمة وأن "اليد التي لا
تستطيع عضها، بوسها" فيما أجرت السعودية مؤخراً انتخابات بلدية تعتبر
تاريخية رغم عدم مشاركة النساء فيها.
ربما
تكون الحكومة المصرية قد اعتقدت أنها مستثناة من هذه الدعوة بالنظر إلى
تعاونها غير المشروط مع حرب بوش على الإرهاب وإلى موقف الوسيط الذي
اتخذته في الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين وإلى انفتاحها الأخير على
إسرائيل بخصوص خطة شارون لفك الارتباط. غير أن هذا التفكير تبين خطؤه.
فالإدارة الأمريكية حين يتعلق الأمر بتطبيق أجندتها التي رسمها المحافظون
الجدد لا تعرف أصدقاء ولا تعطي استثناءات.
وحين
بدأت الشائعات تثور عن أن محمد البرادعي المصري المولد ورئيس الوكالة
الدولية للطاقة الذرية ربما كان يعمل على تغطية عملية سرية محتملة لنقل
التقنية النووية من الباكستاني عبد القدير خان إلى مصر، بدا أن مبارك فهم
أخيراً الرسالة. وأصبح الخيار أمامه إما مقاومة الضغط لإحداث تحول
ديمقراطي من الداخل أو الانسياق البراغماتي وراء التيار.
أول
إشارة على أن مصر ربما تكون موجودة على قائمة الأهداف الأمريكية تعود حتى
أغسطس 2002 حين طلب ريتشارد بيرل أحد أعتى قادة المحافظين الجدد من مؤسسة
راند للبحوث أن تقدم دراسة أمام لجنة السياسة الدفاعية في البنتاغون.
وحينها
قال لورينت مورافيتش المتحدث باسم راند، وهو يقدم مشورته بخصوص
الاستراتيجيا المستقبلية في الشرق الأوسط، إن العراق "هو المحور التكتيكي
والسعودية هي المحور الاستراتيجي وأن مصر هي الغنيمة." حينها هرش الخبراء
رؤوسهم وهم يتسائلون عن الغنيمة التي قد تمثلها مصر وعمن سيقبض الجائزة
الكبرى؟
بل إن
السؤال الأهم هو هل هناك من غنيمة أصلاً للحصول عليها؟ إن مصر بزعامة
رئيس موال للأمريكان، مثل أيمن نور، يعمل على صياغة مفاهيم الناس عن
الغرب ويستخدم الدولارات الأمريكية لانتشالهم من الفقر سيكون انقلاباً
كبيراً لصالح البيت الأبيض.
كما أن
مثل هذا الزعيم يمكن الاعتماد عليه لإحداث مزيد من التقارب العربي
الاسرائيلي وتوظيف النفوذ الثقافي لمصر في المنطقة لتخفيف حدة العداء
لأمريكا. كما يمكن له أيضاً أن يزيد من انفتاح الاقتصاد وأن يشجع الخصخصة
والاستثمارات متعددة الجنسيات.
لكن حتى
لو وفى مبارك بوعده وسمح لحزب الغد بقيادة نور أن يشارك في انتخابات حرة
ونزيهة، فمن غير المحتمل له أن يحصل على ما يداني حصة الأسد من الأصوات،
لمجرد أنه فتح شرخاً في الباب أمام الأحزاب الأخرى لترفع رأسها فوق الخط
الذي كان مسموحاً لها به سابقاً، بما في ذلك حركة الإخوان المسلمين، وهي
أكبر جماعات المعارضة وأحسنها تنظيماً.
حين تدفق
أعضاء جماعة الأخوان المسلمين مؤخراً إلى الشوارع، فاقت حشودهم الضخمة
إلى حد بعيد حجم حركة كفاية الناشئة الموالية للغرب. ولحركة الأخوان
المسلمين اليوم 17 مقعداً في البرلمان وبالتالي فهم الجماعة الأكبر بعد
الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم، رغم أنهم رسمياً لا يستطيعون الترشح في
الانتخابات البرلمانية إلا عبر مرشحين مستقلين.
ويتوقع
الخبراء نصراً آخر لمبارك أياً كانت الظروف. ويقولون إنه يمسك بكل
الأوراق في بلد لا يسمح فيه للناس بالتجمع بموجب قوانين الطوارئ، فيما
تخضع وسائل الإعلام للسيطرة الحكومية عملياً. إن إيصال الرسالة للناخبين
هو جوهر العملية الانتخابية وهذه ليست مهمة سهلة للمعارضة.
ومع ذلك
فإن الابتهاج عارم في كل أنحاء البلاد. ففي بلد أكثر من نصف سكانه أميون
و36 مليوناً منهم يعيشون تحت خط الفقر، كما تقول صحيفة الوفد، فإن أي شيء
يحدث هو أفضل من الوضع الراهن.
وبالنسبة
لهؤلاء الناس فليست عقيدة الحزب هي الأمر المهم، وإنما هو من يستطيع أن
يوفر لهم فرص العمل ويحسن مستوى التعليم ويقلل التضخم ويعطي الاقتصاد
حياة جديدة.
الساسة
والنخب والأصوليون والمفكرون قد لا يتفقون في الرأي، لكنهم في حال تحقق
حالة "من الشعب ولأجل الشعب" فلن يكونوا أصحاب القول الحاسم.
أمريكا
ربما تحرك الطبخة السياسية، غير أن الجمهور المصري هو من سيعطيها
مكوناتها النهائية. وما أتمناه هو أن تكون الوجبة حين انتهائها طبخة
محلية ترضي أذواق أبناء البلد وتترك نكهتها المرة في أفواه الأجانب الذين
يحاولون التدخل فيها.
الحقيقة
هي أن الغرب وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة ليسا مهتمين بإحلال
الديمقراطية في المنطقة، وإنما يعملان على ترويج القادة الموالين للغرب
ولأجل هذه الغاية يستخدمان كل الحيل الممكنة لضمان صعودهم مثلما شهدنا في
أوكرانيا.
من أبرز
النماذج أأعلى ازدواج المعايير
الغربية نذكر الجزائر، فحين حقق حزب إسلامي هناك انتصاراً انتخابياً في
غاية السهولة عام 1992، ومنع من تسلم مقاليد الحكم بفعل انقلاب عسكري،
تعامى الغرب عن ذلك.
وفي
فلسطين اختير ياسر عرفات رئيساً للفلسطينيين بعد فوز انتخابي كاسح، غير
أن البيت الأبيض وصفه بأنه خارج اللعبة. وحين أصبح جان بيرتراند أريستيد
أول رئيس منتخب ديمقراطياً طوال 200 عام في هاييتي، قامت القوات
الأمريكية بنفيه منها بالقوة وأخذته إلى أفريقيا. وعلينا ألا ننسى
فنزويلا حيث يقول هوغو شافيز وهو رئيس منتخب آخر بأن الولايات المتحدة هي
التي كانت تمول المؤامرة ضد الحكومة.
بمقدور الرئيس بوش وجيشه من كتبة الخطابات صياغة كلمات وعبارات رائعة،
لكن وراء هذه الخطابة جيش من العملاء الأجانب ومثيري المشاكل والمرتزقة
الذين ليس لديهم سوى هدف واحد: المصالح الأمريكية أولاً. وإذا ما تصادف
أن كانت مصالح الشعوب تساير المصلحة الأميركية فلابأس وإن لم تكن فإن
الأمر من منظور البيت الأبيض لا يعدو كونه حظاً سيئاً. |