وفي
المقابل كان لورانس شديد الثقة بالعاملين معه. إذ دائماً ماكان زواره في
الموقع يشعرون بالدهشة وهم يرون صناديق مهترئة من العملات الفضية مفتوحة
هنا وهناك في مكتبه الهزيل. وكان لورانس يستخدم هذه العملات لدفع أجور
عماله. قريباً من موقع التنقيب كان فريق من المهندسين الألمان يبني جسراً
فولاذياً ضخماً فوق الفرات. وشعر أحد هؤلاء الألمان ذات مرة باستياء شديد
من فتى عربي كان يتسكع مع عماله. فما كان من الألماني إلا أن أمر بجلده.
كان هذا
الفتى واحداً من خدم لورانس. وفي تلك الأمسية ذهب لورانس إلى مخيم
الألمان طالباً من المهندس أن يقدم اعتذاره للخادم. شعر كبير المهندسين
الألمان بالدهشة لأن ضرب الخدم العرب كان شيئاً معتاداً في مخيمه.
وبالنسبة له كان ضرب خادم آخر شيئاً ليس بذي أهمية.
لكن بعد
رؤيته الإصرار في وجه لورانس، نزل الألماني عند طلبه واعتذر. وذلك
الاعتذار جعل شعبية لورانس بين الأهالي تتزايد.
بعد هذه
الحادثة بفترة وجيزة أثار الألمان غضب عمالهم العرب الذين تمردوا على
أرباب عملهم وحاصروا المهندسين الألمان مسلحين بالحجارة والسكاكين
والفؤوس والعصي. وتحصن الألمان في مكاتبهم ومعهم بنادقهم ومسدساتهم مصوبة
إلى العمال العرب المحيطين بالمخيم. كان الأمر بحاجة لشرارة لتندلع
المشكلة.
وصلت أخبار
ما يجري للورانس. فأسرع بصحبة البروفيسور وولي إلى المكان وتحدث مع
العمال الغاضبين ومازحهم وقرأ آيات من القرآن الكريم تتحدث عن فضيلة
العفو وبهذا نجح في تهدئة غضبهم. ولفعلته هذه حصل لورانس على جائزة من
الحكومة التركية التي كان الجسر يبنى لصالحها.
كانت الحرب
العالمية الأولى تدور على قدم وساق فيما لورانس يواصل حفرياته في آثار
المدينة القديمة على ضفة الفرات. وسمع القادة الكبار في الجيش البريطاني
بخبرته في دروب القوافل القديمة في فلسطين والعراق وشبه الجزيرة العربية.
كما عرفوا أيضاً أنه يتحدث العربية بطلاقة ويعرف الصحارى العربية مثلما
يعرف معظم البريطانيين حدائقهم. ولهذا كان لورانس مصدراً مهماً للعون
بالنسبة للجيش البريطاني الذي يريد تخطيط هجومه على تركيا وطلب منه أن
يلتحق بالقاهرة.
بدأ
لورانس، الذي حصل على رتبة لفتنانت، يقدم المشورة للمخططين العسكريين
بخصوص أفضل الدروب الصحراوية لعبورها أثناء حملتهم العسكرية.
كانت تركيا
قد حكمت الأراضي العربية طوال القرون الأربعة الماضية. ووضع الأتراك
حامياتهم العسكرية في حصون منيعة في كل أنحاء هذه الأراضي لحراسة البلدات
الصحراوية كما وضعت قواتهم في حالة تأهب قصوى للقتال على امتداد الساحل
الشرقي للبحر الأحمر ضد القوات البريطانية في مصر.
كان القادة
البريطانيون في القاهرة يشعرون بالقلق ويفكرون بأفضل الطرق لمهاجمة
الأتراك، غير أن لورانس كان دوماً يرفض خططهم. وكان دوماً يقدم أسباباً
قوية جداً لتفسير رأيه بأن خططهم ستفشل في أراضي الجزيرة العربية. كنت
تجده يضع الخريطة أمامه ويخبرهم عن الأراضي الرملية الرخوة في هذا الطريق
حيث ستغوص دواليب سياراتهم في الرمل. أو تجده في جلسات أخرى يخبرهم كيف
أن مداخل المرافئ قد ردمت لجعل مرور سفن الإمداد مستحيلاً في مياه لم يعد
عمقها يتجاوز قدمين داخل جدران المرفئ. وهكذا مضى عام كامل دون أن يقوم
الجيش البريطاني بأي تحرك مما جعل الجنرالات يتأففون من اللفتنانت
لورانس.
كان عرب
الصحراء متضايقين دوماً من الإحتلال التركي لبلادهم ولهذا فقد ثاروا على
الأتراك تحت قيادة الشريف حسين وابنه الأمير فيصل في يونيو 1915. وانضمت
الكثير من القبائل البدوية التي تعيش على سواحل البحر الأحمر الشرقية
الممتدة بين مكة المكرمة وسيناء لهذه الثورة بما لديهم من بنادق مهترئة
وجمال للركوب، لكنهم تعرضوا لهزيمة وخسائر ضخمة في المدينة المنورة.
وأخذ
المقاتلون العرب يعانون نقص الذخائر وطلب الأمير فيصل من القوات
البريطانية في القاهرة تقديم العون له.
وأسرع
القادة البريطانيون في القاهرة بإجابة طلبه. وأرسلوا لورانس على رأس
قافلة ضخمة من الجمال تحمل شحنة من بنادق الجيش البريطاني الجديدة وكميات
كبيرة من الذخائر. وركب لورانس بعيره وهو يقود قافلته وكأنه ابن هذه
الصحراء حقاً. وفور وصوله، أتته الدعوة لخيمة الأمير فيصل.
قال لورانس
معرفاً عن نفسه لفيصل: "اسمي لورانس. ربما أستطيع أن أقدم العون لسموكم
في مسائل صغيرة كثيرة."
كان الأمير
فيصل زعيماً حقيقياً وممتازاً في الحكم على الرجال. للحظة حدق الأمير في
عيني الزائر الزرقاوين ويبدو أنه أعجب بما رأى.
قال له
الأمير" :الحمد لله، أرى أن لك حكمة كبيرة . ستبقى معي وسنتحدث فوراً في
بعض الأمور."
في غضون
ذلك كان الجيش التركي يتقدم نحوهم برشاشاته ورجاله وذخائره وطائراته
ومدافعه الثقيلة وسياراته المصفحة إلى المدينة لشن الهجوم النهائي على
الثوار العرب. ماكان بمقدور رجال الأمير فيصل غير المدربين وبسلاحهم
الخفيف وجمالهم أن يصدوا هجوم الجيش التركي النظامي بعتاده الحديث.
غير أن
لورانس كانت عنده أفكار أخرى.
قال للأمير
فيصل: "الصقر يقدر على ذبح طير صغير. لكن سرباً من الطيور الصغيرة تستطيع
طرد عدو شرس بعيداً عنها. لا نستطيع محاربة الأتراك في معركة مفتوحة،
لكننا نستطيع أن نضرب ونهرب ثم نضرب من جديد."
نظم لورانس
قوة صغيرة ضاربة. واختار لها مجموعة من المقاتلين العرب المعروفين
بجرأتهم وحنكتهم في القتال. وبعد تسليهحم بالبنادق والذخائر، ترأسهم
وانطلق بهم على الجمال ومضوا عميقاً في قلب الصحراء يحمل كل منهم مؤونته
الخاصة. وسرعان ما بدأوا هجماتهم على الحاميات التركية في القرى المعزولة
وتطورت هجماتهم في غضون أسابيع حتى أصبحت الموانئ الصغيرة على الساحل
الشرقي للبحر الأحمر تحت سيطرتهم.
أخبار هذه
الانتصارات انتقلت بسرعة كبيرة عبر الصحراء العربية. وأخذ الجميع يتداول
قصصاً غريبة في مضارب البدو عن فتى غريب يتحدث العربية مثلهم ويقود
المحاربين العرب في انتصاراتهم. ومن أقصى أنحاء الصحراء أخذ المقاتلون
الشبان العرب يلتحقون بالأمير فيصل وسرعان ما توفر لديه آلاف من
المقاتلين التواقين لتحرير الأراضي العربية من الاحتلال التركي.
لم يتأخر
الأتراك والألمان في معرفة أن المقاتلين العرب أصبح لديهم قائد جديد قاد
هجومهم على مدينة العقبة الساحلية بطريقة تشير إلى القيام بتحضيرات
عسكرية دقيقة لهذا الهجوم. وهذا مادفعهم لعرض جائزة بقيمة 50 ألف جنيه
لمن يسلمهم لورانس حياً أو ميتاً. حين سمع لورانس بأمر الجائزة ابتسم.
لقد كانت أقوى دليل على أن خططه كانت تفعل فعلها ضد الحكومة التركية.
بعد
الاستيلاء على العقبة، قاد لورانس جيشه المهاجم إلى الشمال عبر الصحراء
وقرر استهداف السكك الحديدية التركية التي تمتد شمالاً عبر فلسطين وسوريا
إلى تركيا من الجزيرة العربية. كانت القطارات التركية تنقل التعزيزات من
رجال وسلاح لامداد الحاميات التركية على الطريق إلى المدينة المنورة.
وبدأ لورانس ينسف الخطوط الحديدية والقطارات والجسور والتحصينات على
الطريق في 79 هجوماً عليها.
إلى الشمال
من ميناء العقبة توجد مدينة البتراء القديمة الفاتنة التي تحيط بها
الجبال بجروفها الصخرية الشاهقة والتي ينطلق منها درب حجري وحيد إلى
مدينة معان التي توجد بها محطات القطارات وتبعد عنها حوالي 25 ميلاً. قرر
الأتراك احتلال البتراء واستخدامها كقاعدة انطلاق لإعادة الاستيلاء على
العقبة.
وهكذا لاحت
فرصة رائعة للورانس حتى ينصب كميناً للقوات التركية المتقدمة على ذلك
الدرب الحجري انطلاقاً من الجبال المحيطة به. لكن من سوء حظه أنه لم يكن
لديه سوى مئتي مقاتل. وكان يحتاج لرجال أكثر بكثير من هذا العدد حتى يكون
الكمين عملية ناجحة. وهكذا ركب بعيره ومضى إلى القرى المجاورة محرضاً
البدو على القتال إلى جانبه وماكان منهم إلا أن أجابوا طلبه بترحاب كبير.
وكان
الكمين عملية ناجحة تماماً. فعلى الرغم من أن الطائرات الحربية التركية
حلقت فوق الجبال فاتحة رشاشاتها وملقية بقنابلها بلا انقطاع فوق العرب،
إلا أن المقاتلين أجادوا الاختباء بحيث لم يتعرضوا سوى لخسائر طفيفة. أما
القوات التركية الألمانية فتلقت هزيمة مطبقة وفقدت كل مدافعها الرشاشة
وسياراتها المصفحة، واستطاع ألف جندي منهم النجاة ومن ثم الفرار إلى
معان.
من كمين
لآخر ومن عملية تفجير للقطارات إلى أخرى، كان لورانس يعمل جاسوساً خلف
خطوط العدو. ودخل المدن التي يسيطر عليها الأتراك متخفياً بزي العرب وجمع
أسراراً عسكرية قيمة كان يرسلها من فوره إلى الفيلد مارشال ألنبي القائد
الأعلى للقوات البريطانية في الشرق الأوسط. وخلال واحدة من مهماته
التجسسية، وقع لورانس بأيدي دورية عسكرية تركية اعتقدت أنه جندي تركي
هارب من الجندية. وأخذته إلى ثكنة مجاورة ليتعرض لعقوبة قاسية جلداً
بالسوط إلى أن انهار. ثم رماه الأتراك في أحد الأزقة ليتمكن بعد ذلك من
استجماع قواه ويجد طريقه خارج المدينة.
في خريف
1917 دخلت قوات ألنبي أراضي فلسطين. وكانت ميمنة هذه القوات هي من
المقاتلين العرب الذين يقودهم لورانس: 250 ألف مقاتل، من أفضل مقاتلي
الصحراء في العالم. وطوال صيف 1918 تقدم الجيش مستولياً على مواقع
وحاميات الأتراك. وحتى الانهيار الكامل لجيوش الأتراك، واصل لورانس عمله
خلف خطوطها مستهدفاً تخريب خطوط إمداداتهم. وبتوقيع معاهدة الصلح أتى
وجوده بين العرب إلى نهايته. وبهدوء غادر إلى القاهرة ومنها إلى إنجلترا.
|