التركة الاشتراكية
الكثير من المصاعب الاقتصادية المصرية تزيد من حدتها التركة الأشتراكية
التي خلفها الرئيس السابق جمال عبد الناصر. وهذا الرجل، المشهود له
بكرامة النفس والذي عاش حياة بسيطة، أعاد توزيع الثروة والأرض في البلاد
وأمم الصناعات وقضى على طبقة ملاك الأراضي الأثرياء. هدفه كان توفير
وظيفة مدى الحياة لكل مواطن وضمان أن يمتلك الفلاحون الأراضي التي يعملون
فيها. ربما تكون هذه مثاليات طيبة غير أن الحقيقة هي أن الصناعات التي
امتلكتها الحكومة أصبحت متنفذة ومترهلة، وحتى اليوم نادرا ما يجري إنهاء
خدمة الموظفين الحكوميين مهما كانت درجة كسلهم وعدم كفاءتهم. في مصر
اليوم أكثر من 4 ملايين موظف حكومي، أي أكثر من 25 في المئة من قوة
العمالة في البلاد ناهيك عن 8 في المئة أخرى يعملون في مشاريع القطاع
العام. وهذه الأرقام لا تتضمن العاملين في الشرطة والقوات المسلحة. وهذا
يمثل قائمة رواتب هائلة. والقوانين المليئة بالمفارقات تجعل الموظفين في
القطاع الخاص أيضا من الصعب تسريحهم وهوما يعني على الصعيد العملي عدم
استعداد أرباب العمل في القطاع الخاص لتوظيف عمالة جديدة إلا ضمن ما يسمى
الاقتصاد الأسود.
يعتقد نائب رئيس البنك الدولي ما يكل كلين أن من شأن قطاع خاص تنافسي أن
يكون أفضل من قطاع حكومي محمي وأنه يرغب في رؤية الحكومة المصرية وهي
تعرض المزيد من الصناعات الحكومية للخصخصة خصوصا في قطاعي الحديد ة و
الألمنيوم وهو شيء كانت الحكومة بطيئة في فعله. يقول كلين " يجب أن
يشجعوا قادمين جدد على المجيء وفتح أعمال جديدة بحيث يمكن إرساء منافسة
حقيقية ولا يفرزون المشكلات المعرفة عن القطاع الحكومي."
ومع تآكل الأراضي الزراعية (ستة بالمئة من إجمالي مساحة البلاد) والذي يعود
في وجه منه الى تجزيئها المتواصل لملكيات صغيرة نتيجة قوانين الإرث
السارية وفي وجه آخر للتصنيع والمشاريع الإنشائية، أصبح إنتاج البلاد من
القطن والقمح في تراجع مستمر وهو ما يعني الآن ضرورة استيراد كل من
السلعتين.
في العام الماضي اشتكى أصحاب مصانع النسيج من اضطرارهم لاستيراد القطن من
الخارج لأن القطن المصري كان يصدر للحصول على العملة الصعبة التي تحتاجها
البلاد بشدة. ويقال الآن أن صناعة الغزل والنسيج التي كانت مزدهرة جدا
فيما مضى أصبحت الآن بحاجة لعملية تجديد كاملة وإدخال تقنيات وخطوط إنتاج
جديدة وتقنيات تسويق مبتكرة.
تشجيع التصدير
يثير الخلل الكبير في ميزان الواردات والصادرات المصرية الكثير من القلق.
ففي عام 2002 بلغت واردات مصر 15 مليار دولار فيما لم تتجاوز صادراتها 7
مليارات دولار. وفي النصف الأول من عام 2003 أمكن تعديل هذا العجز في
الميزان التجاري بشكل لابأس به مع زيادة الصادرات بعض الشيء وتراجع حجم
الواردات. يقول البروفيسور في الاقتصاد من الجامعة الأمريكية في القاهرة
طلعت عبد المالك في مقالة له في الأهرام الأسبوعي إن مصر بحاجة لاعادة
هيكلة جانب العرض من الصادرات. ويشير الى أن مصر لا تستفيد من كامل حصتها
من صادرات النسيج الى الأسواق الأمريكية مثلى لاتستفيد من كامل حصتها من
صادرات الخضار والفواكه الى الأسواق الاتحاد الأوروبي. ويؤكد عبد المالك
أنه فيما أسرعت مصر في توقيع اتفاقيات تجارية ثنائية تعطي طرفيها مدخلا
أكثر سهولة لاسواق بعضها البعض، فإن الكثير من هذه الاتفاقيات تعاني
الجمود في تطبيقها فيما يتعلق بالجانب المصري فيما تستفيد الأطراف الأخرى
استفادة كاملة منها.
يتساءل عبد المالك فيما إذا كانت مصر تنتج بالفعل الأنواع المناسبة من
السلع للمستهلك الأجنبي. ويقول: "يجب أن تكون البداية هي تحديد ما تحتاجه
الأسواق والتخلص من إدماننا على اتباع النهج التقليدي الذي يركز على حجم
الإنتاج." ولتوضيح ذلك يقول مشيرا الى سجل الصادرات الصيني الممتاز: "
لنفكر في القفطان وفوانيس رمضان التي نستوردها من الصين. إذ فيما الطلب
الصيني الداخلي على هاتين السلعتين معدوم، نجح رجال الأعمال الصينيون في
إنتاجهما وتصديرهما لنا بكميات ضخمة. إن مثل هذا القرار كان مبنيا على
دراساتهم لأسواق الشرق الأوسط..."
وبمعنى آخر يتعين على المصريين دراسة الأسواق الأخرى قبل تصنيعهم سلع
التصدير، وليس التصنيع أولاً ثم البحث عن مشترين.
المشكلة المزمنة الأخرى التي تواجه الاقتصاد المصري تعود الى معدلات
الزيادات البشرية المرتفعة حيث يعتقد الخبراء أن الكثافة السكانية
المفرطة هي أكبر مشكلات البلد. يبلغ تعداد المصريين اليوم حوالي 70 مليون
نسمة، لكن لاتتوفر في مصر الأراضي الزراعية ولاموارد المياه الكافية
لتلبية حاجات مثل هذا الانفجار السكاني. وقد قال الرئيس المصري حسني
مبارك لإحدى الصحف مؤخراً إن الحكومة كانت تبذل أقصى الجهود لحل الصعوبات
الاقتصادية غير أن المشكلة الحقيقية هي السرعة التي "يتزايد بها عدد سكان
البلاد" وحالياً تبلغ هذه النسبة 2 في المئة سنوياً، وهو مايعني أنه
سيكون هناك 85 مليون مواطن مصري بعد 10 سنوات فقط.
البعد السياسي
حين لقي أكثر من 50 سائحاً أجنبياً مصرعهم على يد متشددين مناهضين للحكومة
في الأقصر عام 1997، تأزمت المشكلات الإقتصادية المصرية بحدة. وسبب هذا
الهجوم الكثير من المصاعب المالية للخطوط الجوية المصرية وأبقى الفنادق
المصرية خاوية حوالي عام على الأقل. ولم يكن الاقتصاد المصري قد قطع
شوطاً لابأس به على طريق الانتعاش بعد اعتماد سياسة نقدية مرنة وبدء
الموسم السياحي وظهور بعض الحركة في أسواق الأسهم، حتى وقعت هجمات 11
سبتمبر 2001 التي سببت تراجعاً حاداً في الحركة السياحية وقلصت الحركة
مؤقتاً في قناة السويس وهي أهم مصادر التمويل لمصر.
كما أن 11 سبتمبر وما تلاه من غزو لأفغانستان والعراق جعل الكثير من
المستثمرين الأجانب يبتعدون عن مصر خوفاً من التطورات السياسية. إذ لم
تستقبل مصر بين يوليو وسبتمبر 2003 سوى 30 مليون دولار من الاستثمارات
الأجنبية المباشرة فيما لايزال الاستثمار الداخلي حالياً مجمداً عند
حوالي 15 في المئة وهي نسبة تعتبر غير كافية لبعث نمو اقتصادي.
الحكومة المصرية التي تعتمد جداً على المساعدات الأمريكية- مصر هي ثاني
متلق للمعونات الأمريكية بعد إسرائيل- لم يكن لديها خيارات كثيرة غير
مسايرة خطط إدارة بوش للمنطقة. وبالفعل، كان الرئيس بوش مهتماً جداً
بالحصول على دعم الدول العربية للإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين، وهذا
ما جعل الولايات المتحدة تلغي 7 مليارات دولار من الديون على مصر وشجعت
الدائنين الأوروبيين والعرب على فعل ذلك ووفرت لمصر مساعدات إضافية
كبيرة. وقد استفادت مصر من إلغاءات للديون كان إجماليها مبلغاً ضخماً بلغ
50 مليار دولار. وإضافة لذلك حثت الولايات المتحدة صندوق النقد الدولي
والبنك الدولي بقوة على مساعدة مصر في معالجة وضعها الاقتصادي.
وزادت إدارة بوش من حجم الإغراء المقدم لمصر بعرضها اتفاقية تجارية حرة بين
البلدين. فحين أعلن بوش خططه لجعل الشرق الأوسط منطقة تجارية حرة بحلول
عام 2013، وصف الممثل التجاري الأمريكي روبرت زوليك مصر بأنها محور هذه
العملية مضيفاً أن محادثات إتفاقية التجارة الحرة الثنائية بين مصر
والولايات المتحدة ستبدأ أوائل 2004.
غير أن زوليك في يوليو الماضي غير نبرته متهماً مصر بعدم تطبيق الاصلاحات
الاقتصادية.
لكن الحقيقة هي أنها قد جمدت محادثات اتفاقية التجارة الحرة مع مصر في خطوة
على طريقة هذا مقابل ذاك بعد قرار الأخيرة عدم الانضمام إلى الولايات
المتحدة في شكواها المقدمة إلى منظمة التجارة العالمية ضد الاتحاد
الاوروبي بخصوص الأغذية المعدلة ورائياً.
سقوط حر للجنيه
نتيجة للوضع السياسي غير المستقر في المنطقة أدى انخفاض مداخيل مصر من
العملات الأجنبية لتعرض الجنيه المصري لضغوط كبيرة وأدت إلى نقص في
العملات الأجنيبة. وفي يناير من العام الماضي عومت الحكومة المصرية
الجنيه الذي تعرض بعد ذلك لهبوط في قيمته بنسبة 45 في المئة مقابل
الدولار بالمعايير الفعلية. واليوم يبلغ سعر صرف الجنيه حوالي 6.2 مقابل
الدولار و11 مقابل الاسترليني، بعد أن كان سعره قبل ثلاثة أعوام حوالي
3.8 مقابل الدولار و5.9 مقابل الاسترليني. وهذا الأسعار المشجعة للسياح
قد زادت حركة السياحة من الدول العربية وخصوصاً دول الخليج العربي. كما
أنها تعني أيضاً توفر صفقات طيبة لشراء العقارات والأراضي لمن تتوفر
لديهم السيولة والصبر لانتظار أرباح كبيرة لاستثماراتهم العقارية.
أول شركة رهن
هذه الأرباح قد تأتي بشكل أبكر مما هو متوقع بفضل قانون الرهن الذي ظل مدة
طويلة حبراً على ورق وينتظر تطبيقه قريباً. فالكثير من المصريين الذين
يجاهدون حتى الآن لشراء مساكن سيكونون قادرين على الحصول على قروض مصرفية
لشراء العقارات حين تطبيق القانون. ولايحتاج الأمر لكثير من الذكاء
لإدراك أن الطلب إذا زاد عن العرض ستشهد البلاد ارتفاعاً في أسعار
العقارات والأراضي.
وقد أسست بالفعل أول شركة رهن عقارية في مصر مؤخراً برأسمال قدره مئة مليون
جنيه (16 مليون دولار) ويأتي تأسيس الشركة المصرية لتمويل الإسكان هذه
والتي يمتلك البنك المصري الأمريكي 40 في المئة من أسهمها محاولة لدعم
سوق العقارات المصري. يقول رودريك ريتشارد المدير الإداري للبنك المصري
الأمريكي: "تأسيس الشركة سيكون تطوراً مفرحاً للأزواج الجدد ولأصحاب
الدخول المتوسطة الراغبين في الحصول على الدعم التمويلي لشراء مساكنهم."
قطاع الطاقة الواعد
غير أن الأخبار ليست كلها داعية للتشاؤم. فقطاع الطاقة المصري لايزال نشطاً
وخصوصاً بعد استعداد مصر لتكون مورداً للغاز الطبيعي. ففي 14 يناير
الماضي، أعلن وزير النفط المصري سامح فهمي أمام غرفة التجارة الأمريكية
أن مصر ستصدر قريباً كميات ضخمة من الغاز الطبيعي للولايات المتحدة
وأوروبا. وتوقع أن تكون مصر بحلول عام 2006 سادس أكبر دولة مصدرة للغاز
الطبيعي في العالم. وقد شهد العام الماضي الشروع في بناء خط أنابيب بين
مصر والأردن وسط مظاهر احتفالية عارمة.
منذ اكتشاف حقل المرجان النفطي الضخم عام 1964، وقعت مصر 293 اتفاقية حقوق
تنقيب مع شركات أجنبية مع حصول البلاد على 76 في المئة من العوائد بدلاً
من حصة 50 في المئة فقط كما هي العادة. وتقوم سياسة مصر الحالية على عدم
التعاقد أبداً على أكثر من ثلث احتياطياتها الطبيعية.
انتعاش السوق
شهد شهرا يناير وفبراير 2004 نشاطاً مشجعاً في سوق الأسهم المصرية التي
أظهرت نتائج أفضل من المتوقعة. ويعود هذا إلى قطاع الاتصالات النشيط
ومعدلات الفائدة المنخفضة جداً التي جعلت سوق الأسهم أكثر استقطاباً
لرؤوس الأموال من الإيداعات المصرفية. وبعد أسهم الاتصالات، تأتي أسهم
مدينة الإنتاج الإعلامي في المرتبة الثانية في حجم التداول ويعود هذا إلى
حد كبير للشائعات التي تقول إن الشركة ستدرج قريباً في سوق دبي للأسهم.
الثقة في السياحة
يبدو المستقبل السياحي في مصر مدعاة للتفاؤل بانتظار بناء مبنى جديد في
مطار القاهرة الدولي بتمويل من البنك الدولي وبنك مصر الوطني للاستثمار
إلى جانب مجموعة جديدة من الفنادق العالمية من فئة خمس نجوم.
فبعد النجاح الذي حققته فنادق حياة في شرم الشيخ وطابا افتتح فندق غراند
حياة القاهرة مؤخراً، كما افتتح فندق جيه دبليو ماريوت الجديد على مساحة
400 فدان في مصر الجديدة. وتخطط مجموعة فور سيزونس لبناء فندق ثالث على
كورنيش القاهرة وآخر في مدينة الاسكندرية على شواطئ المتوسط. وافتتحت
مجموعة أكور للفنادق والمنتجعات فندق سوفيتيك التاسع في مصر، فيما بدأ
فندق شيراتون هيليوبوليس مشروع توسع بتكلفة عدة ملايين الدولارات.
خط دبي
الحبتور للمشاريع الهندسية تعمل حالياً على إنشاء فندق ومجمع سان ستيفانو
الفاخر في الاسكندرية ضمن مشروع مشترك مع شركة موراي آند روبرتس وشركة إس
آي أيه سي المصرية. وفازت شركة دبا إنتيريورز، وهي فرع من شركة أرابتيك
بعقد التصميم الداخلي للمجمع.
كما أن مجموعة ماجد الفطيم وهي شركة إماراتية كبرى أخرى قررت الاستثمار في
مصر وتتوقع استثمار عدة مئات من ملايين الدولارات فيها على مدى العقد
المقبل وهي الاستثمارات التي بدأت بافتتاح مركز سيتي سنتر المعادي للتسوق
الذي يتضمن سوبر ماركت كارفور وأكثر من 40 محلاً تجارياً. وأتبعت الشركة
هذا المشروع بآخر مماثل في ضواحي الإسكندرية. ولابد أن أول مشروع خارجي
للشركة بهذه الضخامة وهو مراكز سيتي سنتر مصر يمثل مغامرة كبيرة. وإن
كانت مغامرة بالفعل، فإن مشاهدة المتسوقين وهم يملأون هذه المراكز، تؤكد
أنها كانت مغامرة ناجحة بالفعل. فقد استهوى هذا النمط الجديد من التسوق
المصريين وهم منفتحون على نحو مفاجئ على منتجات جديدة ومبتكرة.
وبخطوة تعكس ما فعلته دبي، تنظم مصر مهرجان تسوق كما افتتحت العام الماضي
القرية الذكية بشكل يشابه مدينة دبي للإنترنت وقد تعاقدت أسماء كبيرة
بالفعل للقدوم إليها. ولجأت الحكومة المصرية لتسهيل الحصول على إنترنت
مجانية وألغت أو قلصت الجمارك على تجهيزات تقنية المعلومات وتريد لكل طفل
أن يكون لديه كمبيوتره في البيت.
ورغم أن مصر لاتزال تعاني من نسبة أمية تبلغ 40 في المئة ونسبة بطالة تصل
إلى 28 في المئة، إلا أنها تتحرك في الاتجاه الصحيح. فبالاعتماد على
تطوير القوانين والاستقرار التجاري والإرادة السياسية والمناخ الاستثماري
الصحي... وبعض المساعدة من الأصدقاء، يمكن للاقتصاد المصري أن يتوسع بما
لديه من إمكانيات فعلية.
|