|
العلاقة القوية التي تجمع بين رئيس الوزراء البريطاني
طوني بلير والرئيس الأمريكي جورج بوش كانت شأناً معروفاً
للجميع. وفيما كانت هذه العلاقة الخاصة تحظى بالإطراء في
الولايات المتحدة فإن معظم البريطانيين كانوا ينعون على
بلير دور التابع بل ويتهمونه أحياناً بتفضيل المصالح
الأمريكية على مصالح شعبه. أما الآن وبعد أن تنحى بلير
مخلياً مكانه لغوردون براون وشروع القوات البريطانية في
الانسحاب من البصرة، هل "العلاقات الخاصة" التي تجمع
بريطانيا والولايات المتحدة والتي كان الزعيم البريطاني
ونستون تشرشل أول من أعطاها هذا الوصف عام 1946 علاقة خاصة
بالفعل؟
فيما كانت شمس الإمبراطورية
البريطانية تذوي أصبح بادياً أن علاقاتها الوثيقة مع
الولايات المتحدة وفرت لها الفرصة للاحتفاظ بحجم على
الساحة الدولية يفوق حجمها الحقيقي. فمن وجهة النظر
الأمريكية تمثل بريطانيا رجل الدولة الحصيف والعجوز الذي
تحتاجه ليصادق بتوقيعه على سياساتها الخارجية الممجوجة
غالباً. كما تمثل بريطانيا أيضاً جسراً دبلوماسياً بين
الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إضافة لكونها شريك
أيديولوجي قوي للأمريكان داخل الأمم المتحدة وحلف شمال
الأطلسي. وقد تعرضت هذه العلاقة التكافلية في الماضي
للتوترات غير أنها لم تصل أبداً عد الانفصام.
الحرب العالمية الثانية
على سبيل المثال، أثار تردد الولايات المتحدة في دخول
الحرب العالمية الثانية إلى جانب بريطانيا خيبة
البريطانيين الذين كانوا يصارعون من أجل وقف التوسع النازي
والدفاع عن أراضيهم. ومع ذلك جمعت الرئيس الأمريكي
فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل
علاقة وثيقة خاصة لاحقاً.
السويس
عادت الصدوع لتظهر على هذا التحالف مجدداً خلال أزمة
السويس عام 1956 حين انضمت بريطانيا إلى فرنسا وإسرائيل في
الهجوم الثلاثي على مصر بعد تأميم الرئيس المصري جمال عبد
الناصر لقناة السويس وإغلاقها أمام حركة الملاحة
الإسرائيلية. ولم يتمكن المهاجمون من إقناع الولايات
المتحدة في الانضمام إلى حربهم على مصر وتحول الهجوم
الفاشل الذي شنه رئيس الوزراء البريطاني أنطوني إيدن إلى
واحدة من أكثر الأعمال تخبطاً ورعونة في تاريخ بريطانيا.
العراق
تاريخ العلاقة الأمريكية البريطانية أثبت بشكل قطعي أن
سجل التحالف القوي بين البلدين في وقت الحرب سجل مهزوز.
ففي أوقات الحرب اتخذ كل بلد موقفه الخاص الذي يناسب
مصالحه القومية والرأي العام فيه. ولهذا فإن زعم طوني بلير
بأنه لم يكن لديه من خيار سوى المضي ببلاده نحو الحرب من
أجل الحفاظ على هذه العلاقة الخاصة هو زعم كاذب.
والحق يقال أن التاريخ يسجل لإدارة بوش عرضها على بلير
البقاء في مقاعد المتفرجين في هذه الحرب في ضوء المعارضة
الشعبية العارمة للحرب في بريطانيا. غير أن بلير كان غير
هارولد ولسون وتركته التي أبقاها ستظل موصومة إلى الأبد
بقراره الذهاب إلى الحرب.
تورط بريطانيا في العراق شبيه بتورطها في أزمة السويس
والفشل الأمريكي في العراق يقارن بما حصل في حرب فيتنام.
كلا البلدين يريد الآن إخراج نفسه من المستنقع الذي ذهبا
إليه بإرادتهما ولكن دون الاعتراف بالهزيمة أو ترك فراغ
أمني وراءهما الذي تتوق القوى الإقليمية لملأه في أقرب
فرصة.
غوردون براون
رئيس الوزراء البريطاني الجديد غوردون براون يلعب لعبة
التوازن بذكاء. ويرى المراقبون أنه من أنصار أمريكا
الأقوياء غير أنه ليس بالضرورة من أنصار بوش. كما يحرص على
ألا يظهر بمظهر التابع لأي أحد وعلى أن يفصل نفسه عن سلفه
شكلاً ومضموناً.
بل إن قرار براون اختيار وزراء حكومته من المعارضين للحرب
على العراق والعديد من البيانات التي أطلقها العديدون منهم
وتفيد بأن الزعيمين البريطاني والأمريكي لم يعد بإمكانهما
اتخاذ مواقف موحدة جعلت رئيس الوزراء الجديد يهرع لاهثاً
إلى واشنطن لتهدئة مخاوفها.
وقد أتى لقاؤه مع جورج بوش في كامب ديفيد مباشرة بعد بيان
قوي أطلقه اللورد مالوتش براون، وزير الدولة للشؤون
الخارجية، قال فيه إن يكره أن يصفه الآخرون بالعداء
لأمريكا غيره أنه سعيد بوصفه "معادياً للمحافظين الجدد"
كما عبر عن أمله بأن تصبح السياسة الخارجية البريطانية
أكثر حياداً.
بدوره أثار دوغلاس ألكسندر، وزير التنمية الدولية، غضب
أمريكا بحديثه أمام مجلس العلاقات الخارجية البريطاني،
والذي أكد، رغم اعترافه بوجود العلاقة الخاصة مع الولايات
المتحدة، على أن بريطانيا "يجب أن تصوغ تحالفات جديدة
مبنية على القيم المشتركة وألا يكون الهدف من هذه
التحالفات هو فقط حمايتنا من العالم بل تمد يدها إلى
العالم أيضاً."
وأضاف: "كانت قوة كل بلد خلال القرن العشرين في معظم
الأحول تقاس وفقاً لما يستطيع تدميره. غير أن القوة في
القرن الواحد والعشرين ينبغي أن تقاس بما نستطيع أن نبنيه
سوية." وتم تفسير ذلك الحديث يومها على أنه تقريع لسوء
استخدام أمريكا لقوتها.
وقتها خضع اللقاء في كامب ديفيد لتحليلات دقيقة من قبل
المراقبين. فهل كان الزعيمان سيتناغما معاً على نحو ما كان
يحدث حين سابقاً حين يلتقي بوش وبلير؟
كان جلياً خلال اللقاء أن الاثنين لم يكونا صنوين روحيين
التقيا على حب الطبق نفسه. ظهر الاثنان بلباس رسمي كامل
كما أن حديثهما الذي التقطته ميكروفونات الصحفيين افتقد
إلى التنميق. وتوجه براون الذي بدا غير مرتاح إلى مضيفه
التكساسي المتجهم وهو يقود به عربة الغولف: "هل تأتي إلى
هنا كثيراً؟"
أما زوجتا الزعيمين فبقيتا في البيت وفيما أسرف بوش في كيل
المديح لضيفه البريطاني، تحفظ براون على رد المديح للرئيس
الأمريكي مركزاً بدلاً من ذلك على التاريخ والقيم التي
يشترك بها البلدان. وأشار براون إلى أن محادثاته مع الرئيس
الأمريكي كانت "صريحة" وهي كلمة عادة ما تعني في عالم
الدبلوماسية أنها صدامية.
إن كانت محادثاتهما قد شهدت خلافاً بالفعل فهذا الخلاف
ربما يكون بخصوص نية براون سحب القوات البريطانية من جنوب
العراق. ولم يتبق من القوات البريطانية في العراق سوى 5500
جندي هم وقت كتابة هذه السطور مختبئون خلف أسوار مطار
البصرة ينتظرون الفرصة السانحة سياسياً ليطيروا إلى الوطن.
والحقيقة هي أن 5500 جندي ليسوا سوى قطر في بحر 160 ألف
جندي أمريكي غير أن وجود هؤلاء يوفر لبوش ورقة توت سياسية
تستر عورة حربه المكروهة شعبياً. وحين حيل القوات
البريطانية يتعين على الولايات المتحدة أن ترسل جنودها
لحماية معابر إمداداتها بين بغداد والكويت وحماية المنشآت
البتروكيماوية الهامة.
وكان أحد مهندسي إستراتيجية الدعوة لزيادة عديد القوات
الأمريكية في العراق وهو فريدريك كاغان قد حذر من أن
انسحاباً بريطانياً قد ينذر بخطر خلق "إحساس مؤذ" في صفوف
القوات البريطانية الذين قد يتلقون أوامر بتمديد فترات
خدمتهم في العراق للتعويض.
وليس سراً أن بوش طلب من براون الإبقاء على القوات حتى
إكمال مهمتها (أياً كانت تلك المهمة). غير أن براون، بخلاف
بلير، لا يمتلك رفاهية البقاء.
لقد سئم الرأي العام البريطاني ومعظم ساسة البلاد من فوضى
العراق ومع اقتراب الانتخابات العامة- التي قد تكون قريبة
جداً في الخريف الحالي- وبالتقدم الذي يتمتع به براون في
استطلاعات الرأي، يتعين عليه كسب التأييد الشعبي.
صحيح أن بوش وبراون التزما اللباقة الدبلوماسية في العلن
غير أن قوات بلديهما أصبحت عاجزة عن إحراز أي تقدم.
وفي أغسطس الماضي اتهم قائد عسكري أمريكي بريطانيا بالسماح
للحالة الأمنية في جنوب العراق بالتدهور نتيجة إحجامها عن
القيام بأي شيء.
وفي سبتمبر الماضي خرج الجنرال مايك جاكسون الذي قاد
القوات البريطانية في غزو العراق ليدحض المزاعم بأن القوات
البريطانية قد فشلت في البصرة. كما هاجم البنتاغون بقوة
لقراره تشريح الجيش العراقي ومعارضته لسياسات الخارجية
الأمريكية بعد الغزو.
كما انتقد الجنرال جاكسون أيضاً وزير الدفاع الأمريكي
السابق دونالد رامسفيلد لقوله إن القوات الأمريكية "ليس من
عملها بناء الدول." وأضاف جاكسون إن السياسة الأمريكية بعد
الحرب كانت "مفلسة فكرياً."
العديد من القادة العسكريين البريطانيين انتقدوا نظراءهم
الأمريكيين انتقاداً لاذعاً لكونهم يسرعون باستخدام القوة
ويتسببون بوقوع الخسائر البشرية بين المدنيين والخسائر من
النيران الصديقة والفشل في كسب العقول والقلوب. وفي
المقابل وجه مستشارو بوش انتقادات قوية لبريطانيا لما
قالوا إنها فوضى في جنوب العراق ولما أسموه الهروب من
العراق.
في مقالة بعنوان "هل تتهاوى العلاقة الخاصة؟" في صحيفة
ديلي ستار اللبنانية يتهم الكاتب مايكل غلاكين رئيس
الوزراء غوردون براون بأنه أكثر ماكيافيلية من بلير.
ويقول الكاتب: "براون في واقع الأمر لا يقل حرصاً عن أي من
أسلافه ابتداء بونستون تشرشل وحتى طوني بيلر على الاحتفاظ
بهذه ’العلاقة الخاصة‘ العرجاء على نحو يثير الضحك. غير أن
براون قادر على أن يتعرف على الرئيس الضعيف حين يراه."
حتى الآن أحسن براون كثيراً في إبعاد نفسه عن بوش وسياساته
المكروهة شعبياً مع الحرص في الوقت نفسه على عدم القطيعة
النهائية مع العم سام."
كما يلتزم براون بسياسة الطاسة الساخنة والطاسة الباردة
حيث يطلق العنان لوزرائه ليقولوا ما يجب قوله فبل أن يعاود
هو ليوظف قدرته على إصلاح الأضرار. مثل هذا السلوك يرسل
رسائل متناقضة ومحيرة غير أن هذا هو بالضبط ما يريده.
الواضح هو أن براون يأمل في أن يتمكن من مواصلة المشي على
هذا الحبل الدبلوماسي إلى حين بلوغه الانتخابات الرئاسية
الأمريكية المقبلة التي قد تكون نتيجتها أكثر ملائمة له.
فرصة نجاحه في تحقيق هذا الهدف كبيرة ما لم تقرر واشنطن شن
حرب أخرى في منتصف الطريق. وفي تلك الحالة يتعين على براون
أن يقفز نحو أحد الجانبين.
هل سيتبع هارولد ولسون الذي قال لا لحرب فيتنام أم طوني
بلير الذي قاد أمته رغماً عنها إلى العراق؟ هذا هو السؤال.
براون والمقربون منه فقط يعرف الجواب.
أما بخصوص العلاقة الخاصة فهي ربما تكون تعاني بالفعل من
بعض الضعف المؤقت حالياً غير أن بريطانيا والولايات
المتحدة مرتبطان بعضهما ارتباطاً عضوياً مثل التوأمين
السياميين.
صحيح أن معظم البريطانيين يعتقدون بأن هذه العلاقة الخاصة
هي طريق باتجاه واحد حيث تقوم بريطانيا بتقديم الحصة
الأكبر من متطلبات استمرارها، فإن بريطانيا ستكون أيضاً
الخاسر الأكبر بين الاثنين فيما لو حصل وانفصمت هذه
العلاقة. ولن يعود بمقدور بريطانيا أن تقف لوحدها في عالم
متعدد الأقطاب حيث ستجازف بالتحول إلى مجرد دولة صغيرة في
الاتحاد الأوروبي بالمقارنة مع فرنسا وألمانيا.
ستشهد هذه العلاقة بعض المطبات والمشكلات على الدوام. وقد
تكون ضعيفة ومنهكة حالياً. غير أن العلاقة الخاصة بين
البلدين ستبقى دوماً قائمة ما لم تحدث أشياء غير متوقعة.
|