|
أقر مجلس الشيوخ الأمريكي توصية للحكومة الأمريكية
بتقسيم العراق إلى ثلاث مناطق سنية وشيعية وكردية تربطها
كونفدرالية ضعيفة داخل العراق. التوصية رغم كونها حسنة
النية إلا أنها فكرة سيئة. النظم الكونفدرالية مرشحة دوماً
للفشل، وهو الدرس الذي تعلمه الأمريكيون أنفسهم بعد ثورتهم
على الحكم البريطاني. وحري بمجلس الشيوخ الأمريكي أن
يستثمر وقته بشكل أكثر إفادة وذلك بإقرار قانون يمنع
العناصر العسكرية والدبلوماسية الأمريكية في العراق من
التدخل في بناء الدولة أو العمليات الأمنية. وهذه النتيجة
توصلت لها بعد 40 عاماً من مراقبتي الوثيقة للشرق الأوسط،
18 عاماً منها أمضيتها عضواً في لجنة العلاقات الخارجية في
الشرق الأوسط.
العراق لا يحتاج لنصائحنا فيما
يتعلق بعمليته السياسية الداخلية. وخلال زياراتي الأربعة
للعراق قبل الحرب، رأيت كم في العراق من مواطنين كثيرين
عالي التعليم ورفيعي الكفاءة. في كل زيارة كنت كنت أقابل
باحثين ومسؤولين حكوميين ورجال أعمال كبار ومواطنين
عاديين. وهذا ما عزز لدي القناعة بأن لدى العراقيين القدرة
على بناء دولة مركزية قوية قادرة على نيل رضا كل الفئات من
شيعة وسنة وكرد. وبعض من غادروا العراق هرباً من الفوضى
الحالية سيعودون حين يسمح للعراقيين أن يباشروا بأيديهم
مهمة بناء بلدهم.
أخذ النصائح من واشنطن هو بلا ريب في قعر قائمة رغبات
العراقيين. إذ كيف نتوقع منهم أن يكونوا متلهفين لنصح
حكومة كانت هي من قاد بلادهم إلى ما تعيشه من فوضى؟ ألا
يعتبر تدخلاً من جانب الحكومة الأمريكية، إن لم يكن غطرسة،
أن تدعي بأن لديها الحلول لمجتمع امتلك جامعات عظيمة وطبق
حكم القانون قبل أن تولد حكومة الولايات المتحدة بقرون
وقبل أن يتعرض للحكم الاستعماري الغربي ومن قبله العثماني.
يتعين على حكومتنا أن تترك للعراقيين تحمل المسؤولية كاملة
عن مشروع بناء الدولة. وإن فشلوا، ليكن الفشل فشلاً
عراقياً وليس أمريكياً. حين فشلت معاهدة الكونفدرالية
الأمريكية استطاع الأمريكيون الأوائل أن يبنوا هيكلاً
حكومياً قوياً ليخلفه. ويتعين علينا أن نعطي العراقيين
الفرصة ليخوضوا تجربة مماثلة. كما يجب أن ينالوا الفرصة
لتحمل المسؤولية كاملة عن العمليات الأمنية وأي عمليات
قتالية أخرى تريد الحكومة العراقية القيام بها.
لنجاح مثل هذا الأمر يتعين على الحكومة الأمريكية أن تقوم
بتغييرات جوهرية في سياساتها. يجب أن تضع قيوداً على
قواتها العسكرية في العراق وأن تعلن عن خطط ملموسة لانسحاب
كامل من العراق. غير أن المؤشرات الحالية تقول إن التيه
الأمريكي في العراق سيكون طويلاً وعميقاً. لدينا في العراق
أكير من 2000 دبلوماسي سينتقلون قريباً إلى أكبر سفارة في
العالم. كما أن أكثر من 10 قواعد عسكرية أمريكية يتم
بناؤها هناك من أجل أن تبقى.
علينا أن نعترف بالواقع. إذ على الرغم من التفاؤل الحذر
والمضلل الذي عبر عنه الجنرال ديفيد بتريوس، فإن الواقع
العراقي ليس بأفضل حالاً الآن مما كان عليه قبل عام مضى.
وأعداد الخسائر البشرية (القتلى والمصابين إصابات بالغة
تتطلب البقاء في المستشفيات) وحوادث العنف ما تزال هي
نفسها تقريباً كما أن حياة المدنيين ما تزال تعسة وحافلة
بالخطر.
أما الحكومة العراقية فأقل ما يمكن القول عنها هو أنها
عاجزة ومتكاسلة عن القيام بأي فعل. الأهالي يدينونها
ويصفونها بأنها دمية بيد واشنطن والقوات الأمريكية ولا
تختلف بالنسبة لهم عن القوات الأجنبية المحتلة. ولدى
العراقيين أسباب قوية للشك في النوايا الأمريكية حين
يسمعون الجنرالات والمسؤولين الأمريكيين يتحدثون علناً عن
"الحاجة للبقاء" لسنوات مقبلة.
أما بخصوص الإرهاب في العراق فيجب علينا أن نتذكر أن
التفجيرات الانتحارية في أغلب الحالات كانت تنتهي مع خروج
قوات الاحتلال. وهذا الأمر أثبت صحته في كل حالات التدخل
العسكري منذ تمرد الأمريكيين على الحكم البريطاني خلال
الثورة الأمريكية. كما أن القراءة المتأنية للتاريخ تؤكد
أن تلك الثورات قد اتبعت تكتيكات كانت ستوصف بالإرهاب لو
أنها حدثت اليوم. وعلى سبيل المثال، كان المتمردون
الأمريكيون يهددون المزارعين غير المتعاونين معهم بعقوبات
قاسية جداً لدرجة أن أكثر من 10 آلاف منهم هجروا ديارهم
خوفاً. وتاريخ المقاومات الوطنية في العالم يقول إن
المقاومين في العراق سينتصرون نهاية الأمر بغض النظر عن
عدد الجنود الذين سيرسلهم بوش للقتال هناك.
المسار الذي تسير فيه الأمور اليوم لا يقدم أي بارقة أمل
ويذكرنا بمحنة حرب فيتنام، حرب المقاومة تلك التي عايشتها
وأنا عضو في الكونغرس من بدايتها وحتى نهايتها. وبارقة
الأمل التي يزعم بتريوس أنه يراها على بعد بضع سنوات من
الآن ما هي إلا انعكاس غير مقنع لذلك "الضوء في نهاية
النفق" الذي أغوى به الجنرال ويستمورلاند من إدارة الرئيس
ليندن جونسون الكونغرس الأمريكي بتصديقه قبل أربعين سنة من
الآن. وفي ذلك الوقت تواصل القتال الأمريكي في فيتنام
لتسقط آلاف أخرى من القتلى الأمريكيين قبل أن تهرع إدارة
الرئيس جيرالد فورد الفزعة لإخلاء طاقم بعثتها الدبلوماسية
في سايغون بتكديسهم بالمروحيات من على سطح السفارة.
فهل هناك كابوس مشابه لذلك ينتظر الرئيس بوش أو خلفه؟ إن
من شأن إنسحاب أو هزيمة مخزية أن يتم تجنبها لو اعترف
الرئيس بوش بالواقع الذي يقول إن القوات الأمريكية لم تهزم
المقاومة العراقية وأنها غير قادرة على فعل ذلك في
المستقبل.
واليوم يتعين على بوش القيام بالخطوات التالية:
1- إيقاف قتل الأمريكيين بوقف القتال. يجب التوقف عن قصف
"القواعد المشبوهة للمسلحين." يجب التوقف عن غارات
المروحيات. يجب التوقف عن خلع الأبواب وإرهاب العائلات
العراقية. كما يجب حصر عمليات العسكريين الأمريكيين بثلاث
مهمات: أولاً حماية المسؤولين والعسكريين والمدنيين
الأمريكيين، ثانياً تدريب قوات الأمن العراقية، ثالثاً
تقديم المساعدة الإنسانية في أي مكان من الأرياف العراقية.
لقد قدمت القوات الأمريكية أفضل أداء لها مؤخراً حينما
قدمت المساعدة لضحايا هزة أرضية.
2- عدم التدخل في العملية السياسية العراقية والبقاء
بعيداً عنها إضافة إلى تقليص حجم البعثة الدبلوماسية
الأمريكية في بغداد إلى الحجم الطبيعي، أي 30 دبلوماسياً
أو نحو ذلك.
3- التعهد صراحة بسحب كامل للقوات العسكرية والمقاتلين
المتعاقدين الأمريكيين حالما يجد العراقيون أنفسهم قادرين
على السيطرة على الأراضي العراقية.
صحيح أن هذه الخطوات لا تعني انسحاباً فورياً كاملاً، غير
أنها تقدم فوائد كبيرة وهي أن أحداً لن يستطيع أن يتهم بوش
بالتنكر للعراق وتركه لمصيره. إن إيقاف العمليات القتالية
سيسمح بتقليص سريع في عدد القوات الأمريكية إلى جانب تقليص
الخسائر البشرية الأمريكية إن لم يكن إيقافها. كما أن
التعهد الصريح بانسحاب نهائي وكامل سيدعم مصداقية
الأمريكيين في العراق وفي كل الوطن العربي والعالم.
وبالأثر الإجمالي لهذه الخطوات مجتمعة سنجدها أنها ستقلل
مشاعر العداء لأمريكا بما في ذلك الخوف العميق من أن
عملياتنا القتالية يمكن أن تتوسع لتصل إيران بشكل يجعل
الوضع يتدهور إلى مواجهة مرعبة بين الإسلام والمسيحية.
إن المشهد العراقي يمكن أن يكون يقد تحسن كثيراً في الوقت
الذي يغادر فيه بوش مكتبه الرئاسي لو قرر العمل والتحرك
فوراً.
|
|