|
يرتفع
مبنى معهد العالم العربي في باريس على ضفة نهر
السين مطلاً على كاتدرائية نوتردام ووسط المدينة التاريخي
للعاصمة الفرنسية.
إنه لمبنى مدهش بالفعل وهذا بفضل هندسته المعمارية التي
تجاوزت الأفكار العادية وحققت له جائزة آغا خان للعمارة.
بل إن الهدف الذي كان وراء إقامة هذا المبنى كان فكرة
مدهشة بحد ذاتها باعتباره المعهد الوحيد في العالم المكرس
كلياً لنشر المعرفة بالعالم العربي وثقافته.
بدأت أعمال بناء معهد العالم العربي عام 1981 وانتهت في
1987 وذلك بعد أن فاز تصميم المهندس المعماري جان نوفيل
بمسابقة التصميم. واجهة المبنى المطلة على نهر السين مقوسة
وتوازي في انحنائها تقوس النهر للتخفيف من وطء شكل المبني
المستطيل. أما الواجهة على الجانب الآخر فتأخذ شكلاً
مستطيلاً تاماً دون أي انحراف وتبدو للناظر وكأنها شاشة
زرقاء بتصاميم هندسية متحركة. ويتضمن التصميم المعقد لهذه
الواجهة فتحات تتحرك بمحركات تتحكم بها خلايا شمسية وتعمل
كأنها ستائر تتحكم بكمية الضوء التي تدخل المبنى حسب حالة
الطقس اليومية في كل فصل من الفصول. وتعمل هذه الفتحات
الهندسية تماماً وكأنها فتحات آلات التصوير الأوتوماتيكية
التي تغلق حينما يكون الضوء جيداً وتفتح حين يكون الضوء
خافتاً في الأيام الغائمة. وهكذا ينتج تصميم المبنى ما
تمكن تسميته بمرشحات الضوء وهو أمر عادة ما وظفته العمارة
الإسلامية بما طورته من تقنيات التحكم بالجو.
التصميم الداخلي للمبنى غريب من نوعه أيضاً لن كل بناه
الداخلية بما فيها الأنابيب والتكييف مكشوفة ومرئية دوماً.
كما أن بنى الأدراج مفتوحة أيضاً وتشكل حاشية مزركشة جميلة
للبنى الأخرى معطية تشكيلاً رائعاً لهواة التصوير بالأسود
والأبيض.
المطعم الموجود في الطابق الأرضي يقدم مجموعة من الأطباق
العربية المعروفة وهو ما يلبي عشاق المطبخ العربي.
كما يمكن للزائر الوصول إلى سطح المبنى باستخدام معبر
للمشاة يمر عبر البوابة بين جزئي المبنى. ولا ينصح ضعاف
القلوب باستخدام ممر المشاة هذا لأن الأرضية زجاجية شفافة!
كما أن السطح المنبسط للمبنى يوفر للناظرين إطلالة ساحرة
على كاتدرائية نوتردام وجانب كبير من الوسط الباريسي.
مقابل المبنى وعلى الجانب الآخر من ساحة واسعة هناك متجر
كبير لبيع أشياء من مختلف الدول العربية كما يقدم الشاي
بالنعناع والقهوة لزواره أيضاً.
معهد العالم العربي الذي اتخذ من هذا المبنى المدهش مقراً
له تأسس بهدف دعم التفاهم الثقافي بين فرنسا والدول
العربية. وكان المعهد قد انطلق عام 1981 بمشاركة 18 دولة
عربية قبل أن تلتحق بعضويته لاحقاً ثلاث دول عربية أخرى.
وجرى التخطيط للمعهد منذ البداية ليكون مؤسسة كبرى توفر
متحفاً دائماً ومسرحاً للمحاضرات والندوات والمناسبات
الأدبية والحفلات الموسيقية وصالة عرض سينمائية لتقديم
أفلام من مختلف الدول العربية ومكتبة للباحثين ومتجراً
للكتب يوفر مطبوعات متخصصة بالدول العربية ومجلة تغطي
نشاطاته وبرامجه إضافة إلى مطعم ضخم يقدم مختلف أصناف
المطبخ العربي من لبنان والمغرب وغيرها. وباختصار تأسس
المعهد ليوفر صورة نشطة عن الوطن العربي في قلب العاصمة
الفرنسية وهو الهدف الذي تم تحقيقه بنجاح باهر.
وللمركز الثقافي العربي ثلاثة أهداف رئيسية هي: 1) تطوير
ودعم دراسة ومعرفة وفهم الوطن العربي وحضارته 2) تشجيع
التبادل والتواصل والتعاون الثقافي بين فرنسا والوطن
العربي 3) المشاركة في تطوير علاقات أقوى بين الأوروبيين
والعرب.
ومن نافلة القول أن هذه الأهداف تتمتع بأهمية كبيرة وينبغي
العمل بجد كبير لتحقيقها. صحيح أنه لا يغني عن ضرورة قيام
الحكومات والقادة بتبني سياسات أفضل، غير أن التشجيع على
تحقيق تفاهم أكبر عبر التفاعل الثقافي يمكن أن يكون له وقع
إيجابي مهم على المجتمعات والسياسات.
ويستضيف المعهد كل خميس محاضرات يقدمها علماء محليون أو
زائرون من باحثين ومختصين في اللغات والآثار والموسيقى
ومخرجون سينمائيون. كما ينظم المهد أمسيات خاصة عن مسائل
معينة بشكل دوري.
وتضم مجموعة مقتنيات المعهد التي قدمتها الدول المؤسسة
مشغولات خزفية وأزياء قديمة ومخطوطات نادرة ونقوش دقيقة
وتماثيل رخامية بيضاء وإسطرلابات وحلي من مختلف حقب
التاريخ العربي والإسلامي.
وإضافة لذلك يقيم معهد العالم العربي بشكل دوري أيضاً
معارض خاصة بمجموعة متنوعة من الموضوعات. وعلى سبيل المثال
شهد الشتاء الماضي إقامة معرض "مدينة البندقية والعالم
الإسلامي 828-1797" والذي جذب بالضبط 248851 زائر قبل أن
ينتقل إلى متحف ميتروبوليتان في مدينة نيويورك. وتلاه معرض
رائع آخر عن "العصر الذهبي للعلوم عند العرب" والذي كنا قد
تحدثنا عنه بالتفصيل في عدد سابق من الشندغة. كما جذب معرض
كبير عن الفراعنة آلافاً من الزوار أيضاً. وفيما بين هذه
المعارض الكبيرة نظم المعهد عروضاً أخرى للرسم والتصوير
الضوئي ومعرضاً عن الجزائر وتاريخها.
وحالياً يقيم المعهد معرضاً بعنوان "الفروسية" يستمر حتى
21 أكتوبر 2007 مخصص لتراث الفروسية في البلاد الإسلامية
ويقدم مجموعة من التحف النادرة التي لم يسبق عرضها من قبل.
وتعود ملكية هذه المجموعة إلى مؤسسة فنون الفروسية المهتمة
بفنون الفروسية في العالم الإسلامي. وتتضمن المجموعة تحفاً
يعود تاريخها لما قبل القرن السادس عشر الميلادي وهي
عموماً لم تكن معروفة في الوسط الفني عالمياً ولم يأت أحد
على ذكرها في المجلات أو المطبوعات المتخصصة. وأضيفت تحف
جديدة للمجموعة في السنوات الأخيرة بحيث أصبحت تغطي فترة
تمتد من القرن الثامن إلى القرن الثامن عشر الميلاديين.
وأنصح كل من يزور باريس في أكتوبر ألا يفوت فرصة التمتع
بزيارة المعرض.
وعقب معرض الفروسية سيقيم المعهد معرضاً تراثياً عن
الفينيقيين في الألفية الأولى فيما يشهد العالم المقبل
معرضاً كبيراً عن غزو نابليون لمصر.
تحتوي مكتبة معهد العالم العربي على أكثر من 50 ألف عنوان
و1200 دورية بالعربية والفرنسية إضافة إلى لغات أخرى مثل
الألمانية والإنكليزية والإسبانية والإيطالية. وبمقدور
الزوار استخدام الكتب والحصول عليها بأنفسهم من على
الرفوف. كما أن بمقدور الزوار أيضاً استكشاف مجموعات الصور
والتسجيلات الموسيقية في المركز السمعي البصري.
وتتغير البرامج المسرحية والموسيقية التي يقدمها المعهد
لتنسجم مع المعارض الكبرى التي ينظمها. وتجمع هذه البرامج
بين الموسيقى التراثية والمعاصرة والمهرجانات والمواسم
والرقص والكوميديا والشعر حيث يختلط الفرنسيون والعرب في
جو يذكرك بجو المقهى الشرقي.
|