|
كان مقهى غروبي في ساحة طلعت حرب بمدينة القاهرة محجاً
للطبقة العليا المصرية في زمن كان يعتبر فيه أفخم دار
للشاي في العالم قاطبة. وما يزال غروبي حتى اليوم يحتفظ
بسحره الذي كان له في يوم من الأيام على الرغم من تراجع
حالته من الداخل نوعاً ما. وغروبي الذي بناه صانع الحلويات
والمعجنات السويسري الشهير جياكومو غروبي كان النجم في عدد
لا يحصى من الأفلام السينمائية والأعمال الأدبية.
غروبي أسطورة حية في وسط القاهرة
وما يزال حتى اليوم وجهة زوار المدينة. إنه تجسيد لزمن لن
يعود، زمن الثروات والتباهي بها، زمن ملوك مصر وأمرائها
وباشواتها وأباطرة قطنها حين كان الجنيه المصري يفوق في
قيمته الجنيه الإسترليني والدولار.
كان غروبي فيما مضى مكاناً للمكائد السياسة وساحة لعقد
الصفقات التاريخية وتجمع الكتاب والصحفيين والفنانين ونجوم
السينما ونجوم المجتمع من محبي الظهور. واليوم تتناقص
أعداد أولئك الذين عايشوا وعاصروا غروبي في أيام مجده.
وهؤلاء الذين ما يزالون على قيد الحياة منهم يقولون الشعر
فيه حين يتحدثون عن تلك الأيام الجميلة الغابرة.
يتذكر المهندس المعماري شفيق نخلة ما كان غروبي يعني له في
الأيام الماضية ويقول وهو يسرح ببصره بعيداً: "آه كم كنت
أحب غروبي."
ويضيف: "في الخمسينيات كنا نعيش في مدينة أسيوط وكنا نمضي
شهور الصيف في مدينة الإسكندرية. وفي طريقنا بين أسيوط
والقاهرة كنا نتوقف لأسبوع عادة في فندق شيفارد في
القاهرة.
"نحن الأطفال لم يكن يسمح لنا بمغادرة الفندق دون أن تكون
معنا مربيتنا غير أننا كنا نقنع عبده، مدير المنزل، بأن
يأخذنا إلى حديقة غروبي كل صباح لنأتي بالكرواسان الطازج
للفطور. ما زلت أذكر مذاقه حتى اليوم."
شفيق الذي يتلذذ باسترجاع ذكريات الزمن الجميل، يتحدث
بحماس عن حلويات بتي سويس ومارون غلاسيه من غروبي التي
يقول عنها أنها "أفضل من كل ما يقدمونه في باريس منها."
وما كاد شفيق ينتهي من كلماته حتى انضمت إليه في حديث
الذكريات زوجته ماريان مدرسة اللغة الإنكليزية في الجامعة
الأمريكية بالقاهرة.
نظير فورتنام وماسونز في القاهرة
تقول ماريان: "كان والداي غالباً ما يأخذاني إلى الحديقة
لتناول آيس كريم الفراولة بالصودا. وكانت أعياد الميلاد
والفصح مواسم رائعة تشهد عروضاً خاصة وأشجار الميلاد
الضخمة والأكياس الممتلئة بالسكاكر والحلويات وألعاب بابا
نويل بالحجم الطبيعي ودمى عيد الفصح. يمكنك القول أن غروبي
كان النظير القاهري لمحلات فورتنام وماسونز اللندنية."
ليون وهبة الذي عاش في السابق قرب مقهى غروبي في شارع
سليمان باشا، وهو الآن يحمل الجنسية الأمريكية، يتذكر تلك
الأيام أيضاً: "كان عمري 13 عاماً عندما رحلنا عن القاهرة.
غير أن أجمل ما أتذكره هو آيس كريم غروبي الذي يباع من
الثلاجات على الدراجات. كان باعة الآيس كريم يتوقفون خارج
مدرستي وكان الآيس كريم شيئاً رائعاً في نهارات القاهرة
الحارة."
ويصف عادل طوبوزاده، وهو نائب سابق لوزير الإعلام وحفيد
رئيس الوزراء الأسبق حسين باشا رشدي، أيام الشباب حول ساحة
طلعت حرب بأنها "غير عادية."
ويقول: "كانت تلك الشوارع مكاناً لأفضل المقاهي ودور الشاي
غير أن لا أحد منها كان بمقدوره منافسة غروبي. وكان من
المشاهد المعتادة في تلك الأيام أن ترى الأرستقراطية وهم
يترجلون من سيارات رولز رويس أو كاديلاك لمواعيد تصفيف
الشعر في صالونات سقراط أو جورج أو كليماتيانوس التي كانت
تبيع أيضاً أفخر القبعات وربطات العنق الرجالية. في تلك
الأيام كانت المتاجر مكدسة بكل ما يمكن أن تتمناه من
منتجات باريس أو لندن أو روما."
"في أيام الدراسة كنا دائماً ما نذهب إلى غروبي أو لوكس
ونحن في كامل أناقتنا. كانت تلك الزيارات مناسبات حقيقية
يبدو الناس فيها وكأنهم ذاهبون إلى حفلة والنساء ترتدي
فساتين السهرة الطويلة والفرو. كان غروبي المكان الذي
يذهبون إليه ليروا بعضهم ويراهم الآخرون."
"كان للصحفي والشاعر كمال الشناوي طاولته الخاصة هناك
وغالباً ما كنت أرى الكاتب توفيق الحكيم الذي كان يشاع عنه
كرهه للنساء."
"وخلال الحرب العالمية الثانية كان رجال الجيش الثامن
البريطاني يترددون على غروبي في شارع عدلي باشا (وهو فرع
ثان لغروبي) المفضل لدى الجنرال مونتغمري والذي كان يزوره
للاستمتاع بأماسي موسيقى الجاز في حديقته."
الأسرى الألمان
يذكر الكولونيل ديفيد ساذرلاند، الذي جسد ديرك بوغرارد
شخصيته في فيلم "أولئك الشجعان" عن الحرب العالمية
الثانية، في مذكراته كيف دعى أسيرين ألمانيين لتناول الشاي
في غروبي قبل أن يسلمهما للمحققين البريطانيين.
كم كان ذلك قاسياً؟ ما الذي عاناه هؤلاء الرجال خلال أسرهم
لدرجة جعلتهم يتوقون لتناول الأطايب اللذيذة والتمتع بالجو
المترف في غروبي تلك الأيام.
وتصف سيرة الأدميرال سير هوريس لو، أحد أحفاد هوراشيو
نلسون، كم استمتع الضيوف في حفل زفاف لو بكعكعة من صنع
غروبي، التي لم يكن الحصول على مثلها منذ سنوات في لندن.
غير أن البريطانيين لم يكونوا وحدهم الذين يترددون على
غروبي أيام الحرب.
تقول شهادة موقعة بيد المواطن السويسري والجاسوس الفاشي
ثيودور جون وليام سكيرش الذي أسره البريطانيون أنه كان
يلتقي الضابط الإيطالي المسؤول عنه في غروبي.
ويشير ميكروفيلم في أرشيف الاستخبارات الألمانية إلى أن
أدولف إيخمان، الذراع اليمنى للزعيم الألماني أدولف هتلر،
زار القاهرة عام 1937 وهناك التقى بعضو من عصابة الهاغانا
يومي 10 و11 أكتوبر من ذلك العام في غروبي- وهو لقاء تفضل
بعض المراجع التاريخية أن تمحوه من التاريخ.
كما يتحدث طيار من سرب القاذفات 98 الأمريكي عن أمسية
أمضاها في حديقة غروبي في الأربعينيات قائلاً: "نهاية
الأمسية توقف الموسيقيون عن العزف وغادر كل الراقصون
المنصة التي ارتفعت بعد ذلك هيدروليكياً قرابة قدمين عن
الأرض لتقديم عرض فني. كانت المجموعة تضم عدداً من أفضل
الراقصين... أعتقد أنه كان أفضل عرض راقص شهدته في حياتي."
في 1952 كاد غروبي يتعرض للتدمير نتيجة تردد زبائنه
البريطانيين عليه. ويتحدث شاهد مصري مجهول الهوية عن أحداث
ذلك اليوم الذي كاد فيه المتظاهريون المصريون يحرقونه.
"في البداية سمعت صوت تحطم زجاج النوافذ في غروبي. ودخل
بعض المتظاهرين لداخل المقهى وأخرجوا العاملين ليكونوا
آمنين في الخارج. ثم تسلق البعض إلى اللوحة الإعلانية
لغروبي وأنزلوا الشعار الملكي من عليها. وأخذوا بعد ذلك
يتقدمون ليحطموا كل شيء فيه."
غير أن غروبي سرعان ما عاد للعمل في السنوات الأخيرة من
الخمسينيات. يقول طوبوزاده: "كان تناول الإفطار في غروبي
شيئاً من الموضة الراقية، حيث تجلس إلى جانب الباشوات
والساسة المشهورين والفنانين والكتاب والمحررين مثل علي
أمين ومصطفى أمين ومحمد الطيبي."
غير أن سعيد ذوالفقار، المسؤول السابق في اليونيسكو
والأمين العام لمؤسسة آغا خان، الذي يعيش الآن في فرنسا
لديه ذكريات أقل جمالاً عن وجبات الإفطار في غروبي.
ويقول: "عشت في القاهرة عامي 1960 و1961 حينما كنت أحضر
لشهادة الدكتوراة وكنت أسكن مقابل غروبي في الشارع نفسه،
في فندق توليب حيث أدفع جنيهاً مصرياً واحداً كل ليلة.
وهكذا، كانت عادتي تناول الفطور في غروبي الذي كان المكان
المثالي في القاهرة لألتقي برواده المنتظمين ممن ساعدوني
في أطروحتي. وكان بينهم صحفيون ومؤرخون وسفراء وأفراد من
الملحقية التجارية الفرنسية في القاهرة (أغلقت السفارة
الفرنسية في القاهرة بعد حرب السويس عام 1956)."
"اللقاءات الصباحية اليومية على الفطور استمرت ثلاثة شهور
وأصبت بعدها بالتهاب الكبد وذهبت إلى شقة جدتي في
الإسكندرية للنقاهة. أذكر هذه المعلومة لأن غيابي عن
القاهرة أنقذني من مصير مخيف."
"في أحد الصباحات أغارت المخابرات على غروبي واعتقلت كل
الموجودين فيه بتهمة أن الفرنسيين كانوا يتآمر مع صحبة
الإفطار من المصريين للإطاحة بالنظام (وهي تهمة فارغة
بالكامل). وبقي هؤلاء في المعتقل ستة شهور قبل إطلاق
سراحهم كلهم دون توفر أي دليل على وجود مثل هذه المؤامرة."
ويقول ذوالفقار: "لم أعد بعدها أبداً لتناول إفطاري اليومي
في غروبي كما لم أعد أبداً للإقامة في فندق توليب الذي ما
يزال موجوداً حتى اليوم."
المتآمرون اليساريون والمخابرات
يصف ماكس رودنبك في كتابه "القاهرة: المدينة المنتصرة"
الأجواء المترفة في غروبي ومقهى كافيه ريتش المجاور
وكلاهما كان له نصيبه من "المتآمرين اليساريين
والمخابرات...".
في عام 1981 بيع غروبي لعبد العزيز لقمة، مؤسس مجموعة
لقمة، مالكته الحالية، كما يقول حليم الخادم المدير العام
الحالي لغروبي. وفي ذلك العام تم إغلاق البار في غروبي
الذي توقف عن بيع المشروبات الكحولية.
وقال لي الخادم إن جياكومو غروبي كان أول من أدخل الكريم
شانتييه والآيس كريم إلى مصر كما أن الشوكولاه التي كان
يقدمها كانت من نوعية عالية جداً جعلتها شهيرة في العالم
أجمع.
وكان الملك فاروق معجباً جداً بشوكولاه غروبي وقد أرسل
خلال الحرب العالمية الثانية 100 كيلوغرام من الشوكولاه
هدية إلى الملك جورج ولبناته الأميرتين إليزابيث ومارغريت.
وأخبرني الخادم أن هذه الهدية أرسلت على سفينة تفادت
الغواصات الألمانية بأخذ طريق إلتفافية إلى بريطانيا عبر
غرب إفريقيا إلى إسبانيا ثم فرنسا وبلجيكا فاسكتلندا.
وبالفعل وصلت الشحنة إلى لندن سليمة دون أي ضرر.
كل المعجنات والشوكولاه والمارون غلاسيه والمربيات كانت
تنتج في مصنع غروبي الذي ما يزال قائماً حتى اليوم ويعمل
بكل آلاته الأصلية.
يقول الخادم: "طرق التصنيع كانت أمراً في غاية السرية."
"لم يكن يسمح لعامل واحد أن يعرف كل المكونات المستخدمة في
أي منتج نهائي. دائماً كان هناك طاهيان أو ثلاثة يعملون في
غروبي. وكل واحد منهم كان مسؤولاً عن مرحلة واحدة فقط من
التصنيع."
"وصفات المنتجات كانت كلها باللغة الفرنسية التي لم يكن
العمال يفهمونها، ولهذا حينما وظف غروبي مديراً سويسرياً
يتحدث الألمانية للمصنع، اضطر أن يأخذ دروساً في الفرنسية
ليتمكن من قراءتها."
ويعترف الخادم بأنه ليست كل منتجات غروبي تصنع اليوم وفق
الوصفات الأصلية لأن طلبات الزبائن قد تغيرت."
أما أقدم العمال في غروبي فهو إبراهيم محمد فاضل الذي يعمل
فيه منذ 60 عاماً. وهو لم يعمل عن قرب مع جياكومو غروبي
فحسب بل أيضاً مع ابنه بيانشيه الذي أصبح شريكاً في
الأربعينيات.
نجيب محفوظ
ييذكر فاضل الأيام اتي كان فيها فؤاد سراج الدين، زعيم حزب
الوفد، من الرواد المداومين على فرع عدلي باشا كما يقول إن
الروائي نجيب مجفوظ الحائز على جائزة نوبل كان يتردد على
غروبي لقراءة الصحف هناك.
ماذا لو كانت الجران تتكلم. مقهى غروبي تجسيد لقرابة مئة
عام من تاريخ مصر ومجتمعها المتأنق والمؤثر، هذا المجتمع
الذي لم يعد موجوداً إلا في ذاكرة تخبو يوماً بعد يوم لدى
أولئك المحظوظين ليكونوا جزءاً من ذلك العالم المثير
والمتألق.
للأسف ليس هناك من شك في أن كل ما تبقى من أيام مصر
الجميلة وعصر أمجاد غروبي لن نجده قريباً سوى في أرشيفات
السينما أو في بطون كتب الروايات وسير الشخصيات التاريخية.
|