|
عودة المها العربي
إلى موطنه
قصة الرحلة من الانقراض إلى التكاثر
بقلم ماريجكي جونغبلود
خرجت الصحف المحلية يوم 5 مارس الماضي بعناوين عريضة تقول:
مشروع هيئة البيئة لإطلاق المها العربي يحرز تقدماً كبيراً-
أكثر من 95 رأساً عادت إلى البرية حتى الآن.
عودة هذه الظباء الرائعة من حدائق الحيوانات حيث كانت مثار
إعجاب الزوار لعقود طويلة إلى موطنها الأصلي في صحاري
الدولة ألهبت خيال الكثيرين. غير أن رحلة العودة الميمونة
هذه للمها العربي من شفير الانقراض إلى التكاثر من جديد
كانت طويلة ومضنية ولكن ناجحة أيضاً.
المها
العربي هو نوع ضخم الحجم من الظباء عبر إلى الجزيرة
العربية من إفريقيا حين كانت هاتان الكتلتان من اليابسة لا
تزالان متلاصقتين. المها العربي، أو ما يسمى أيضاً بقر
الوحش، حيوان ضخم الحجم يزن بين 80 و100 كيلوغرام ويصل
ارتفاعه عند كتفيه إلى 1.5 متر. الذكور والإناث منه لها
قرون سيفية طويلة مقوسة بعض الشيء وحادة جداً عند أطرافها.
وحين النظر إلى زوالها جانبياً ينطبق زوالا القرنين
ويبدوان كأنهما قرن واحد فقط. ومن هنا ظهرت خرافة وحيد
القرن، ذلك الحيوان الخرافي الذي تحدثت عنه الكثير من
أساطير العصور الغابرة. يغطي جلد جسم المها شعر أبيض صاف
أما البقع على السيقان والوجه فهي سوداء أو بنية شتاءً
ورمادية خفيفة صيفاً. يعكس الشعر الأبيض اللماع أشعة الشمس
ويحمي الجسم منها كما أن الشعر ذي البنية الجوفاء يقوم
بدور عازل حراري للجسم. أما الجلد تحت الشعر فهو أسود
اللون بحيث يقي الحيوان شر الأشعة فوق البنفسجية ويمنعها
من اختراقه. ثم تلي الجلد طبقة دهنية سميكة لتكون عازلاً
حرارياً إضافياً. بمقدور المها أن يتحمل ارتفاع حرارة جسده
أكثر من معظم الثدييات الأخرى حيث تصل إلى 40 درجة مئوية
دون أن يتعرض لأي مشكلات. وقد تطورت كلية هذا الحيوان
وأصبحت قادرة على تكرير بوله من أجل الاحتفاظ بأكبر قدر من
سوائل الجسد. كما أن بعره صغير جداً وشديد الجفاف حيث لا
يحتوي إلا على الألياف النباتية غير القابلة للهضم. وتمكنه
أظلافه العريضة من المشي على الرمال الرخوة بسهولة وسرعة
دون أن تسيخ حوافره فيها. وقد تم توثيق حالات انتقل فيها
المها 100 كيلومتر في 24 ساعة. ولكن على الرغم من قدرته
الشديدة على التحمل فإنه لا يتميز بالسرعة الكبيرة، حيث
يمكن الإمساك به بسهولة إذا ما طاردته بسيارة.
يمكن لإناث المها أن تحمل في السنة الثانية من عمرها وعادة
ما تضع وليداً واحداً في كل حمل، حيث تلده شتاء مع وفرة
المرعى. بعد ولادة المها الرضيع يمر بمرحلة قد تطول شهراً
يمضي معظمها مستلقياً وقليل الحركة حيث يبقى مختبئاً بلا
حراك. بعدها يبدر من المها العربي سلوك يتفرد به من بين كل
الحيوانات: يقوم ذكر واحد على الأقل، عادة ما يكون قائد
القطيع، بمرافقة الأنثى. وحينما ينهض الصغير ليقترب من أمه،
يقف الذكر وراءه ويوجه برأسه نحو الأم. وبعد أن ينهي
الصغير رضاعته، يتحرك الثلاثة تتقدمهم الأم فيما يمشي
الذكر في الخلف ليسوق الصغير الذي يمشي وراءها. بعد يقلل
يقرر الذكر أن على الصغير أن يعود للركون والاستلقاء
فيلكزه لكزة خفيفة بأسفل قرنيه. وإذا ما حاولت الأنثى
العودة لصغيرها فإن الذكر سيبعدها عنه. ثم يمضي الذكر
والأنثى للرعي وقد يبتعدان حتى مسافة كيلومتر واحد عن
الصغير عين أن عيونهما تبقى تراقب مكان اختباء الصغير.
إلى جانب حماية حياة الصغير، فإن هذا السلوك من جانب الذكر
يوفر له فرصة البقاء قريباً من أمه التي تبدأ بعد الولادة
بالمرور بدورة نشاط جنسي تجعلها قادرة على الحمل بعد الوضع
بعشرة أيان فقط. والذكر بسيطرته هذه على الصغير فإنه يسيطر
أيضاً على الأنثى ويضمن له أفضل رعاية ممكنة.
يفضل المها العيش على المنبسطات الحصوية وبطون الوديان أو
الرملات عند حواف الكثبان حيث تكثر الأشجار الظليلة. وفيها
تسرح قطعان صغيرة من 10 إلى 15 رأساً تقريباً تقودها أنثى.
أما في أيام القحط فتبحث عن السفوح حيث يرشح الماء من بطون
الجبال. وإذا ما أحست بالخوف فإنها تأوي إلى المعتزلات
الموحشة بين الكثبان الفضية المحمرة الضخمة. وبعد هطول
المطر يزداد عدد القطيع فيما تقل المسافات التي تقطعها
بحثاً عن المرعى. وحين تكون المراعي وفيرة يعيش المها حتى
20 عاماً، فيما يقل متوسط عمره في أزمان القحط.
ولا تحتاج المها سوى إلى أقل القليل من الماء حيث تعتمد
على رطوبة النباتات التي ترعاها والندى الذي يهبط في الفجر.
تتغذى المها على عدة نباتات صحراوية منها "النوسي" (أريستيدا
بلوموسا) و"العلقة" (ديبتيرغيوم غلاكوم) صفراء الأزهار
و"الصبت" (أثيناتوم فورسكالي). وتحب على وجه الخصوص نبتة "الزهرة"
(تريبولوس أرابيكوس) وهي شجيرة جميلة صفراء الأزهار، برأيي
يجب أن تكون الزهرة الوطنية لدولة الإمارات العربية
المتحدة.
كما تحفر الأرض بأظلافها القوية بحثاً عن الجذور حيث
تستمتع بعصارة "الطرطوث" (سينوموريوم كوكسينيوم) و"الظعنون"
(سيستانش إس بي بي). وإن لم يتوفر لها أي من هذا فهي تأكل
حتى الثمار المرة لنبات "الشيري" (سيترولوس كولوسينثيس) أو
تبحث عن الأشجار مثل الأكاسيا.
طوال قرون كثيرة استمتع المها بحياة هانئة وآمنة في
معتزلاته الصحراوية الشاسعة. وحين كان البدو يمسكون برأس
منها هنا ورأس آخر هناك لمأكلهم بين الحين والآخر ما كان
ذلك يمثل تهديداً على وفرة أعدادها. وكان تعويض المفقود
منها بفعل الصيد أمراً يسيراً على القطعان التي تلد إناثها
بعد حمل يدوم ثمانية شهور. وليست لدى المها أعداء طبيعيين
تخشى منهم لأن الفهود تعيش في الجبال أما الذئاب والقطط
البرية فتستطيع المها ردعها بسهولة بقرونها الحادة
وحوافرها القوية.
غير أن الأمور بدأت تأخذ منحى سيئاً للمها العربي مع
بدايات النصف الثاني من القرن الماضي. يومها أصبحت الأسلحة
النارية شائعة وبدأت السيارات تتوفر. ومع الجمع بين
الأسلحة الآلية وسيارات الدفع الرباعي أصبح مصير المها
محتوماً. أخذت حملات الصيد تطاردها أعمق فأعمق إلى داخل
ملاذاتها الآمنة سابقاً بين الكثبان العالية في جوف الربع
الخالي. وفي أوائل ستينيات القرن الماضي لم يعد هناك سوى
بضع قطعان صغيرة تعيش على الأطراف الجنوبية للربع الخالي
عند رملة الشويط. وفي ذلك الوقت أتت حملة صيد من قطر قتلت
48 رأساً منها في رحلة صيد واحدة و13 رأساً في العام
التالي. ولم يبق سوى بضع رؤوس فقط.
حينها أصيب بعض الناشطين في مجال حماية الحياة البرية
بالتخوف على مصير هذا المخلوق. ولم تمض سوى بضع شهور حتى
انطلقت حملة إنقاذ أمسكت عام 1964 بأربعة رؤوس منها جنوب
اليمن ومن هناك أخذتها طائرة إلى إيطاليا ثم نقلت إلى
الولايات المتحدة على نفقة الصندوق الدولي للحياة البرية
ومجموعة من المهتمين بالحيوانات من الأفراد والأندية.
ووضعت جمعية أريزونا لعلوم الحيوانات منشآتها في حديقة
حيوانات فينيكس في خدمة القطيع.
وشارك عدد كبير من الأفراد والمؤسسات من دول عديدة في
عملية الإنقاذ هذه بحيث أصبح من المعقول فعلاً إطلاق اسم "القطيع
العالمي" على هذه المجموعة الصغيرة من المها.
ومع الوقت تكاثر القطيع حتى بلغ 200 رأس عام 1982 وفي عام
1984 أعيدت قطعان صغيرة إلى عمان وأطلقت في موئلها الطبيعي
قرب يلعوني. بداية الأمر خصصت لهذه القطعان مساحات كبيرة
مسورة ولم يسمح لها بالخروج إلى السهول الحصوية المحيطة
إلا بعد فترة طويلة من التكيف.
وتم استئجار رجال قبيلة الحرسي واستئجارهم ليكونوا حراس
على هذه القطعان وهم الذين اعتادوا في السابق على صيدها.
كما تم تركيب أنظمة تتبع إلكترونية على هذه الرؤوس من أجل
مراقبة تحركاتها بدقة. وبعد موسمي قحط عامي 1987 و1988 حين
أصبح المرعى نادراً عادت هذه القطعان إلى المحطة المسورة
التي خضعت لعملية التكيف فيها وتم تقديم دعم غذائي لها.
وواصلت أعدادها التزايد إلى أن تعرضت لفترة من الصيد غير
الشرعي الجائر عامي 1996 و1997. وحين عادت أعداد الإناث
الطليقة للتناقص إلى مستويات خطيرة نتيجة الصيد أعيد
الإمساك ببضع عشرات باقية منها وجمعت في منطقة مسورة مرة
أخرى لإكثارها. وكانت المحاولة هذه ناجحة وتمت السيطرة على
عمليات الصيد وعادت قطعان يلعوني للتكاثر من جديد.
وقد تم إطلاق مجموعات أخرى من المها بنجاح في السعودية حيث
وصل عدد القطيع الذي أطلق عام 1995 في عروق بني معارض في
محمية مساحتها 12 ألف كيلومتر مربع على حواف الربع الخالي
إلى 200 رأس بحلول سبتمبر 2001.
والحقيقة هي أنه حتى في أوائل الستينيات من القرن الماضي
حين انخفضت أعداد المها لمستويات خطيرة كانت لا تزال هناك
عدة قطعان تتكاثر في الأسر. قبل سنوات كثيرة تحول المغفور
له الشيخ زايد بن سلطان من صياد إلى مدافع عن الحياة
البرية. وعن ذلك قال: "ذات مرة خرجت في رحلة صيد وصادفت
قطيعاً كبيرة من الظباء. أخذت أطاردها وأرميها. ولم تمض
سوى حوالي ثلاث ساعات حتى وجدت أني أرديت 14 ظبياً. ثم
توقفت وفكرت في الأمر ملياً وأحسست أن صيد الظباء بالبنادق
سيكون خطراً مباشراً يهدد بقاء هذه الفصيلة. وبعدها قررت
أن أتوقف عن تكرار الأمر."
ولم يمض وقت طويل بعدها حتى أمر بمنع صيد الحيوانات
المهددة بالانقراض وأسس حديقة حيوانات العين لتكون أكبر
حديقة حيوان في الشرق الأوسط لتزدهر فيها حياة الظباء
المحلية والإفريقية. بدأت الحديقة بأربعة رؤوس أمسك بها في
البرية أوائل الستينيات و14 رأساً من مجموعات خاصة. ولم
يأت عقد الثمانينيات حتى أصبح قطيع حديقة حيوانات العين
يعد 200 رأس.
كما أن حدائق العديد من الشيوخ تؤوي مجموعات صغيرة تتكاثر
فيها بنجاح. ومؤخراً بدأ منتجع المها في دبي مشروعاً
لحماية فصائل محلية عديدة من الغزلان والمها على مساحة
تبلغ 27 كيلومتر مربع من الكثبان الرملية. ومنذ ذلك الوقت
توسعت مساحة المنتجع لتبلغ حوالي225 كيلومتر مربع كما يبلغ
عديد قطعان المها في منتزه السفاري السياحي حالياً 240 رأس.
وهناك قطيع آخر يعد عشرات من الرؤوس في منتزه الشارقة
الصحراوي.
كانت نتيجة مشكلات الصيد التي تعرضت لها المحمية في عمان
أن تأسست لجنة تنسيق حماية المها العربي في مارس 2001. ومن
بين أهداف اللجنة ما يلي:
- تشجيع عملية نشر تجمعات من المها العربي في مواطنها
الأصلية التاريخية وفق توجيهات ----- بخصوص التكاثر.
- تأسيس شبكة تواصل وقواعد بيانات فاعلة لخدمة برامج حماية
المها العربي.
- المساهمة في تنسيق الجهود لمنع التجارة غير المشروعة
بالمها العربي وتنظيم تجارتها بالتوافق مع المعاهدات
الدولية في هذا الخصوص.
وقد تم اختيار الإمارات العربية المتحدة لمهمة الأمانة
العامة لهذه المنظمة وبالتالي أصبحت مشاركة بفاعلية في
حماية المها العربي وهو ما أثمر مؤخراً إطلاق أول مجموعة
من المها في البرية في محمية مساحتها 10 آلاف كيلومتر مربع
في صحاري أبوظبي. وقد حضر عملية الإطلاق سمو الشيخ محمد بن
زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي ونائب القائد الأعلى للقوات
المسلحة. وقد بدأ اهتمام سمو ولي العهد في حماية الحياة
البرية منذ ثمانينيات القرن الماضي حين كان أحد المؤسسين
للمركز الوطني لبحوث الطيور والذي تطور لاحقاً ليصبح هيئة
بحوث البيئة وتنمية الحياة الفطرية والذي يعرف حالياً باسم
هيئة البيئة في أبوظبي. ويجسد سمو الشيخ محمد بن زايد آل
نهيان في نشاطاته البيئية هذه الرؤية التي حملها والده
المغفور له الشيخ زايد الذي أمر بأسر أربعة رؤوس مها من
البرية للشروع في إكثار قطيع منها في حديقة حيوان العين.
ويقول البيان الصحفي الذي نشرته هيئة البيئة في أبوظبي: "بهذه
الخطوة أحرزت خطة هيئة البيئة في أبوظبي لإعادة المها
العربي الجميل إلى موئله الطبيعي تقدماً كبيراً بعد 40
عاماً من غيابه عن وطنه."
يقول ماجد المنصوري، الأمين العام لهيئة البيئة في أبوظبي:
"يأتي برنامج إعادة إطلاق المها جزءاً من التزام هيئة
البيئة في أبوظبي طويل الأمد لحماية التنوع البيئي الثمين.
ولن يبلغ هذا المشروع مرحلة النجاح الكامل إلا حين يحرز
وضع هذا المخلوق الجميل في البرية تقدماً كبيراً. إن
مركزنا لبحوث البيئة البرية يعمل منذ فترة طويلة على إطلاق
المها على أمل إيجاد تجمعات قابلة للاستدامة من تلقاء
ذاتها لتجوب صحارينا بكل حرية."
وتخطط الهيئة لإطلاق مئة رأس مها مولودة في الأسر على مدى
السنوات الأربع المقبلة في البرية خلال شهور السنة الباردة
في الموقع نفسه الذي يغطي مساحة 10 آلاف كيلومتر مربع. وقد
اقترحت الهيئة على المجلس التنفيذي لإمارة أبوظبي تحويل
المنطقة إلى منطقة محمية. وخلال عملية الإطلاق، ستقوم
الهيئة بتتبع الحيوانات كما سيقوم جوالو الصحراء التابعين
للهيئة بحماية المنطقة.
وقد اختارت الهيئة هذه المنطقة بعناية كبيرة بناء على
معايير عديدة. كما وفرت فيها ما يزيد عن 30 محطة تغذية
مؤقتة لتوفير الماء والظل لرؤوس المها المطلقة خلال عملية
التأقلم على الحياة الصحراوية. وستتم إزالة محطات التغذية
تدريجياً مع تقدم تأقلم المها مع بيئته الجديدة وتعلم
الاعتماد عليها للبقاء.
ووفقاً للهيئة، كانت حديقة حيوانات العين شريكاً
استراتيجياً في تنفيذ المشروع، حيث ساهمت في عملية اختيار
مناطق الإطلاق وبناء السياج حولها ونقل الحيوانات إليها
والتبرع ببعض الرؤوس. كما يساعد بيطريو الحديقة في تحضير
المها لإطلاقها سواء في الاختبارات الصحية وتوفير اللقاحات
اللازمة لها.
وبالطبع فإن تأسيس محمية طبيعية كبيرة مخصصة للمها العربي
سيكون مفيداً أيضاً لحيوانات أخرى تعيش في المحمية مثل
الغزلان والثعالب وجرذان الصحراء والأرانب البرية والزواحف
والطيور. وقريباً سنرى في الإمارات مساحات كبيرة من الأرض
يمكننا أن نتمتع فيها وندرسها بحالتها الطبيعية البكر
مثلما كانت في وقت مضى.
|