الآن،
وبعد أن اعتقل الزعيم العراقي السابق صدام حسين وتعرضه للإذلال العلني،
فإن السؤال الذي يطفو على السطح هو: هل ستفي الولايات المتحدة بوعدها في
إحلال الديمقراطية في العراق؟ وفي نهاية المطاف، ألم يكن من المفترض أن
صدام هو الذي كان يقود الثائرين؟
ذلك
بطبيعة الأمر يدفع المرء للتساؤل كيف كان يمكنه ذلك – من منطلق تعبوي بحت
– فهو لم يكن يفتقر لجهاز هاتف متحرك ولجهاز إرسال لاسلكي على الموجة
القصيرة فحسب، بل لم يكن يبدو أن لدية واحدة أو اثنتان من الحمام الزاجل.
والآن، بعد إبعاد صدام وابنيه عن الساحة، ألا يفترض أن يكون الطريق قد
أصبح خالياً من العقبات؟
ولأننا
نحن البشر المعرضين للفناء لسنا على اطلاع على أفكار جورج دبليو بوش
وخططه العالمية الخاصة "بالقرن الأمريكي الجديد"، فإن توقعات أي منا بشأن
مستقبل العراق ستكون متماثلة تماماً مع بعضها! لكننا ندرك أنه لو تم
إحلال نظام ديمقراطي حقيقي في العراق، حيث يكون لكل شخص صوت واحد، فإن
الحكومة التي سينتجها هذا النظام لن تكون على ذوق إدارة بوش.
فهذه
الإدارة تفضل تلك الحكومة ضمن الكورس الأمريكي، وأن تتشاطر معها نفس
الإيديولوجية الرأسمالية، بل وأن تعطي المصالح الأمريكية الأولوية حتى
على مصالح العراق. ومن وجهة نظرها، فإن أحمد جلبي، الذي لن يحب شيئاً
أكثر من القيام بخصخصة نفط العراق وصناعاته الحكومية الأخرى، سيكون
قائداً مثالياً – ونسخة عراقية عن حميد قرضاي في أفغانستان.
لنفترض
جدلاً أن كل شيء سار على ما يرام، وأن قيادة عراقية انتخبت أصولاً، قيادة
لا تقبل بديلا عن إعطاء الأولوية لمصالح العراق. أي نوع من الديمقراطية
ستسود في العراق طالما كان هناك قوات أجنبية على ترابه؟ أن يكون ذلك
مجرد تغيير لاسم اللعبة؟
على
سبيل المثال، هل سوف "يسمح" للحكومة العراقية المنتخبة أن تنتقل من نظام
البترودولار لنظام اليورودولار؟ أو أن تلغي عقود الإعمار التي اختارتها
الشركات الأمريكية، والتي اكتشف أن بعضها يبالغ جداً في أسعاره، ومنحها
لشركات فرنسية أو ألمانية، مثلاً؟
ربما
تحدد موعد للانتخابات العام المقبل، لكن القول الشائع أن القواعد
الأمريكية ستبقى في العراق سنوات كثيرة، إن لم يكن لعقود كثيرة مقبلة.
نشر
الديمقراطية في الشرق الأوسط
مجموعة
بوش قبلت أيضاً تحدي دمقرطة الشرق الأوسط. فماذا يعني ذلك؟
أحد
الأشخاص، ويطلق على نفسه لقب "عقيد متقاعد، المخابرات العسكرية للجيش
الأمريكي"، يعتقد أنه يعرف الجواب، وقد "تفضل" بالكتابة لي قائلاً:
"هدفنا المقبل هو سوريا، ثم إيران. سنقوم بدمقرطة المنطقة كلها، ثم سنتجه
إلى كوريا الشمالية."
وقال
الكاتب الذي يزعم أنه ساعد في أنشطة التخطيط المسبقة للعمليات في العراق
"لقد أتيحت فرصة الهيمنة لكم – أنتم البريطانيين – لأكثر من 200 عام.
والآن جاء دورنا، لكن بأسلوب مغاير.
"لن
نتحكم بالنفط، بل سنسيطر على الناس الذين يتحكمون بالنفط. من يتبعنا
سيحصد ثمار السلام الأمريكي. ومن يقفون في طريقنا سيحصدون غضب قواتنا
المسلحة. وسيكون المستقبل عظيماً.
وبالنظر
لغموض البريد الإلكتروني، فإن من كتب لي قد يكون مجرد نادل يحمل اسم
إلفيس مثلاً، ويعمل في مطعم للبيرجر. لكن هذا لا يهم فهذا الرجل قد لخص
بأسلوبه الفظ الإيديولوجيات الكامنة وراء مسلسل حروب أمريكا.
أما
أولئك السذج بيننا الذين آمنوا بأن أحداث العراق تتعلق بنزع أسلحة صدام
حسين، أو أن جورج بوش أراد الانتقام لمحاولة اغتيال أبيه، فقد جانبهم
الصواب كثيراً.
من جانب
آخر، فإن السيد إلفيس – كما أسميته – لأنني لا أملك طريقة لمعرفة هويته
الحقيقية، فقد لخص القضية بجملة واحدة " لن نتحكم بالنفط، بل سنسيطر على
الناس الذين يتحكمون بالنفط."
لقد
قطعت إدارة بوش شوطاً طويلاً على طريق تنفيذ ذلك. ولا يقتصر الأمر على من
يتحكمون بالنفط، بل بمن يتحكمون بخطوط الأنابيب أيضاً. وقد جاءت هجمات 11
سبتمبر على رموز القوة الأمريكية لتوفر للولايات المتحدة الفرصة المثالية
لاستدرار تعاطف قادة العالم. وما لبثت، دون إضاعة وقت، أن بدأت بتطبيق
سياسة "أنت إما مع الولايات المتحدة أو..."
أولاً،
ينبغي ترويض القوة الإسلامية النووية الوحيدة المعروفة. وهكذا منحت
باكستان خياراً واضحا: الحصول على الاحترام، رفع المقاطعة، إلغاء الديون
والفوز باتفاقيات تجارية جديدة، أم البقاء منبوذة على الهامش؟ واختارت
باكستان الطريق الأول، مما كان يعني التسليم بوجود قواعد أمريكية على
ترابها كجزء من إسهامها بما يسمى "الحرب على الإرهاب".
وجرى
الحصول أيضاً على دعم روسيا التي لم تتردد كثيراً في الموافقة على الوجود
العسكري الأمريكي في أوزبكستان، طاجيكستان وقرغيزيا، وهي التي كانت
تقليدياً تقع ضمن دائرة النفوذ الروسي. وعندما انسحبت الولايات المتحدة
من معاهدة حظر الصواريخ الباليستية، صدرت اعتراضات واهية عن موسكو،
فأمريكا هي التي تعرضت للهجوم، وتستحق فعلاً أن تدافع عن نفسها (وقد
استفاقت روسيا بعدئذ وأدركت أبعاد اللعبة، لكن بعد فوات الأوان".)
ثم تلا
ذلك دفع العالم العربي نحو الشعور بالذنب لأنه كان وراء تفريخ الإرهابيين
الـ 19 الذين دربهم أسامة بن لادن. وكان من الطبيعي أن يندفع لإظهار دعمه
لعملية القضاء على الإرهاب. لكن ذلك يثير تساؤلاً هو، لو كان أولئك
الإرهابيون مسيحيين، فهل كان العالم المسيحي سينغمس في هذا الحجم من عقاب
الذات؟ سؤال سخيف، أليس كذلك؟
ثم جاءت
الحرب على أفغانستان. لكن كان لا بد من الحصول على دعم الناس قبل الشروع
في ذلك. وأي طريقة لتحقيق ذلك أفضل من تصوير ابن لادن على أنه الصورة
المجسدة للشر؟ لكن هذا لم يكن يبرر قتل الآلاف للوصول إلى شخص واحد. ولذا
بدأنا نسمع فجأة قصصاً رهيبة عن الطالبان ونظامها القمعي. وجرى توجيه
إنذار لها بتسليم أسامة بن لادن أو مواجهة العواقب. وهي نفس الإستراتيجية
التي تكررت عندما طلب من العراق تسليم أسلحة الدمار الشامل، وإلا.
ونتيجة
لانتقال وسائل الإعلام من أفغانستان إلى العراق، يغيب عن أذهان مؤيدي
جورج بوش أن أفغانستان اليوم غدت مرتعاً للحروب القبلية، وأن الهجمات ضد
القوات الأمريكية تتزايد، وإنتاج الأفيون يتصاعد، فيما بقي الفقر على
حاله. فلو كانت الإدارة الأمريكية صادقة النية في تصدير الديمقراطية،
فلمَ لم تبدأ بأفغانستان؟
أما
مبرر غزو العراق فقد احتاج إلى مزيد من العبقرية من جانب صقور البنتاغون.
فالزعيم العراقي حرص على البقاء بعيداً عن الأضواء منذ حرب الخليج. وقد
حاولوا جهدهم الربط بينه وبين القاعدة، وهو أمر نجحوا فيه داخل الولايات
المتحدة وفشلوا دولياً. وبقيت لديهم حجة نزع أسلحة الدمار الشامل من صدام
حسين. وقالوا إنهم متأكدون من وجودها، وأنه قد يعطيها لإرهابيين في
المستقبل. وهكذا ولدت سياسة الضربات الوقائية.
لكن
العالم لم ينخدع على الفور بذلك، باستثناء عدد من عملاء أمريكا. ولذا كان
لا بد، مرة أخرى، من إقناع الشعب الأمريكي بأن قيادته إنما هي رمز
للفضيلة. وهكذا ألبسوا صدام حسين وجهاً جديداً للشر بحيث غدا يجسد القمع
والقسوة. وغدا لا بد من رحيله ليتم تحرير الشعب العراقي من طغيانه.
الأمر
المحزن هو أن غالبية الأمريكيين استسلموا لهذا الهجوم النفساني. فما زال
أكثر من 50% منهم يؤمنون بأن لصدام يد ما في هجمات 11 سبتمبر، وذلك لربط
بوش المتواصل بين الاثنين، وغم أن ابن لادن يعتبر صدام "مرتداً". ويظهر
استطلاع آخر أنه حتى لو لم يتم العثور إطلاقاً على أسلحة كيماوية أو
بيولوجية – وهو أمر مرجح لأن جميع علماء العراق يصرون على أنها قد دمرت
عام 1991 – فإن معظم الأمريكيين يعتقدون أن الحرب ضد العراق كانت عادلة.
أي أنهم خدعوا تماماً بتلك الأكاذيب، جملة وتفصيلاً.
لو تم
إثبات أن القيادة العراقية السابقة لم تكن تخفي أسلحة دمار شامل، وأنها
بالتالي كانت ملتزمة بقرار الأمم المتحدة 1442، فإن الغزو لا يفتقد فقط
إلى الذريعة، وإنما إلى الشرعية. إن الإطاحة بدكتاتور دموي كان من
النتائج الثانوية لغزو متواصل غير مشروع، لكنه لا يبرئ التحالف، ولا يجب
أن يفعل ذلك. فلو صفقنا لهم الآن، لشعروا أن أيديهم طليقة لتكرار
العملية.
من قبل الشعب، وللشعب؟
إن
الدول أعضاء التحالف التي تتظاهر بنسيان أسلحة الدمار الشامل العراقية
المفقودة، وعوضاً عن ذلك تحتفل بعراق ديمقراطي المستقبل، قد تحتاج لإعادة
التفكير في الأمر. كيف يمكن تصدير أي شيء، بما في ذلك الديمقراطية، إذا
كان الذين ينتظر قيامهم بالتصدير يفتقدون للبضاعة أصلاً؟
لقد ولت
منذ زمن الأيام التي كانت الديمقراطية تعني فيها " من قبل الشعب، وللشعب"
في الدول التي تتغنى بذلك النمط من الحكم. وحل مكانها نظام يتجسس على
الشعوب ويقسمها إلى فئات ويدمغها ويقيدها، وكل ذلك لمصلحة الحكومات.
والتغيير لم يحصل بين عشية وضحاها. بل على العكس تماماً. فمنذ أحداث 11
سبتمبر، شهدت الولايات المتحدة وبريطانيا تآكلاً في الحريات المدنية هنا،
وهجوماً على حقوق الإنسان هناك، فيما تحول الفرد إلى مجرد ما تحتويه
رقاقة كمبيوتر تضم كل شيء وتعلم كل شيء.
الشعبان
الأمريكي والبريطاني يعتقدان أنهما قادران على اختيار قادتهما، ولكن كما
رأينا عندما وصل بوش إلى منصبه، فإن آل غور الفائز بأكثرية الأصوات خسر
السباق. وصوت البريطانيون لزعيم حزب العمل الذي تحول إلى يميني يرتدي ثوب
حزب العمل.
ولا
يملك الشعبان رأياً مؤثراً حول ما إذا كان ينبغي على بلديهما شن الحرب
على العراق أم لا. فقبل الحرب كان 80% من البريطانيين ضد الحرب، وازدحمت
شوارع بريطانيا بأكثر من مليون متظاهر في 15 فبراير المنصرم. ورغم ذلك
مضت الحكومة قُدماً في خططها على أساس أن صدام يمثل خطراً داهماً على
جيرانه – وهي حجة ثبت فيما بعد أنها قد بولغ بها كثيراً إن لم تكن
مخترعة.
و"الحرب
ضد الإرهاب" التي يعتقد كثيرون الآن أنها وصفة لإنتاج إرهابيين بالجملة –
حيث أصبح هناك قتلة للأبرياء الآن أكثر بكثير من أي وقت مضى – كانت وراء
قانون الوطنية في الولايات المتحدة. وهذا التشريع الذي تم استصداره على
عجل، هو المسؤول عن اعتقال المئات، معظمهم مسلمون، ومنعهم بالاتصال
بممثليهم القانونيين وبعائلاتهم على حد سواء.
في
الوقت نفسه، منح مكتب التحقيق الفيدرالي صلاحيات جديدة للتفتيش
والمراقبة. والمكتب يقوم، استناداً لتقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز في
23 نوفمبر، بجمع معلومات مكثفة عن أساليب وتدريبات وتنظيمات المتظاهرين
ضد الحرب.
علاوة
على ذلك، ذكر التقرير أنه تم إعلام القائمين على تطبيق القوانين المحلية
في الولايات بأنه ينبغي عليهم الإبلاغ عن أية أنشطة مشبوهة للاحتجاج إلى
فرق مناهضة الإرهاب التابعة للمكتب. وهذا يعني وداعاً لحرية الكلام والحق
بالاحتجاج السلمي المنصوص عليهما في أي قانون ديمقراطي.
بريطانيا أيضاً تتأهب لإدخال إجراءات جديدة ضد الإرهاب. وطبقاً لما يقوله
أندي ماك سميث، المحرر السياسي لصحيفة الإندبندنت، فإن تلك الإجراءات
ستمنح الحكومة "صلاحية إبطال الحريات المدنية في أوقات الأزمات، وإخلاء
مناطق مهددة، وتقييد حركة الناس ومصادرة الأملاك."
وبموجب
تلك الإجراءات، فإنه لدى إعلان حالة الطوارئ "بسبب الحرب، الفيضان،
انقطاع إمدادات الطاقة، اندلاع الأوبئة أو أية حالة تسبب أو قد تسبب توقف
أنشطة حكومة صاحبة الجلالة"، يمكن منع "الشعب" من السفر وحظر التجمعات.
والمزعج في الأمر هو "قد تسبب توقف أنشطة حكومة صاحبة الجلالة". فهذا
التعريف العريض قد يشمل كل شيء وأي شيء.
وكما
تبدو الأشياء عليه، فإن تحالف بوش – بلير "المعادي للحريات"، يحتفل
بانتصاراته. فمفهوم الحرية الفردية في الولايات المتحدة وبريطانيا قد
ألقي به بي سلة المهملات.
صحيح
أنه مازال بوسع أولئك الذين يعيشون في قلاع القيم الغربية أن يتفرجوا على
المسلسلات التي يحبونها، ويشترون منازل مقسطة على 25 عاماً، ويزورون
ديزني لاند، بل ويقفزون شبه عراة إن شاءوا في النوافير العامة، لكن
الديمقراطية الحقيقية تتعلق بالقدرة على المساهمة في عملية صنع القرارات،
وهي التي تحدد ليس مستقبل الناخبين، بل مستقبل أولادهم.
ومع
انحدار الدولار لمستويات خطرة، حيث يبدو الاقتصاد الأمريكي في وضع يثير
الشفقة، في الوقت الذي تنمو فيه ميزانيات الدفاع بصورة غير مسبوقة، فقد
بدأ الشعب الأمريكي يتساءل عن السبب الذي يدفع حكومتهم لإنفاق تلك
المقادير من الأموال والجهد، فضلاً عن الدم، لدمقرطة دول في الجانب الآخر
من الأرض، تاركة مشاكلهم هم من دون حلول.
الديمقراطية الحقيقية هي نظام ممتاز، لكنها يجب إدخالها أولاً في
الولايات المتحدة وبريطانيا قبل أن تحاول هاتان الدولتان فرضها في أماكن
أخرى. وقادة البلدين يدركان هذه الحقيقة تماماً ويعلمان أن الديمقراطية
والمجتمعات القبلية هما مثل الزيت والماء، لا يمتزجان. فأفراد المجتمعات
القبلية لهم روابط عائلية، ولا يصوتون كأفراد. فالدم بالنسبة لهم لا يصبح
ماء، ولذا فإنهم سيدعمون من يمت لهم بصلة القربى.
لقد غدا
واضحاً أن تحال بوش – بلير يلتف بعلم الديمقراطية ليخفي تحته أهدافه
الحقيقية: الهيمنة العالمية. إن "الديمقراطية" كلمة نبيلة، وعلينا جميعاً
أن نسعى لكي تبقى كذلك.
|