بعد
عودة البيروني من أٍسفاره في الهند، قرر قضاء بعض الوقت في غزنة
الأفغانية. وفيها وضع كتابه "القانون المسعودي في الحياة والنجوم" الذي
كرسه للسلطان مسعود حاكم غزنة. وفي هذا الكتاب يقدم البيروني وصفه لمعارف
عصره في عالم الفلك. وبين دفتيه يدعم نظرياته ببراهين رياضية متشككة. كما
يعرض في الكتاب مبادئ الهندسة والجبر الضرورية لمراقبة الأجرام السماوية
بدقة في مساراتها وأبعادها عن الأرض. وينتقد "القانون المسعودي في الحياة
والنجوم" عدداً من النظريات التي كانت سائدة في عصره حول الفلك وحركات
الشمس والقمر والكواكب ومواقعها. ويتضمن الكتاب أيضاًُ قائمة بإحداثيات
600 موقع يعرفها البيرزني كلها تقريباً معرفة مباشرة.
المكانة العلمية
البيروني رجل كان له اهتمام جوهري في كل مايراه حوله. ففضوله العلمي قاده
لنتائج مهمة جداً مثل حساب القيم الدقيقة لكثافة حوالي 18 معدناً وحجراً
مختلفاً. وتحدث عن هذه القيم في "كتاب الجوهر". وفي هذا الكتاب يطبق
مبادئ الأواني المستطرقة لحساب القيمة المحددة للجاذبية بطريقة ابتكرها
أرخميدس وذلك لتسعة معادن تعتمد على وزن الذهب وتسعة أحجار كريمة تعتمد
على "الصفير الشرقي". وعلى سبيل المثال أعطى قيمة 19.05- 19.26 للذهب
(فعلياً 19.29) و8.72- 8.83 للنحاس (فعلياً 8.85) و12.74- 13.59 للزئبق
(فعلياً 13.56) و8.55- 8.67 للصُفر (فعلياً 8.40). وفي ميدان مختلف
تماماً، أعطانا البيروني أيضاً "كتاب الصيدنة"، الذي كان عملاً موسوعياً
مزج بين دفتيه بين علوم العرب في الطب والمعارف الهندية.
وفي
محاولاته العلمية الأخرى، وجد البيروني طريقة لتقسيم الزاوية إلى ثلاث
أجزاء متساوية كما حل مسائل رياضية أخرى مستعصية باستخدام فرجار ومسطرة
فقط. وقد يكون صعباً على التصديق أن البيروني سبق غيره بمئات السنين ووضع
فرضية دوران الأرض حول محورها. لكنه كان مقتنعاً بالفكرة السائدة حينها
بمركزية الكون، لكن الأرض مركز هذا الكون وشكك بنظرية مركزية الكون مع
كون الشمس مركزه. وبالتالي فقد كان البيروني أول من يقوم بتجارب حول هذه
الحقائق الفلكية. غير أنه ترك نظرية مركزية الشمس للكون لعدم قدرته على
تقديم تأكيد عملي لها. وبفضل تجاربه تلك قال البيروني أن سرعة الضوء،
مقارنة بسرعة الصوت، هي هائلة جداً. وهذه وغيرها من اكتشافاته الرياضية
شكلت قاعدة عريضة تتعامل مع الحساب النظري والعملي وجمع المتواليات
والتحليل العددي وقاعدة الثلاثة والأعداد الصماء ونظرية النسبة والتعاريف
الجبرية وطريقة حل المعادلات الجبرية والهندسة ونظريات أرخميدس وغير ذلك.
في كتابه عن الجغرافيا، "كتاب تحديد نهايات الأماكن،" يطرح البيروني فكرة
"الجغرافيا الوصفية" عبر مراجعته ووصفه المناطق الجغرافية المختلفة لا
بمعايير حياته النباتية والحيوانية فحسب، ولكن أيضاً بمعايير الخامات
المعدنية المتوفرة فيها أيضاً. وهنا أيضاً يقدم البيروني وسائل لتحديد
المسافات على الأرض بتقنيات علم المثلثات. وقاده هذا لتحديد القيمة
الدقيقة لنصف قطر الأرض وهي 6339,6 كيلومتر، والتي لم يتمكن الغرب من
تحديدها قبل عصر النهضة في القرن السادس عشر. ولثقته بمدى معرفته
لجغرافية العالم، رسم البيروني خريطة للعالم تعتبر من أقدم خرائط العالم
المعروفة والباقية حتى اليوم. كما أنه كان في كتابه هذا أول من زعم أن
وادي الإندوس هو ذو نشأة رسوبية. والمثير للاهتمام افتراضه على العكس من
ذلك أن الصحراء العربية لا بد وأنها كانت بحراً قديماً انحسر مع مرور
الزمن. وقد بنى فرضيته هذه على حقيقة أن تربتها هي من طبيعة طبقية تمكن
رؤيتها "حين يحفر المرء آباراً... ويجد فيها مستحاثات."
بفضل 40 عاماً من الدراسة والإسهامات العلمية التي سجلها في كتبه، نستطيع
نحن الآن أن نستخلص بعض الحقائق عن البيروني بدرجة لا بأس بها من الثقة.
ومن المؤسف حقاً أن أقل من خُمس أعمال البيروني قد بقيت حتى يومنا هذا،
لكننا نستطيع أن ندرك منها ما يكفي عن شخصية هذا العالم المسلم. ولا بد
من القول إن البيروني كان في الحقيقة المبتكر العلمي الأكثر نشاطاً. ومع
ذلك فقد كان أيضاً عظيماً في وسائله البحثية العميقة ونافذة البصيرة
والتي وظفت التراكم المعرفي في العالم. وما سهل عليه بحوثه العلمية
طلاقته في الكثير من اللغات. وباستفادته من هذه المقدرة استطاع البيروني
أن يدرس النصوص الأصلية من مصادر كثيرة وأن يجمعها في أعمال علمية أكثر
دقة وإصابة للحقيقة.
يعتقد أن العدد الإجمالي للكتب التي وضعها البيروني طوال حياته العلمية
يبلغ 146 كتاب. وبعض المصادر ترفع هذا العدد إلى 180 كتاب، إضافة لعدد
ضخم من الأوراق بلغ 13000 ورقة. (الورقة هي وثيقة مكتوبة بخط اليد تكون
عادة من صفحة أو اثنتين). إن هذه التقديرات صحيحة إلى حد بعيد. ففي كتابه
"في فهرس كتاب محمد بن زكريا الرازي"، يعدد البيروني 114 من كتبه.
بشكل
عام يستحق البيروني كل احترام باعتباره باحثاً شديد الرسوخ في العلم
وعالماً مقتدراً جداً. كما كان من الرجال البارزين جداً في عصره وأثرت
إسهاماته العلمية على العديد من أوجه الحياة فعلاً. ويعتبر من أعظم
المفكرين في العالم الإسلامي والعالم قاطبة. فقد أعانه عقله التحليلي
وتكريسه حياته لاكتشاف الحقيقة وتقنيات وسائله البحثية الدقيقة على تحقيق
نتائج رائعة. ولا أدل على عشقه للتعلم من قوله الذي اشتهر عنه: "إن كون
الله أعلم لا يبرر الجهل."
جغرافية "العالم القديم"، مثلما قدمها البيروني. في هذا الخريطة يشير
الجنوب إلى "القطب الشمالي". وإذا ماقلبنا الخريطة رأساً على عقب فسنتعرف
فيها على أراضي إفريقيا وشبه الجزيرة العربية وإيطاليا وإسبانيا وآسيا
الصغرى.
أنجح
حسابات البيروني هو تقديره محيط الأرض في كتابه "القانون المسعودي".
|