العلماء منقسمون بخصوص هذا الموضوع. البعض يعتقد أن الأمر محسوم مسبقاً في المورثات. وآخرون يتصرفون وفقاً للطريقة التي تم تعليمهم إياها. ولكن غيرهم يصرون على أن الأمر هو مزيج من الاثنين. لكن قليلين جداً هم من يتفقون على نسبة معينة لكل منهما. أولئك الذين يصرون على دور الطبيعة يشيرون إلى حالة التوائم الذين ينشأون منفصلين عن بعضهم والذين غالباً ما يبقون متشابهين بشكل مدهش. وعلى الجانب المقابل يؤكد عالم النفس الأمريكي جون واطسون على أن البيئة تتفوق على المورثات. ويؤكد على أنه قادر على أن يدرب أي طفل صغير ليصبح اختصاصياً في المستقبل في أي موضوع بغض النظر عن مواهبه أو ميوله أو قدراته الطبيعية.
وفيما جدل كل من الطرفين:
التنشئة
قال إغناطيوس لويولا، الفارس الإسباني الذي تحول إلى قس لاحقاً، في القرن الخامس عشر: "أعطوني طفلاً قبل أن يتجاوز السابعة لأريكم الرجل الذي سيكون عليه." العلماء الذين يوافقونه الرأي يشير هؤلاء إلى الأطفال الذين يتعرضون في صغرهم لسوء المعاملة من والديهم ويبقون في عزلة. في معظم الأحوال لا تتطور أدمغة هؤلاء الأطفال بشكل طبيعي. قبل أسابيع ألقى "برنامج أوبرا" التلفزيوني الضوء على حالة بنت في العاشرة من العمر اسمها دانييل كروكيت عثر عليها في بيت أمها وهي في سن السابعة محاطة بالقذارة ولا تلبس شيئاَ حفاض.
كانت يوم اكتشاف أمرها مغطاة بالبراغيث والصراصير ولسعات البعوض ولم تكن قادرة على المشي بشكل طبيعي ولم تعرف استخدام المرحاض ولا المضغ ولا أكل الأطعمة الصلبة ولا التواصل مع من حولها. وبعد اكتشافها تبناها زوجان وفرا لها كل الرعاية، ولكن على الرغم من الاختبارات الطبية التي تثبت أن دماغها بحالة طبيعية وأنها لا تعاني من أي إعاقة بدنية، إلا أنها أبداً لم تتمكن من تعلم الكلام أو المهارات. وتقول كاثلين أرمسترونغ، الطبيبة النفسية التي تقوم بعلاجها منذ ذلك الوقت، إن 85% من تطور الدماغ يتم في السنوات الخمس الأولى من العمر. وتضيف: "تلك العلاقات الأولى، أكثر من أي شيء آخر، تسهم في تطوير الدماغ وتوفر للأطفال التجربة المطلوبة لاكتساب الثقة وتعلم اللغة من أجل التواصل. هم بحاجة لهذه المنظومة من حولهم لإقامة رابط مع العالم."
كذلك نرى أن من يسمون الأطفال "القطط" الذين تاهوا وتبنتهم ذئاب يبدون السمات نفسها التي لوالديهم البرية بالتبني. إحدى هذه الحالات هي حالة الطفلتين أمالا وكمالا من الهند اللتين ربتهما ذئبة إلى أنقذهما كاهن في 1920 وأخذهما إلى ميتم. وهناك ظلت الطفلتان تمشيان على أربع وتكشران عن أسنانهما وتزمجران وتفضلان أكل اللحم النيئ. وهناك الكثير من مثل هذه القصص التي يبدو وأنها تثبت كلها أن أشكال السلوك البشري من مشي وكلام وتواصل اجتماعي بل وحتى غسل الوجه هو سلوك يكتسب بالتعلم بخلاف سلوك الحيوانات الذي يعتبر في معظمه غريزياً.
في 2002، قررت شركة بيبر للإنتاج الفني التلفزيوني من بريطانيا الشروع في تجربة اجتماعية متلفزة بعنوان "فرصة ثانية" بطلها صبي من حي فقير طرد من المدرسة وأمضى جل حياته على حافة الجريمة. وبعد الحصول على موافقة الأم، قامت الشركة بسداد الرسوم المدرسية للصبي ليبدأ الدراسة في مدرسة خاصة في الريف البريطاني لثلاث سنوات وتمكن في نهاية تلك المدة من التفوق في دراسته مثلما تفوق في رياضة الرجبي. وبعد أن اكتسب الصبي الثقة بالنفس والمحبة، عبر عن ازدرائه لحياته السابقة وبدأ استعداده لتقديم امتحانات الصف العاشر الثانوي.
الكثيرون في معسكر التنشئة أو البيئة لا يقبلون فكرة أن المورثات هي التي تحدد الذكاء لأن ذلك يوحي بأن بعض الأطفال يتمتعون بميزة على غيرهم الأقل حضاً وراثياً. وحاول بعض الأكاديميين دحض هذه الفكرة عبر تعليم بناته ذوات مستوى الذكاء المتوسط ليصبحن أستاذات كبيرات في الشطرنج.
الطبيعة
يقول كتاب مثير للجدل وضعه أستاذ علم النفس في جامعة هارفرد الراحل ريتشارد هيرنشتاين وعالم السياسة تشارلز موراي بعنوان "قوس الجرس" بأن الذكاء هو بنسبة 40 إلى 80 في المئة موروث عبر المورثات وأن الذكاء يتغير بتغير العرق، وهو طرح جعل صاحبيه عرضة لنقد أكاديمي محتدم والاتهام بالعنصرية.
وقد تمكن الباحثون في جامعة كاليفورنيا عبر دراساتهم على 10 توائم غير حقيقية و10 توائم حقيقية من التمييز بين العوامل البيئية والوراثية. واكتشف هؤلاء أن الفص الجبهي من الدماغ وتلك المناطق الدماغية المسؤولة عن النطق أظهرت تطابقاً بنسبة 95 إلى 100 في المئة بين التوائم الحقيقية بما يشير إلى تجاربهم الشخصية والتعلمية كان لها "دور مهمل في تطوير" قدراتهم.
التوأمان الحقيقيان باولا بيرنشتاين وإليز شين اللتين ولدتا في نيويورك أختيرتا لبحث سري في موضوع التنشئة أم الطبيعة بدأ في الستينات. وتم فصل المرأتين وهما بعد رضيعتين وتم تبني كل منهما من قبل عائلة مختلفة. وفي 2004 تلقت باولا اتصالاً هاتفياً من وكالة التبني لتعلم أن لها شقيقة توأم تعيش في باريس تبحث عنها. وفعلاً تقابلت الأختان لأول مرة وهما في الخامسة والثلاثين من العمر وأمضيتا ساعات في أحد مقاهي نيويورك تحاولان التعرف على بعضهما وحياة كل منهما.
والمفاجأة هي أنه على الرغم من نشأتهما في عائلتين مختلفتين وفي مكانين مختلفين فقد كانتا متشابهتين جداً. تقول باولا: "الأمر لا يتوقف عند ذوقنا الموسيقي والكتب التي نحب أن نقرأها فحسب بل هو أبعد من ذلك. منذ قابلت إليز لم أعد أنكر أن المورثات لها دور كبير جداً- ربما أكثر من 50 في المئة." وخشية من رد فعل شعبي سلبي، لم يتم الإعلان عن النتائج. بل تم وضع النتائج في مغلف مغلق وتسليمه إلى جامعة يال مع إعطاء تعليمات بعدم السماح بفتحه قبل عام 2066 على أقل تقدير.
وحصل طرح الطبيعة والوراثة مؤخراً على دفعة جديدة في صالحه بفضل التقدم في علوم الوراثة. ويقول العلماء إنهم عثروا على مورثة اسمها نيرود2 أو "المورثة الشجاعة" التي تقرر ما إذا كان حاملها مستعداً لتقبل المخاطر أم لا. وأعلن آخرون اكتشافهم لمورثات ذات صلة باضطراب عوز التركيز واضطراب الوسواس القهري والاكتئاب المزمن والتوحد والانفتاح والانغلاق على الذات وحب الأشياء الجديدة والعدوانية والقمار والتهور والقلق. ولا مجال لإنكار أن استعداد الإنسان للإصابة بمرض ما مثل السرطان يزداد بفعل الوراثة.
ويقول أخصائي علم الوراثة السلوكية دين هامر من المركز القومي الأمريكي لبحوث السرطان والذي شارك في وضع كتاب بعنوان "العيش مع مورثاتنا" إن بحوثه أثبتت بما لا يترك مجالاً للشك أن المورثات هي العامل المنفرد الأكبر والأكثر أهمية في التمييز بين فرد وآخر.
ويقول: "سواء أحببنا هذه الفكرة أم لا، سنتمكن قريباً من تغيير السلوك البشري والتلاعب فيه عبر علوم المورثات." ويعتقد أن الآباء يوماً ما سيتمكنون من تصميم مواليدهم لضمان أن يكونوا أصحاء وأذكياء وموهوبين وهو ما يعتبره الكثيرون أمراً لا أخلاقي لا بل ومرعب أيضاً.
وفي المناظرة بين التنشئة والطبيعة ليس هناك نتيجة حاسمة بعد ولهذا فسيعود ليخرج على السطح مرات ومرات مقبلة.