الإسرائيليون يعتبرون شولاميط كوهين بطلة، بل إن حكومة إسرائيل قامت قبل سنوات بتكريمها رسمياً على الخدمات التي قدمتها لإسرائيل. هي اليوم في التسعينيات من عمرها وتعيش في أحد أحياء اليهود المتطرفين في القدس واسمه ميا شيريم. ويعرف سكان هذا الحي بالتزامهم الصارم بيوم السبت اليهودي حيث يمنعون الزوار من التدخين أو التصوير أو استخدام الهاتف المحمول أو قيادة السيارة. ويتعرض من يسوق سيارته يوم السبت في الحي غالباً إلى وابل من الحجارة يرشقه بها السكان.
وهو أمر غريب أن تختار شولاميط العيش في مثل هذا الوسط الديني المتطرف الذي تكاد تجد في كل شارع فيه ملصقات تطلب من الناس "الاحتشام" وهي التي كان ماضيها بأكمله يقوم على الفاحشة. لكن يبدو أن الإسرائيليين يفضلون غض الطرف عن ماضيها والنظر إلى إليها بمنظار الغاية التي تبرر الوسيلة. وقد سمحت إسرائيل قبل سنوات بنشر معلومات عن قصتها في العلن.
شولا كوهين كانت النسخة الأنثوية من الجاسوس اليهودي الإسرائيلي المولود في مصر، إيلي كوهين (ولا قرابة بين الاثنين) والذي جندته الاستخبارات الإسرائيلية أوائل ستينيات القرن الماضي وأعطته هوية مزيفة واسماً جديداً هو كمال أمين ثابت. وبعد مدة أمضاها في الأرجنتين تحت غطاء كونه رجل أعمال عربي وابن مهاجر سوري، وهو الأمر الذي لم يكن صعباً بالنظر إلى كونه فعلاً يهودي من أبويي يهوديين سوريين من مدينة حلب. وأرسل كوهين إلى سوريا عبر مصر مسلحاً بحقائب مليئة بالمال وتمكنه من اللهجة السورية. وكانت مهمته تطوير علاقاته بالساسة والضباط السوريين للحصول على معلومات استخبارية عن الدفاعات السورية في مرتفعات الجولان.
وما إن وصل إلى سوريا حتى بدأ بإغواء أهدافه من أعلى المستويات بالحفلات الباذخة واستضافة "أصدقائه" الجدد في المطاعم والمقاهي حيث كان يبقي أذنيه مفتوحتين دائماً لكل الشائعات. هدوؤه أفاده جداً لدرجة أنه أصبح، على ذمة أخيه، مستشاراً لوزير الدفاع السوري بل والرجل الثالث في السباق إلى الرئاسة السورية. غير أن نجمه خبا بعد أن تعرف عليه أحد المقيمين في دمشق وقال إنه يهودي من الإسكندرية. ولم يمض وقت طويل حتى تمكنت الاستخبارات السوفييتية من رصد رسائل باللاسلكي تصدر من بيته وأخبرت بأمرها نظيرتها السورية. وتم القبض على كوهين وهو يقوم ببث رسائله من جهاز اللاسلكي السري في بيته وتعرض للتعذيب والشنق علناً.
قصة شالوميط كوهين مشابهة لقصة إيلي كوهين باستثناء أن نهايتها كانت مختلفة. ولدت شالوميط في الأرجنتين لعائلة هاجرت من روسيا. وهاجرت في طفولتها مع عائلتها إلى العراق حيث أصبحت تتحدث العربية بطلاقة قبل أن تهاجر إلى فلسطين في 1937. وبعدها ببضع سنوات قتل أبوها وأخوها وخطيبها في المعارك مع الفلسطينيين ثم لم يمض وقت طويل حتى ماتت أمها. أصبحت شالوميط وحيدة وبدون معيل فعملت موظفة استقبال في عيادة في تل أبيب وخلال عملها ارتبطت بعلاقة عاطفية مع ضابط إسرائيلي. وقعت شالوميط في هوى ذلك الضابط المهاجر من بولندا، ولكن على الرغم من جمال وذكاء شالوميط، إلا أن الزواج لم يكن هو ما يفكر به. بل استدرجها للعمل في الموساد الذي دربها على أساليب وفنون إغواء الأثرياء وأصحاب النفوذ وأرسلها إلى إنكلترا لتحسين لغتها الإنكليزية.
وبناء على تعليمات رؤسائها في الموساد، ارتبطت عام 1949 بزواج مصلحة مع جوزيف كيشيك، اليهودي اللبناني وعادت معه إلى بيروت حيث كان يمتلك متجراً. وهناك وجدت عملاً في أحد المصارف وفتحت صالون تجميل في حي وادي أبو جميل الذي كان مركزاً اقتصادياً ودينياً واجتماعياً وثقافياً للأقلية اليهودية في لبنان. ومع الوقت أصبح ليدها خمسة "صالونات" في مختلف أحياء بيروت مجهزة بأجهزة تنصت وكاميرات تصوير سرية وتعمل فيها الجاسوسات.
كما استأجرت محلاً في شارع الحمرا الذي حولته إلى نادي ليلي لغرض الاتصال بشبكة عملاء الموساد دون إثارة الشبهات ولتتمكن من تجنيد المزيد من العميلات الجميلات. وطوال 14 عاماً التالية كانت تهدي خدماتها والعاملات لديها إلى المسؤولين الحكوميين والساسة ووجهاء المجتمع اللبناني ولكن ليس دون مقابل.
ويجب التنويه هنا أن الأقلية اليهودية في لبنان كانت كبيرة وتعد أكثر من 9 آلاف يهودي في ذلك الوقت وكانوا يتمتعون بحماية الدستور اللبناني بالإضافة إلى وجود 14 حياً يهودياً وعلى الأقل مصرفين يهوديين. كان اليهود في بيروت يتمتعون بحياة مريحة في واحدة من أكثر المدن انفتاحاً في العالم غير أن الكثيرين منهم هاجروا بعد حرب 1967. ثم هاجر ما تبقى منهم بعد اندلاع الحرب الأهلية في 1975 نتيجة الخوف من الانقسامات الطائفية المتسعة.
بين 1947 و1961 زودت شولاميط كوهين رؤساءها في إسرائيل بالأسرار ومنها الاتفاقية الأمنية بين الحكومتين السورية واللبنانية وأسست منظمة سميت "القوة اليهودية للدفاع عن النفس" بهدف اختراق الأحزاب السياسية اللبنانية. ويعزو الإسرائيليون بالفضل لشولاميط على وجه الخصوص على مساعدة اليهود السوريين في حلب ودمشق من أجل السفر سراً عبر الجبال على الحدود السورية اللبنانية ومن ثم إلى إسرائيل. ولهذا الهدف تعاونت مع عملاء إسرائيليين آخرين في بيروت ودمشق. ويعتقد أيضاً أنها استخدمت علاقاتها لتحويل أموال اليهود من المصارف السورية واللبنانية إلى المنظمات الصهيونية.
وفي 9 أغسطس 1961 وقعت شولاميط كوهين وزوجها جوزيف كيشيك في يد السلطات اللبنانية بتهمة التجسس إلى جانب 22 عميل آخر في شبكتها. وحكم عليها بعد سنة بالإعدام قبل تخفيف الحكم لاحقاً إلى السجن 20 عاماً. ولم تمض شولاميط سوى سبع سنوات في السجن حيث أطلق سراحها في 1967 ضمن صفقة تبادل أسرى بين إسرائيل ولبنان.
واليوم يمجد الإسرائيليون شولاميط كوهين ويعتبرونها شخصاً ضحى من أجل الدولة اليهودية. غير أن ابنها إسحاق، الذي نشأ في لبنان ويقال إنه زار أمه وهي في السجن، غير اسم كوهين وكيشيك واختار اسم ليفانون والذي يعني بالعبرية لبنان.
السفير الإسرائيلي الجديد في مصر ليفضل ألا يعرف الناس هناك ماضي أبويه، غير أنه لا يقل عنهما تصهيناً. ولكنه إن قرر تغيير اسمه لأنه يريد حياة هادئة، فهذا ما لن يحصل عليه في مصر التي ما يزال سلامها مع إسرائيل بارداً على حدود التجمد. وبدأ مهمته الجديدة في مصر بانتقادات كبيرة لسماحه للإسرائيليين بالرقص والشرب في حفل إعادة افتتاح معبد يهودي كما تقدم بشكوى رسمية من وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط الذي وصف إسرائيل بأنها عدوة ثم خضع كلبه تحت "الإقامة الجبرية" لثلاثة شهور لدخول قاعة كبار الشخصيات في مطار القاهرة التي يحظر دخول الكلاب لها.