لا تسعفني الكلمات وأنا أحاول أن أصف ما أشعر به إزاء جريمة إسرائيل بقتلها لمدنيين في المياه الدولية. كانت سفينة "مرمرة الزرقاء"- إحدى ست سفن أبحرت إلى غزة تحت راية حركة غزة الحرة لكسر الحصار الوحشي وغير القانوني على القطاع- تحمل ما يزيد على 600 مدني من الرجال والنساء والأطفال، وبينهم رضيع عمره عام واحد.
سلاحهم الوحيد كان قلوبهم الرحيمة. والنية الوحيدة التي بيتوها هي تعريف العالم بالمحنة الرهيبة التي يعيشها مليون ونصف مليون فلسطيني في أكبر سجن مفتوح في العالم. ومع ذلك أرسلت إسرائيل سفنها ومروحياتها الحربية لمحاصرتها قبل أن تنزل عليها قواتها الخاصة من المروحيات الحربية لتقتل تسعة نشطاء عزل وتجرح العشرات. وقد وصفت إحدى الناشطات التي كانت على السفينة ما حدث بأنه "نهر من الدماء".
وزير الخارجية الفرنسي قال إنه "شعر بالصدمة" ولكننا تعلمنا أن علينا توقع هذا العمل البربري من الدولة اليهودية. رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان عبر عن غضبه. ومبعث هذا الغضب مفهوم ولكن ما النفع من التعبير عن الغضب إن كان مسموحاً لإسرائيل أن ترتكب هذه الفظاعات واحدة إثر أخرى دون حساب؟ إنه مثل النفخ في قربة مثقوبة. إن المطلوب اليوم هو عمل دولي جماعي.
ماكينة الدعاية الإسرائيلية زلقة اللسان بدأت تعمل بطاقتها القصوى حتى قبل وصول الأسطول الأسير إلى ميناء أسدود. فهؤلاء حسبما وصفهم مسؤول إسرائيلي لم يكونوا نشطاء سلام بل إرهابيون مرتبطون بحماس والقاعدة وهو زعم يثير السخرية بالفعل خصوصاً إذا ما عرفنا أن هؤلاء جميعاً قد أطلق سراحهم وعادوا إلى بلدانهم. وقال مسؤول آخر إنهم كانوا مسلحين ويخططون لمهاجمة جنودنا وهو ما ثبت أنه كذبة سافرة إذ أن كل ما أظهروه للصحافة لم يكن سوى بعض نقافات ودحل الأطفال والمقصات والقضبان المعدنية التي استخدمها الركاب المحاصرون للدفاع عن أنفسهم.
وربما كانت الإهانة الأكبر التي أراد الإسرائيليون أن يوجهوها لذكائنا جميعاً هي هذه: الإسرائيليون ادعوا أن من حقهم انتهاك سيادة تركيا في المياه الدولية بقتل مواطنيها ومصادرة سفنها وبقية السفن التي كانت تبحر تحت رايات دول أخرى. لم يكن ما قامت به إسرائيل انتهاكاً فادحاً للقانون الدولي فحسب بل وعملاً يمكن تفسيره على أن عمل حربي. وتخيلوا فقط لو أن الآية كانت مقلوبة وأن تركيا صادرت سفناً إسرائيلية وأطلقت النار على مدنيين إسرائيليين!
لم تتعرض إسرائيل للاعتداء من جانب أي سفينة. ولم يعتد أحد على مياهها الدولية. كما تركيا التي تعتبر حليفتها قد فتشت السفن لتتأكد من عدم وجود أي أسلحة. ولهذا فإن ادعاءات إسرائيل بأنها كانت تدافع عن نفسها هي ادعاءات فارغة. بل إن إسرائيل لم تكن تدافع عن مواطنيها وإنما تدافع عن سياستها المدانة جداً حينما قررت حرمان الغزيين من حريتهم.
غير أن المجتمع الدولي هذه المرة لم يقبل أكاذيب إسرائيل. وكان رد الفعل من جانب الدول الأوروبية والعربية والآسيوية مباشراً. كما أن الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة أدانا الحادثة بقوة. العديد من الدول استدعت السفير الإسرائيلي لديها ودعت أخرى لإنهاء الحصار الخانق المفروض على غزة. كما عقد مجلس الأمن الدولي جلسة طارئة بطلب من تركيا ولبنان والسلطة الفلسطينية التي تقدمت بمسودة قرار إدانة لإسرائيل يطالب بإجراء تحقيق مستقل في الحادثة.
ولكن مثلما توقعنا بدأت حليفة إسرائيل والعضوة الدائمة في مجلس الأمن التي تتمتع بحق النقض وهي الولايات المتحدة بالتفاوض مع تركيا من أجل تخفيف قوة البيان. ولكم أن تتخيلوا كم ضحك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حينما سمع الأمم المتحدة تطالب إسرائيل أن تحقق مع نفسها! ما الذي يختلف به ذلك عن الطلب من متهم مدان أن يكون لنفسه أيضاً الشرطي والقاضي.
بعض خطاب الرئيس باراك أوباما في القاهرة قبل عام من الآن حينما توجه إلى العرب والمسلمين، تجرأت هذه المنطقة من العالم أخيراً على أن تحلم بأن هناك رئيساً أمريكياً مستعداً لأن يجانب الإنصاف والحياد. غير أن كل وعوده الكبيرة قد تمخضت عن لا شيء. الإسرائيليون يواصلون توسيع مستوطناتهم غير الشرعية في الضفة الغربية ويواصلون بناء "جدار الفصل العنصري" غير الشرعي على الأرض الفلسطينية ويواصلون عدم اكتراثهم بمناقشة جدية لموضوع الدولة الفلسطينية.
واكتفى الرئيس الأمريكي بإبداء درجة من البرود فقط تجاه نتنياهو الذي لم يحظ خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن بالمؤتمر الصحفي المشترك وجلسة الصور مع الرئيس الأمريكي. ولذلك واجه الرئيس أوباما هجمة انتقادات شرسة من من الكونغرس الموالي بشدة لإسرائيل ومن داخل حزبه الديمقراطي. وكان الهدف من زيارة نتنياهو المخطط لها هذا الأسبوع إلى واشنطن أن تصلح الضرر. ويخشى الرئيس أوباما مع اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفية في نوفمبر المقبل من إغضاب اللوبي الإسرائيلي القوي الذي بمقدوره أن يقلب الموازين السياسية.
ويحلو للرئيس أوباما كثيراً أن يقتبس في خطاباته من أقوال الزعيم الأمريكي أبراهام لنكولن. غير أنه في الحقيقة أبعد ما يكون عن التشبه بذلك الرئيس التاريخي. لقد وقف لنكولن في وجه العبودية في وقت لم يكن هناك من يفعل ذلك. وكان رجلاً أعطى الصدق والحقيقة الأولوية على المنافع الشخصية. هذا فيما نجد الرئيس أوباما يرفض أن يدين جرائم إسرائيل في أعالي البحار أو على الأراضي الفلسطينية خشية المجازفة بفرص إعادة انتخابه.
إن أوباما إذا ما قرر أن يفعل الصواب بعزيمة وصدق فهو سيحسن من فرصه الانتخابية. حينما قرر الرئيس جورج بوش الأب أن يواجه إسرائيل بخصوص المستوطنات حصل على نسب تأييد شعبي بلغت 90%. ولكن أوباما مع تراجع التأييد الشعبي له حتى قرابة 46% ليست لديه فرص قوية ليبقى رئيساً. على أوباما أن يتحلى بالشجاعة لمواجهة العصابة الإسرائيلية التي تقود بلاده وباقي العالم دون أدنى رفض لها. وصحيح أنه ربما يجد نفسه مضطراً للاختيار بين حليفين لأمريكا، ولكن كما قال رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، ليس المطلوب منه أن يختار بين تركيا أو إسرائيل بل بين الخطأ والصواب.
وأوباما بهذا الموقف لا يخدم مصالح أمريكا. إذ أن اثنين على الأقل من قادة قواته المسلحة قد قالا إن الانحياز الأمريكي لإسرائيل يعرض للخطر المصالح الأمريكية وحياة الجنود الأمريكيين في الشرق الأوسط.
وفي المقابل يستحق الزعيم التركي التحية على اهتمامه بالحاجات الإنسانية لأهالي غزة واستعداده للجأر بالصوت عالياً في وجه القراصنة الإسرائيليين إلى الحد الذي يهدد العلاقات التركية الإسرائيلية وإغضاب واشنطن. وسبق لأردوغان أن وقف بصرامة ضد المذابح الإسرائيلية في غزة وأثبت أنه شجاع بما يكفي ليسمي الأشياء بمسمياتها دون مواربة.
إن من المحرج حقاً أن الزعيم الوحيد في المنطقة الذي يقف بقوة مدافعاً عن حقوق الفلسطينيين هو زعيم تركي. أين هم العرب؟ نعم، فتحت مصر معبر رفح مؤقتاً. نعم، عقد العرب اجتماعاً عاجلاً لوزراء خارجيتهم الأربعاء الماضي، لكن لأي نتيجة؟ هل سيرسلون السفن لكسر الحصار؟ هل ستعمل تلك الدول التي وقعت معاهدات سلام مع إسرائيل على إنهائها؟ لا أظن. بل قررت هذه الدول أن تعمل على محاكمة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية ووعدت بأن تكسر الحصار بكل السبل المتاحة. كلام جميل، ولكن هل سنراه يتحول إلى أعمال؟ لننتظر ونرى!