"وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتاً ومن
الشجر ومما يعرشون . ثم كلى من كل الثمرات فاسلكى سبل ربك ذللاً , يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس , إن فى ذلك لآية لقوم يتفكرون" (سورة النحل 68-69)
بقلم: ليندا هيرد
شكله مثل الذهب الذائب الباهت اللون. وكثيراً ما احتفت به المخطوطات القديمة لمزاياه العلاجية وفوائده الصحية والتجميلية. ولكن في عالم اليوم المدمن على الأدوية الكيماوية والعلاجات الحديثة والمهووس بالتقليل من السعرات الحرارية فقد غفل الناس عن القيمة الكبيرة للعسل.
العسل هو من ألذ الأطعمة وأكثرها نفعاً. وليس هناك ما يدانيه على الفطور مع الخبز المحمص أو ممزوجاً مع اللبن كوجبة خفيفة إلى جانب استخدامه في الكثير جداً من الوصفات. وحتى إن لم تكن من عشاق العسل فلا بد وأنك قد سبق واستخدمته لتخفيف التهاب في البلعوم أو، كما تقول ماري بوبينز، "لمساعدة الأدوية على أن تعطي مفعولها." ولكن قليلون منا يعرفون القيمة الرمزية الدينية للعسل أو استخداماته الكثيرة في تاريخ الشعوب أو ما له من قيمة صحية كبيرة.
ما هو العسل؟
يجمع النحل الرحيق من أزهار النباتات ويحمله إلى خلاياه. وهناك يمضغ النحل الرحيق ويعيده ليكون مصدراً لغذائه. ويخزن النحل هذا الرحيق الممضوغ على شكل عسل في الخلايا الشمعية حيث يضاف إليه عبر عملية المضغ والإرجاع مجموعة من الإنزيمات الضرورية ليتحول إلى عسل.
وتتعدد أنواع العسل وفقاً للطعم والرائحة حسب نوع النباتات والأعشاب التي جمع الرحيق من أزهارها. ويتمتع النحل بالقدرة على التكيف مع طبيعته ولهذا فهو قادر على جمع الرحيق من أزهار مختلف أنواع النباتات والأعشاب مثل أزهار البرتقال والكرز وأصناف الهندباء والخلنج والقرنفل والقطن وغيرها. وأكثر أصناف العسل طلباً عليها هي التي تكون أحادية الزهرة، أي التي جمع النحل رحيقها من مصدر نباتي واحد. ولكن أياً كان الصنف فإن العسل يحتوي على مزيج من سكر الفواكه وسكر العنب وسكر القصب وسكر الشعير والماء.
استخدامات قديمة
تؤكد رسومات أثرية اكتشفت على الصخور في إسبانيا أن البشر عرفوا هذه المادة الغذائية منذ 10 آلاف سنة على الأقل. وفي مصر الفرعونية لم يكن العسل يستخدم مادة للتحلية فحسب بل ولتحنيط الموتى. أما في الدولة الرومانية القديمة فكان العسل بمثابة عملة يسددون به الضرائب المستحقة عليهم كما يقدمونه أعطيات لآلهتهم. ويقال إن الإسكندر الأكبر دفن في كفن مملوء بالعسل. وكان الجنود الرومان يصطحبون معهم قفائر النحل وهم ذاهبون للحروب. والعسل المجموع من أزهار من احد نباتات الفصيلة الخلنجية التي تنمو في منطقة البحر الأسود يكون ساماً وهو ما عرفته جيش القائد الروماني بومباي بعد فوات الأوان حيث أكلوا عسلاً من هذا الصنف وضعه أعداؤهم في طريق تقدمهم. وحتى وقت متأخر في 1489 استخدم الروس عسلاً ساماً كسلاح يضعفون به محاربي التتار قبل الانقضاض عليهم وإبادتهم.
وكان من أعراف اليونانيين في حقبة ما بعد الكلاسيكية أن تغمس العروس أصابعها في العسل قبل الزفاف. كما اعتاد البريطانيون في إنكلترا ما قبل الحقبة الرومانية أن يخمروا العسل لصنع شراب مسكر يمزجونه أحياناً بخمر الميد. وكان رواة الدرويد في أوروبا الوثنية يصفون بريطانيا بأنها "أرض العسل." أما في جنوب الهند فكان قطف العسل من قفائر لنحل البرية من التقاليد المقدسة التي ترافقها شعائر وطقوس دينية على نحو ما كان عليه الحال في ماليزيا القديمة حيث يخرج جامعو العسل في الليالي المظلمة التي يغيب فيها القمر ويعمدون إلى تهدئة النحل بالترانيم والحديث معه بتبجيل وتقديم أنفسهم له باعتبارهم خدماً. وكان من عادة القبائل اليمنية أن تتبادل هدايا العسل لتسوية الخلافات وإحلال السلم بينهم. واليوم يصل سعر كيلوغرام العسل المنتج في حضرموت اليمنية إلى قرابة 200 دولار أمريكي في الإمارات لما يقال عن قدراته العلاجية العجيبة.
المكانة الدينية
العسل موصوف في القرآن الكريم وفي السنة النبوية باعتباره دواء للأمراض وهي حقيقة أكدتها البحوث العلمية الحديثة. وهو أيضاً مذكور في التوراة والإنجيل. وتقول التوراة أن شمشون فتح جيفة سبع فوجدها مملوءة بالنحل والعسل ويقول الإنجيل إن يوحنا المعمدان جال في البراري زمناً طويلاً ولم يكن يقتات سوى على الجراد والعسل. ويعتقد الهندوس أن العسل هو واحد من خمسة أكاسير للخلود.
فوائده الصحية
يذكر لوح مسماري سومري يعود إلى الألف الثالثة قبل الميلاد أن العسل علاج لتقرحات الجلد الملتهبة. وقال أرسطو قبل أكثر من 2000 سنة إن العسل بلسم للجروح والتهابات العين. وقال ديوسقريدس إن العسل ينفع في علاج البهاق وحروق الشمس والتهاب الحنجرة والسعال و"كل التقرحات المتقيحة والمتجوفة." ورأى الطبيب الروماني سلسوس أن العسل يمكن أن يعالج الإسهال. وقد استخدم قدماء المصريين والرومان والإغريق العسل لعلاج آلام المعدة والجروح. كما استخدمه الناس في مالي لعلاج الحصبة حيث كانوا يدهنون به الجلد المصاب وكان علاجاً تقليدياً لتقرحات الأرجل في غانا ولآلام الأذن في نيجيريا. والعسل مكون أساسي في الطب العربي التقليدي حيث يمزج مع أنواع من الأعشاب أو الحبوب مثل الحبة السوداء أو حبة البركة وما يزال حتى اليوم يستخدم لعلاج الربو وأمراض التحسس والمشاكل المعوية.
ولكن حين أخذ الطب الحديث مكان الأطباء التقليديين والعطارين أصبح ينظر إلى القدرات العلاجية للعسل على أنها خرافات. غير أن الدراسات الطبية الحديثة عادت لتؤكد أن العلاج الموضعي بالعسل مفيد في حالات الجروح والتقرحات والأورام. وأشارت دراسات أخرى إلى قدرة العسل على تخفيف التهابات العين والقرحة المعوية وعسر الهضم. كما ثبت أن العسل مفيد في مقاومة التحسس.
مادة تجميلية
عرفت ربات الجمال منذ القدم ما للعسل من قدرات سحرية في الحفاظ على جمالهن. ومنهن الملكة كليوباترا التي يذكر التاريخ أنها كانت تستحم بمغاطس من الحليب والعسل فيما كانت تستخدمه زوجة الإمبراطور الروماني نيرون ممزوجاً بالحليب غسولاً للوجه. واعتقدت الملكة البريطانية آن أن استخدامه ممزوجاً بالزيت يبقي شعرها كثيفاً ولماعاً.
أما اليوم فيشكل العسل أحد المكونات للكثير من سوائل الاستحمام ومستحضرات الشعر ومرطبات الجلد وأقنعة الوجه فيما ما تزال النسوة يستخدمن مزيج الحليب والعسل أقنعة لترطيب الوجه ومع اللوز المطحون وعصير الليمون كمقشر للوجه ومع زيت الزيتون وعصير الليمون لمطرٍ للأيدي والأكواع والكعوب. ولحمام حريري امزجي نصف كأس من العسل مع كأس من زيت اللوز ونصف كأس من الصابون السائل غير المعطر وملعقة طعام من خلاصة الفانيلا.
ولعل أجمل ما قيل في العسل من مأثور القول هو ما كتبه أيه ميلن على لسان الدب المحبوب "ويني بوه" الذي قال: "المعنى الوحيد الذي أعرفه لأن تكون نحلة هو أن تصنع العسل... والمعنى الوحيد لصنع العسل هو أن آكله." ولا شك في أن الملايين يوافقونه الرأي.
