|
انقضت 15 سنة منذ انهار الاتحاد السوفييتي السابق وانتهت
معه الحرب الباردة التي استمرت 45 عاماً بين الاتحاد
السوفييتي والولايات المتحدة. ورأى العالم في سقوط جدار
برلين عام 1989 رمزاً لبداية حقبة جديدة من التعايش السلمي
في العالم. وفيما كان الغرب يحتفل بانتصاره كانت روسيا
تكابد وهي تعمل على تطبيق الإصلاحات الديمقراطية
والاقتصادية. روسيا العاجزة أفسحت الطريق أمام مزيد من
القوة للولايات المتحدة التي أخذت تستعرض قوتها في العالم
لمعرفتها أن لا أحد يستطيع منافستها. خلال هذه السنوات
كانت الولايات المتحدة هي القوى العظمى الوحيدة في العالم.
ولكن كالملاكم المضطر للخروج مؤقتاً من الحلبة بسبب
الإصابة، ها هي روسيا تعود أكثر قوة وغنى وحرصاً على
استقلاليتها كعودة ملاكم من الوزن الثقيل الذي يريد أن
يثبت عودته القوية للحلبة. وهكذا أصبح السؤال هو هل نحن في
مواجهة حرب باردة جديدة؟
البيانات التي تصدر عن روسيا أخذت
تنحو تدريجياً نحو الصدام. وأوضح الرئيس الروسي فلاديمير
بوتين موقفه حينما قال علناً أن "هناك دولة وسعت حكمها
لخارج حدودها الوطنية على كل الأصعدة، في الاقتصاد
والسياسة والقضايا الإنسانية، وتحاول أن تفرض نفسها على
الدول الأخرى،" وأضاف متسائلاً "طيب، من الذي يحب هذا
الوضع؟" ولا يحتاج الأمر لقارئ شديد الفطنة ليعرف من
المقصود في كلام بوتين.
تعبر صحيفة غارديان عن هذه الحالة بالقول إن هناك "شعور
عام في روسيا بأن الولايات المتحدة قد تبرأت من الاتفاق
الذي تم التوصل إليه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بإنهاء
الحرب الباردة." وتنقل الصحيفة عن أحد كبار الباحثين في
مركز نزع التسلح في موسكو قوله أن "روسيا شعرت بخيبة أمل
كبيرة نتيجة ما حدث بعد 1991. لقد بدأ الناتو بالتوسع
وأخذت الولايات المتحدة تعتقد أنها قد انتصرت في الحرب
الباردة. لقد كنا نأمل بالشراكة غير أن ذلك لم يحدث."
لدى روسيا قائمة طويلة من الاعتراضات على إدارة بوش وتبدأ
مما تراه بأنه تدخل واشنطن في الجمهوريات السوفييتية
السابقة مروراً بالموقف العدائي الأمريكي ضد إيران والخطط
الأمريكية لنصب نظام دفاعي ضد الصواريخ في بولندا ونظام
راداري مضاد للصواريخ في جمهورية التشيك.
وقد شبه الرئيس الروسي مؤخراً الأجواء التي تثيرها قضية
الدرع الصاروخي الأمريكي المقترح بالأجواء المشحونة التي
أحاطت بأزمة الصواريخ الكوبية في تسعينيات القرن الماضي
حينما تسخنت الحرب الباردة لدرجة كادت تطلق شرارة مواجهة
نووية. من جانبها تصر الولايات المتحدة على أن الدرع
الصاروخي يعتبر ضرورة لمواجهة التهديدات الإيرانية
والكورية الشمالية.
أما روسيا فتعتقد بأنها هي الهدف الحقيقي للدرع. وهذا
الشعور بالعداء تعزز بتصريحات الحكومة البولندية التي وصلت
حد القول أن بولندا ليست مهددة من قبل إيران ولكنها ترحب
بالنظام الدفاعي المقترح لتحمي نفسها من روسيا. وفي
المقابل هددت روسيا بتوجيه صواريخها نحو مواقع في شرق
أوروبا.
كما أكد بوتين لواشنطن بصريح العبارة أن بلاده لن تقبل
توجيه ضربة عسكرية لإيران وعزز تأكيده هذا بتوجيه دعوة غير
مسبوقة للرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد لزيارة موسكو.
كما ضغط بوتين على مجموعة دول بحر قزوين لإصدار بيانات
تؤكد أنها لن تسمح باستخدام أراضيها أو أجوائها من قبل أي
دولة أجنبية للهجوم على أي دولة من دول بحر قزوين.
وفي نوفمبر الماضي شبه الرئيس بوتين موقف الرئيس الأمريكي
تجاه طهران برجل مجنون "يركض وهو يحمل بيده سكيناً قاطعة
بيده،" وقال بأن العقوبات ستقضي على أي أمل بإجراء حوار
بناء بين إيران والغرب.
وفي واشنطن تقدم أعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي بقانون
يفرض عقوبات على شركات روسية لبيعها أسلحة لإيران وروسيا.
ويقول هؤلاء أن هذه المبيعات تنتهك القوانين الأمريكية غير
أن روسيا تصر في المقابل على أن لا دولة في العالم يمكن
لها تقييد الصادرات الروسية العسكرية التي تصفها بأنها
مشروعة وفق القانون الدولي.
لا ريب في أنه من غير المعقول أن يكون قادة العالم مستعدون
لإقحام دولهم في مواجهة صدامية انتحارية لأي سبب كان. وحتى
خلال أحلك أيام الحرب الباردة حرص القادة الذين تعاقبوا
على جانبي الستار الحديدي على ضبط النفس. ولهذا شعر العالم
بالصدمة وهو يسمع اعتراف الرئيس جورج بوش بأنه قال لقادة
العالم "إذا كنتم مهتمين بتجنب حرب عالمية ثالثة فعليكم أن
تكونوا مهتمين بمنع إيران من امتلاك المعرفة اللازمة
لإنتاج سلاح نووي."
فهل كان هذا إنذاراً لروسيا والصين التين تعارضا إصدار
قرار أممي بفرض عقوبات على إيران؟ أم أنه كان مجرد خطابة
مضخمة الهدف منها أن تكون دعوة لليقظة؟ أياً كانت النية من
ورائه، فقد أعاد لأذهان الشعوب الاحتمال البشع باندلاع حرب
عالمية جديدة باعتباره شيء غير مستبعد.
ومن جانبها حذرت روسيا من انطلاق سباق تسلح غير خاضع لأي
قيود بين روسيا والغرب إن قررت الولايات المتحدة الشروع في
تسليح الفضاء. وقال أحد قادة القوات المسلحة الروسية " نحن
لا نريد أن نخوض حرباً في الفضاء، غير أن عواقب وضع قوة
ضاربة في قواعد فضائية في مدار حول الأرض ستكون خطيرة
جداً."
إن من شأن هذا الأخذ والرد الاستعراضي للقوة أن يفتح الباب
أمام عواقب لا يمكن التنبؤ بها. القاذفات النووية الروسية
عاودت إجراء طلعاتها الكونية مثلما كانت تفعل أيام الحرب
الباردة واقتربت في أغسطس الماضي من جزيرة غوام الأمريكية
في المحيط الهادي لدرجة كانت كافية "لتبادل الابتسامات" مع
طياري حاملات الطائرات الأمريكية. وفي يوليو الماضي أرسلت
بريطانيا مقاتلات تورنادو في طلعة دفاعية لمنع قاذفات
روسية من دخول الأجواء البريطانية.
ماذا لو قرر أحد أولئك الطيارين على الجانبين أن يشتبك
بقوته النارية معتقداً أن بلاده تتعرض لتهديد؟ عواقب مثل
هذا الاحتمال لا يمكن تخيلها بالنظر للتوترات الحالية.
في 2006 عادت روسيا لعادتها السابقة في إجراء الاستعراضات
العسكرية أمام الكريملين بهدف استعراض قوة وغنى البلاد
المستعادين. كما أجرت القوات الجوية الروسية هذا الخريف
مناورات عسكرية كبرى وأرادت أن تكون متزامنة مع مناورات
عسكرية أمريكية. كما أجرت روسيا مناورات عسكرية قرب ألاسكا
وهو ما جعل الولايات المتحدة ترد بعصبية لها ما يبررها.
تحالف روسيا مع الصين هو سبب آخر يثير انزعاج واشنطن. وعن
ذلك تقول سارة ماندلسون من مركز الدراسات الإستراتيجية
والدولية أن "الروس مرة بعد أخرى أخذوا يكررون تصويتهم مع
الصين على مختلف القضايا" في المنظمات الدولية مثل مجلس
الأمن الدولي.
كما كانت روسيا تعمل على تحسين علاقاتها بالهند التي تتهم
بأنها تلعب على الحبلين مع الروس والأمريكان. وقد قام
الرئيس الهندي مانموهان سينغ بزيارة موسكو في نوفمبر بهدف
تعزيز علاقات البلدين في مجال الطاقة والدفاع.
وهناك العديد من مواطن الخلاف الأخرى بين موسكو وواشنطن
ومن بينها خلاف الدولتين على مستقبل كوسوفو الذي تفضل
الولايات المتحدة والغرب أن تراه وقد أصبح دولة مستقلة.
وقد هدد وزير الخارجية الروسي باستخدام الفيتو ضد أي قرار
دولي يعرض على التصويت في مجلس الأمن الدولي بدعم استقلال
كوسوفو. وقال: "هذه قضية تتعارض المواقف بشأنها بشدة."
من الجانب الأمريكي تصدر اتهامات ضد روسيا بالتدخل السري
في الشؤون الداخلية السياسية لجمهورية جورجيا كما اتهمت
واشنطن قوة حفظ السلام من كومنولث الدول المستقلة ومعظمها
من الجنود الروس بدعم الانفصاليين في جمهوريتي أفخازيا
وأوسيتيا الجنوبية.
ويقول الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي أن روسيا تواصل
محاولاتها للإطاحة بحكومته الراغبة في الانضمام إلى حلف
الناتو وذلك بتمويل جماعات المعارضة والمتظاهرين المناوئين
للحكومة. وأوضحت روسيا بجلاء أنها لن تسمح باقتراب قواعد
وجنود الناتو من حدودها إلى هذا الحد.
وتشعر روسيا بالغضب من الولايات المتحدة لأن الأخيرة
تستخدم نفوذها من أجل إبعاد مسارات خطوط نقل مصادر الطاقة
عن الأراضي الروسية.
كما اتسمت علاقات روسيا مع بريطانيا بالتراجع منذ اكتشفت
الاستخبارات الروسية أن موظفين في السفارة البريطانية في
موسكو يقومون بإخفاء أدوات تنصت داخل صخرة مصطنعة. كما
ازدادت العلاقات سوءاً لرفض موسكو تسليم مواطن روسي مشتبه
به في قضية تسميم عميل سابق للكيه جي بي في لندن.
ولم يخف بوتين أسفه على تفكك الاتحاد السوفييتي وهو يعمل
على استعادة أكبر قدر ممكن من النفوذ لروسيا. ولتحقيق هذا
الهدف يستخدم بوتين الثروات الضخمة التي تجنيها بلاده
نتيجة ارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي التي تشكل 75 في
المئة من إجمالي الناتج القومي الروسي. واستطاع بوتين أن
يحقق شعبية كبيرة بين مواطنيه خلى السنوات التي قضاها في
الرئاسة لنجاحه في رفع مستوى حياة الروس وإعادة الإحساس
بالكرامة لهم.
ويعبر دانييل فريد، مساعد وزير الخارجية للشؤون الأوروبية
والأوروآسيوية، عن هذا الوضع بالقول أمام لجنة من مجلس
الشيوخ مؤخراً "أن النظام الأوروبي الجديد الذي برز في
تسعينيات القرن الماضي كما يراه الكثيرون من الروس قد تم
فرضه في ظرف كانت تعاني فيه روسيا من الضعف والهشاشة...
وهم ينظرون بعين الشك للدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة
والاتحاد الأوروبي للطموحات الأطلسية والأوروبية لدول
الاتحاد السوفييتي السابق.
ويضيف: "هذا النظام في نظر الكثير من الروس لم يكن عادلاً.
ويعتبرونه مرحلة من المصاعب التي تعرضوا لها والتي لابد من
مواجهتها ودحرها. إننا نشهد رد الفعل المضاد."
ويعتقد فريد أن الروس ينظرون إلى بوتين على أنه "الرجل
الذي أعاد إرساء النظام وبنى الدولة، كما يرون فيه على
الصعيد الدولي زعيماً استطاع أن يوقف الانكفاء القومي
لبلادهم ويسعى لاستعادة ما ضاع. الروس يعطون الفضل في
استعادة العزة الوطنية لبوتين."
غير أن بوتين سيرحل عن منصبه الرئاسي في الربيع المقبل،
فالدستور الروسي يقول إن الرئيس يجب ألا يترشح لأكثر من
ولايتين رئاسيتين. ولكن بحصول بوتين على شعبية تصل إلى 70
في المئة، يعتقد المراقبون أنه سيواصل التحكم في سياسة
البلاد من وراء ستار منصب آخر إلى أن يتمكن من الترشح
للرئاسة مرة أخرى في 2012.
وأياً كان الذي سيحدث، يتوقع أن يواصل خلفه على الخط
المتشدد الذي اختطه بوتين، ومثلما قال بوتين في نوفمبر
خلال زيارته لسيبيريا فإن من شأن نصر انتخابي كبير لحزبه
أن يعطيه "الحق الأدبي" في محاسبة النواب والمسؤولين
الحكوميين بخصوص تطبيق سياساته.
هناك شيء مؤكد في خضم كل تلك التحولات، وهو أن الدب الروسي
قد استفاق من سباته الشتوي وأخذ يرعد بعالي الصوت. ولا
نعرف بعد إ، كان المستقبل يتحرك باتجاه تجدد التعايش أو
حرب باردة جديدة أو تدهور كبير للعلاقات بين القوتين أو
حتى مواجهة عسكرية.
روسيا تطالب بمعاملتها باحترام وستجد الولايات المتحدة
نفسها في نهاية المطاف مضطرة للتكيف مع حقيقة أنها لم تعد
القوة الوحيدة في الساحة.
|