|
منذ أن رأيت صورة كثبان رملية عظيمة وأنا طفلة، أصبح
حلمي أن أمتع عيني برؤيتها حقيقية في الطبيعة. وكان ذلك
أحد الأسباب التي دفعتني لآتي إلى الجزيرة العربية. كانت
تلك الجروف الحادة والمتلوية من الرمال الناعمة مشهداً لا
أستطيع مقاومة الرغبة في معايشته.
وذات
يوم أخبرني صديق يعمل في مركز لبحوث الحياة البرية أنه رأى
ثعالب صحراوية (فولبيس روبيللي) خلال إحدى رحلاته في
الصحراء. حينها رجوته أن يأخذني إلى المكان الذي رأى فيه
هذه الثعالب، ووافق لنخرج في إحدى العطلات بسيارتي دفع
رباعي اثنتين مع تجهيزات تخييم ومعدات نجاة كاملة. من
مدينة العين انطلقنا جنوباً حتى بلغنا آخر قرية على حواف
الربع الخالي. ومنها تحركنا عبر مسار يمر بين كثبان رملية
ضخمة. تتشكل تلك الكثبان الهلالية بفعل الريح ويمتد طرفاها
وفق اتجاه الريح. ويكون سفحها الجنوبي الغربي المواجه
للريح شديد الانحدار ويستحيل عملياً صعوده بالسيارة. أما
الجمال فتستطيع الصعود على هذه الكثبان من هذا الاتجاه رغم
أنها تفضل عبورها من الطرف الجنوبي الشرقي.
حالما صعدنا أول كثيب واجهنا من سفحه الأقل انحداراً
المعاكس لاتجاه الريح، لم يعد متاحاً لنا خيار الرجعة،
فإما أن نواصل بالسيارة فوق أمواج الرمال تلك أو أن نعود
مشياً. على قمة الكثيب أوقف سائقنا الخبير بالقيادة في
الصحراء سيارته ليستطلع الدرب. بدت حافة الكثيب حادة مثل
الشفرة والرمال عميقة ورخوة. كان المشهد أمامنا مخيفاً.
على امتداد النظر كانت الكثبان تمتد واحداً بعد الأخر.
قريباً منا كنا نرى الأشكال المتكررة التي تصنعها الريح في
الرمال حيث نحتت فيها أمواجاً صغيرة جميلة وحواف متلوية.
ولم يكن النباتات تظهر إلا في المنخفضات بين الكثبان.
ومن الحافة في الأعلى كان النزول بالسيارة على الجانب
المنحدر عملاً مخيفاً ومثيراً. مقدمة السيارة كانت تبدو
وكأنها ستغرس في الرمال وأن السيارة ستأخذ في التشقلب نحو
الهاوية في أي لحظة. ثم بدأت الأرض تنبسط وأخذنا نتحرك على
قاع أكثر ثباتاً من الرمال المضغوطة على منبسط ملحي بين
الكثبان.
استمرت رحلتنا عدة ساعات أمضيناها ونحن نرتفع ثم ننخفض فوق
الكثبان التي تفصلها بعض المسطحات المنبسطة. كانت السيارة
مجهزة بنظام تحديد الموقع العالمي وبالتالي كنا نعلم في كل
لحظة أين نتحرك. وأصبح الوقت قريباً من العصر حينما قال لي
صديقي باتريك أننا وصلنا المكان المقصود الذي رأى فيه
الثعالب الصحراوية. كان المكان يتوسط منبسطاً ملحياً
واسعاً توجد فيه بعض الشجيرات المتفرقة. نزلنا بأجسادنا
المرهقة من السيارة وبدأنا نبحث هنا وهناك على الأرض عن أي
آثار أقدام أو أي إشارة عن وجودها، غير أن الريح لم تكن قد
تركت أي أثر على الأرض.
حينها قررنا أن نضرب خيامنا ونبدأ بإعداد وجبة العشاء. كان
ذلك في شهر فبراير حيث النهارات قصيرة وما إن تغيب الشمس
حتى يصبح الجو شديد البرودة. وقبل حلول الظلام بدأنا نجمع
بعض الحطب وروث الجمال الجاف لإيقاد النار. أخذنا حطبنا من
بعض شجيرات العرطة الكبيرة وشجرة غاف وحيدة كتب لها أن
تعيش في هذه الأجواء القاسية وتبلغ حجماً كبيراً.
ركبنا السيارة أنا وباتريك وتركنا خلفنا هدير النار لنبتعد
قليلاً عن ضجيج المخيمين لنجول قليلاً في المكان. وتحت
كشاف السيارة العلوي القوي ظهرت أمامنا أرنبة برية (ليبوس
كابينسس). لم يكن قد سبق لي وأن رأيت أرنباً برياً يقبع
مسترخياً. عادة ما نرى ظهورها فقط وهي تقفز هاربة. أما تلك
فكانت تقعد سالية عن الضوء الذي أخفى وجودنا عن عيونها وهي
تقضم أوراق شجيرة برية أشبه بالخرز. ثم تمشت بتؤدة نحو
شجيرة أخرى قريبة. وما فاجأني هو أنها لم تتحرك قفزاً.
أما أبو بريصات الرملية فكانت تعدو كالبرق فوق الرمال
المنبسطة وتختفي في جوف نباتات البردي. باتريك شاهد بومة
ترفرف فوق الكثبان أما أنا فلم يساعدني بصري على رؤية أي
شيء خارج بقعة ضوء الكشاف. ولم يكن هناك أي أثر لثعالب
الصحراء.
ثم أخذ باتريك وأحد زملائه في حفر أفخاخ رملية لإمساك أي
مخلوق قد يقع فيها. وبعدها مضينا للنوم مبكرين في أكياس
النوم. كانت لدي خيمة نفخ صغيرة نمت فيها ورأسي يكاد يكون
خارجها، ولذا أخذت أراقب النجوم المتلألئة في السماء
الصافية.مجرة درب اللبانة بدت وكأنها وشاح عروس أبيض تشعر
لقربه أنك بمقدورك أن تطاله بيدك. شاهدت مجموعة الدب
الأكبر وبتمديد الجانب الأقصر من المجموعة خمس مرات وجدت
نجم الشمال تماماً حيث يفترض أن يكون. وعند نجم الشمال
غفوت.
حين أفقت في الصباح كانت الضوء قد بدأ يلوح في أقصى الشرق
من السماء، ومع تراجع سواد الليل أخذت الألوان الفضية
الوردية والذهبية الخفيفة تلون السماء والندى الثقيل
الواجم فوق الكثبان. وكلما اشتد الضوء كان الندى يصبح أخف
وكأنه أذيال ثوب راقصة الباليه الرقيقة. لم يكن لذلك
العالم حدود أو صوت، بل أضواء وألوان تطوف في الأجواء.
ارتفع قرص الشمس شيئاً فشيئاً فوق الأفق واختفت رطوبة الطل
معها لتكشف عن الكنوز التي كانت تخفيها: قطرات ندى بلورية
ترتعش على كل ورقة شجيرة وعشبة على الأرض، قطرات تهب
الحياة، كنز ثمين في هذه البرية القاحلة.
خنفساء صحراوية هناك على الرمال، رأسها ملتصق بالأرض
وظهرها منتصب للأعلى. قطرات ندى صغيرة تكثفت على ظهرها
اللماع وتنزلق منه نحو فمها لتعطيها الماء الذي تحتاجه
لتحيى وترى نور يوم جديد.
شبكة عنكبوت كانت تتأرجح وكأنها عقد من أحجار بلورية بين
نبتتين من أعشاب الصحراء لتغري الحشرات بالاقتراب بوعد
الحصول على تلك القطرات من الماء.
وفي كل مكان حول خيمتي الصغيرة كانت آثار أقدام الثعالب
الصغيرة واضحة حتى قرب المكان الذي كان فيه رأسي أثناء
نومي. لقد زارتني ثعالب الرمال، لكني لم ألحظها.
حينها تذكرت ما قاله لي أحد الأصدقاء عن أنه استيقظ من
نومه ذات مرة خلال رحلة من رحلاته في الصحراء ليجد ثعلباً
واقفاً على صدره يتفحص وجهه بلسانه الصغير! واضح أن
الثعالب في هذا المكان جريئة، ومن يعرف، ربما اقترب أحدهم
بخطمه ليلاصق به وجهي. لقد أحزنني أنني نمت كل تلك
الساعات.
كانت هناك آثار أخرى على الرمال خلفتها حركة المخلوقات
الليلية. وعلى سبيل المثال كانت آثار الأرنبة البرية التي
رأيناها في الليلة السابقة شبيهة بآثار قطة صحراوية مرت في
المكان، فكلاهما لديه شعر كثيف في الأقدام ما يوفر لهما
عازلاً حرارياً جيداً عن الرمال المحرقة التي يمشيان عليها
كما يساعد أقدامهما لئلا تسيخ في الرمال الناعمة.
كما ترك
ثعبان وراءه أثره على شكل سلسلة من الخطوط العرضية
المتواصلة. وفي إحدى الأماكن شاهدت أثراً نموذجياً لأفعى
بكاملها حيث كانت قابعة ملتفة حول نفسها تحت الرمال تنتظر
مرور فريسة قريباً منها.
ولوهلة تركني نمط خلفه أحد الحيوانات على شكل أزواج من
الطبعة البيضاوية محتارة فيها إلى أن تذكرت أن الجربوع (جاكولوس
جاكولوس) يتحرك قفزاً على طرفيه الخلفيين وهو ما أعطاه لقب
"الفأر الكنغر."
الأفخاخ الرملية التي نصبت الليلة الماضية أوقعت عدداً من
المخلوقات فيها: خنافس وعناكب ونوعين من أبو بريص. أحد
النوعين وهو أبو بريص (ستينوداكتيليس دوريا) كان جميلاً
جداً برأسه الكبير وعينيه الذهبيتين الضخمتين. أما جسده
فكان بين الأصفر والأبيض مبقعاً بالبني. ووقف أبو بريص
طواعية لآخذ له بعض الصور. أما النوع الثاني (ستينوداكتيليس
أرابيكوس) فلم يكن طوله يزيد عن نصف الإصبع وجسده نحيل
جداً لدرجة أنه كان شفافاً حيث تمكن رؤية أحشائه تحت جلده.
النوعان معروفان في المنطقة وبالتالي لم يكن هناك ما يمكن
اعتباره كشفاً جديداً. ومع ذلك كان باتريك يسجل كل
مشاهداته في دفتره. إذ حتى عدم وجود حيوان ما في منطقة
معينة يعتبر معلومة جديدة.
بعد أن أخذنا كل الصور التي نريدها توجب علينا أن نتابع
رحلتنا إذا ما أردنا ن نعود ثانية إلى العالم المعمور
بالبشر مساء ذلك اليوم. لقد بدأت أشعة الشمس تصبح لاسعة
حتى في ذلك الوقت من السنة.
أخذ ضوء النهار يصبح مبهراً وهو ينعكس على السطح الفضي
للسبخات بين الكثبان الرملية حيث كانت بضع جمال ترعى ما
تيسر لها من أعشاب. النبات الموجود في المنطقة والذي يكاد
يكون مسيطراً عليها هو ما يسموه البدو نبات الحرم.
والسوائل الموجودة في أوراق هذا النبات تسبب الإسهال حين
أكلها.
ومن بعد كانت سيقان الجمال تبدو طويلة وتخوض في مسطحات
مائية زرقاء. غير أن هذا لم يكن سوى سراب، إذ ليس هناك ماء
في هذه الصحراء.
ومن حين لآخر كانت تظهر بعض الأجمات الصغيرة من النباتات
ذات الأزهار الصفراء لتصنع بقعاً من اللون المغاير في تلك
الامتدادات من لون الرمل الطاغي على المكان. هذا النبات هو
القطب واسمه العلمي تريبولوس أومانينس ويعتبر مرعى محبباً
للمها العربي الذي يعيش في هذه الأنحاء. وقد شهدت السنوات
اللاحقة إطلاق أعداد من الريم والمها العربي في تلك
المنطقة التي تجولنا بها وسيكون شيئاً عظيماً بالفعل أن
نرى قطيعاً من المها يتجول في تلك المسطحات بين الكثبان.
وفيما كنا نتقدم بالسيارة لمسافات طويلة على امتداد
المسطحات بين صفوف الكثبان شمالاً نحو الساحل، توقفت
السيارة التي في المقدمة فجأة.
ثم أشار باتريك نحو تلة صغيرة على شكل جحر هلالي. وقال
"رأيت بومة صغيرة تنزل في الجحر. لنرى إن كان هناك أي بعر
بوم هناك. قد نجد في البعر عظام أي فريسة ربما يكون البوم
قد افترسها."
وما إن بدأنا نمشي نحو التلة أحسسنا بحركة على شمالنا.
مخلوق صغير ذي فراء كان يركض من جحر لآخر. سألت متفاجئة
فيما كان آخر يركض بأسرع ما تستطيع أقدامه الصغيرة "ما
هذا؟"
أجاب باتريك شارحاً "إنها جراء ثعلب الصحراء." ويا لسعادتي
بذلك حينما قال "لنذهب ونرى إن كنا نستطيع أن نقترب منها
أكثر."
زحفنا بأسرع ما نستطيع نحو الجحر ونحن نحاول الاختباء خلف
الشجيرات أو الأعشاب. وعلى مسافة أربعة أمتار من الجحر
تقريباً أخفينا أنفسنا بالرمال وانتظرنا. لم يمض وقت طويل
حتى أطلت الثعلبة بوجهها المتوجس من فتحة الجحر. يبدو أنها
لم تشاهدنا أو تشمنا وعادت لداخل جحرها مطمئنة على ما ظهر
لنا.
بعدها خرج أول جرو من الجحر وتبعه الثاني. توقفا عند فتحة
الجحر وأخذا يستمتعان بأشعة الشمس. بدأنا أنا وباتريك نأخذ
لهما الصور، بحذر شديد. في كل مرة كان مغلاق الكاميرا يطبق
كانت الجراء تقفز قليلاً بعيونها الذاهلة قبل أن تعود
وترقد نائمة من جديد. كان فراؤهما الرقيق بالكاد يغطي
رأسيهما الصغيرين وبطنيهما. كانت رؤيتهما جائزة مستحقة لنا
بعد عناء الرحلة المضنية والطويلة.
عندما اقترب الليل كنا قد وصلنا الطريق الإسفلتي الذي
أخذنا شمالاً نحو الساحل. رحلة مثل تلك ليست بالشيء الذي
يمكن التعامل معه باستهانة. السائق يجب أن يكون خبيراً في
التعامل مع الرمال كما يتوجب أخذ كميات إضافية من الوقود
والماء إلى جانب مستلزمات الإسعافات الأولية متضمنة علاجات
اللسعات وحروق الشمس. حيوانات الصحراء لا تشكل خطراً
مهلكاً للبشر (رغم أن المرء يجب أن يتجنب الدوس على
الأفاعي!) غير أن الشمس حارقة وخطيرة. والخطر الأكبر هو أن
يتيه الإنسان في تلك الصحراء ولهذا فإن الأفضل اصطحاب جهاز
تحديد الموقع دوماً.
كلام الصور:
1. جرو ثعلب صحراوي عند مدخل الجحر
2. قطيع جمال في إحدى السبخات
3. الجربوع، جاكولوس جاكولوس
4. كثبان رملية ضخمة جنوب مدينة العين
5. كثبان ليوا تحت رطوبة الفجر
6. شجيرة في السبخات، زيغوفيلوم
7. القطب، مرعى المها
8. أثر ثعبان على الرمال
9. أبو بريص الصحراء، ستينوداكتيليس دوريا
10. ثعبان صحراوي، سيراستيس غازبيريتي، يبتلع أبو بريص
11. أبو بريص، ستينوداكتيليس أرابيكوس
|