مثلما أصبحنا نعرف جميعنا فإن عدداً من المصارف الغربية قد انهار
أو جرى تأميمه جزئياً أو كلياً أو ما يزال في غرفة الإنعاش. ولم
تكن ترليونات الدولارات التي ضختها الحكومات في عروق النظام المالي
أكثر من محاولة لوقف النزيف. غير أن هذه المبالغ الخيالية لن تكون
وحدها كافية لحماية عافية هذا النظام على المدى الطويل.
وحتى وقت كتابة هذه السطور هناك ساسة وخبراء ماليون ورجال أعمال
يجتمعون للتباحث في هذه القضية شديدة التعقيد التي يطالنا جميعنا
أثرها. غير أن ما لا يمكن الجدل فيه مهما اختلفنا بشأنها هو أنه من
غير المسموح به أبداً السماح بأن تتهاوى المصارف ثانية لأنها تشكل
القلب النابض لأي اقتصاد.
صحيح أني أتعاطف مع موقف الناس العاديين الذين يعترضون على أن يعطى
ما دفعوه من ضرائب لمؤسسات مالية يعتقدون أنها كانت في الأساس سبب
هذه الأزمة، إلا أنه ليس هناك من بديل آخر لأن النظام المالي إذا
انهار فلن يكون أحد محصناً من تبعات الانهيار.
كما أن النقاد الذين يجادلون بأن التدخل الحكومي يناقض المبادئ
الجوهرية للرأسمالية غير محقين في هذا الطرح لأن أحداً يجب ألا
يناقش فيما إذا كان من المفترض إنقاذ الموجودين في بيت يحترق أم
لا.
وبرأيي لم يكن من المفترض أن تقف الحكومة الأمريكية جانباً وهي ترى
بنك ليمان براذر يعلن إفلاسه كما كان من المتوجب على الحكومة
البريطانية أن تتحرك بسرعة أكبر لإنقاذ بنك نورثيرن روك لأن ذلك
ربما كان له أن يمنع حدوث حالة الذعر. منذ بعض الوقت وأنا أتناقش مع بعض الأصدقاء والمستشارين والزملاء
فيما يتوجب فعله لاستعادة الثقة بالمصارف باعتبارها الحراس
الموثوقين لثرواتنا. واستعرض لكم فيما يلي ما خرجت به من أفكار.
العودة للأصول
إن أي قاموس سيضع تعريفاً للمصرف على أنه "مؤسسة يستثمر الناس
والشركات فيها أموالهم أو يقترضون منها المال أو يصرفونه بعملات
أجنبية..." صحيح أن هذا الوصف ما يزال ينطبق على الأعمال الأساسية
للكثير من المصارف غير أن المصارف أصبحت بمرور الزمن أقل تحفظاً في
تعاملاتها. وحتى وقت قريب جداً كانت المصارف تعمل بلا هوادة لتسويق
قروضها وبطاقاتها الائتمانية لعملاء بالكاد يستطيعون سداد هذه
القروض وتستثمر أموال عملائها في أعمال عالية المخاطر.
بل إن بعض المصارف قد عملت على وسعت نطاق أعمالها بحيث أصبح بالكاد
ممكناً تسميتها "مصارف". وربما يكون الوقت قد حان لأن تعيد تنظيم
عملياتها وتعود لأدوارها المصرفية التقليدية.
وحين نأخذ بعين الاعتبار أن الشرارة الأولى لهذا الاضطراب كانت
أزمة الديون دون الممتازة، فإن "العودة للأصول" تعني ضرورة أن
تلتزم المصارف بأحكام الإقراض السابقة التي تقول إن القروض تعطى
فقط للعملاء ذوي الجدارة الائتمانية مقابل ضمانات مناسبة أو خطط
أعمال حصيفة.
الحفاظ على السيولة والرسملة
يجب على المصارف أن تستبقي لديها بمعدلات قوية من السيولة لمواجهة
الحالات الشبيهة بتلك التي نعيشها حالياً حيث ترفض المصارف توفير
القروض لبعضها البعض. ولعل من المفيد هنا أن تجعل الحكومات تقديم
خطط الإنقاذ المالي مشروطاً بعودة الإقراض بين المصارف إلى حالته
الطبيعية.
كما يجب على المصارف أن تضمن احتفاظها برسملة كافية تمكنها من تحمل
الخسائر غير المتوقعة دون الحاجة لاتخاذ قرارات متسرعة بزيادة
رساميلها. ولتحقيق هذه الغاية يتعين على الجهات الدولية الناظمة
لعمل المصارف أن تتفق على تعريف مصطلح "الشريحة الأولى من رأس
المال"- وهي قدرة المصرف على تحمل خسائر مستقبلية بناء على معدل
رأسماله المساهم إلى أصوله المحسوبة تبعاً للمخاطر.
معاودة الإقراض
المصارف يجب ألا توفر القروض لبعضها البعض وحسب بل وللأفراد
والشركات من ذوي الجدارة الائتمانية. والاقتصادات لن تزدهر ما لم
يعد النقد يسيل في عروقها. وعلى سبيل المثال، تعاني صناعة السيارات
الأمريكية نتيجة عدم حصول الناس على تمويل لشراء السيارات.
كما يتعين على المصارف أن تنقل أسعار الفائدة المخفضة إلى عملائها
ليتمكنوا من شراء البيوت أو إعادة تمويل بيوتهم. وهذا الأمر يعتبر
شرطاً مسبقاً ليستعدي سوق الإسكان عافيته.
الرقابة والتنظيم
في كل قطاع اقتصادي هناك أوجه نقص ونسبة صغيرة من الفاسدين. وقطاع
المصارف والتمويل ليس استثناء. ولهذا يجب إصدار القوانين اللازمة
لمحاسبة المسؤولين في الصناعة المصرفية عن الممارسات الفاسدة أو
التقاعس عن أداء الواجب.
إن مدراء المصارف التي تتطلب الآن تدخلاً حكومياً لإنقاذها يجب
تغييرهم كشرط لتقديم خطط الإنقاذ. كما أن مسؤولي المصارف الذين
خضعوا لضغوط المنافسة في السباق مع منافسيهم فتورطوا في مغامرات
خطرة تجب مساءلتهم لمعرفة مدى تورطهم في هذه الأصول السامة. وإن
تبين أنهم مذنبون فتجب معاقبتهم ليكون ذلك رادعاً لغيرهم.
على السلطات التشريعية أن تكون أكثر صرامة وأن تضع أنظمة شديدة
الوضوح لتضع حداً لمستويات الاقتراض التي يمكن لأي مؤسسة أن
تستخدمه في عملياتها الاستثمارية بالقياس إلى رساميلها. ويتعين على
المدققين الماليين أن يكونوا شديدي الحرص والدقة في أداء عملهم كما
تجب معاقبة وكالات التصنيف الائتماني لإعطائها تصنيفات عالية مضللة
لاستثمارات مشكوك فيها. وهذا الواقع هو ما يعبر عنه صديقي وعضو الكونغرس الأمريكي السابق،
بول فيندلي، بالقول إن هناك "قصوراً إجرامياً في التشريعات
المصرفية" حتى الآن. وهذا ما أوافقه عليه تماماً.
إيقاف الجشع
لقد رفل رؤساء ومدراء المصارف بالنعمة طويلاً حتى الآن. صحيح أن من
حق هؤلاء الحصول على مكافآت عادلة مقابل خدماتهم المقدمة لمساهمي
وعملاء مصارفهم ولكن هذا لا يعنى الحصول على حوافز سنوية بملايين
الدولارات، وفي بعض الأحوال تعويضات إنهاء خدمة بملايين الدولارات
أيضاً. إن رؤية رئيس تنفيذي لمصرف مفلس وهو يترك عمله محملاً بالملايين هو
شيء فاجر حين يجد العملاء أنفسهم يعانون الأمرين لمجرد استعادة
مدخراتهم التي كسبوها بالجهد والعرق.
عوامل أخرى حاسمة
الانتعاش الاقتصادي على كل حال ليس مسألة ممسوكة بالكامل بيد
المصرفيين. ذلك أن على المستثمرين الموسرين والصناديق السيادية
وغيرها من الصناديق المالية الكبيرة استعادة الأنفاس ومعاودة
نشاطاتهم الاستثمارية. إذ حالما ينظر المستثمرون الصغار إلى
المستثمرين الكبار وهم يعودون إلى نشاطهم سيستعيد السوق الثقة
المفقودة.
وأخيراً يتعين على الإعلام أيضاً أن يتوقف عن هذا الدفق المتواصل
من الأخبار المالية المخيفة التي أصبحت مزمنة لدرجة أنها يمكن أن
تهدد المصارف والشركات والمؤسسات التي هي في الأساس عفية وفي حالة
طيبة. معظمنا يؤيد حرية الإعلام ولكن في وقت يمر فيه الاقتصاد
العالمي في عنق زجاجة ضيقة فإن الصحف والتلفزيونات ملزمة أخلاقياً،
إن لم يكن قانونياً، مع أولئك الذين يبذلون قصارى جهودهم لجعله يقف
على قدميه من جديد.
قد يكون هناك من يطالب الحكومات بشد الحبل للإعلام. غير أن هناك
بديل آخر وهو جعل وسائل الإعلام تدفع ثمناً مالياً لأي إشاعات لا
أساس لها تنشرها أو تبثها ويكون لها أثر سلبي على المؤسسات
المالية.
لا أريد أن أفرط في الوصف الدرامي لما يجري، ولكن الجو السائد
حالياً شبيه بجو الحرب. وحياة الناس وأرزاقهم هي التي على المحك
الآن كما أن مستقبل وثروات شعوب بأكملها أصبحت في الميزان. يجب أن
نبدأ في إعمال التغيير المطلوب الآن. وإلا فإن الديون الثقيلة
والمستقبل الضبابي هما التركة التي سنخلفها لأبنائنا. وإن لم نتصرف
بحكمة أشك في أن أبناءنا سيغفرون لنا تقاعسنا. بل أشك أننا نحن
سنغفر لأنفسنا هذا التقاعس.
|