اتسود الأسواق العالمية حالة من الجنون لدرجة أن خبيراً مالياً دعي
لتقديم رأيه على قناة سكاي نيوز التلفزيونية اعترف بأنه لم يعد
باستطاعته تنبؤ أي توقعات وأضاف لو أن رجالاً خضراً صغار من المريخ
دخلوا الاستديو لما استغرب ذلك أبداً. يبدو لي أنه ليس هناك من تفسير أو مبرر لهذه الفوضى العالمية التي
تؤثر على الجميع ابتداء من الناس العاديين الذين يكابدون لسداد
أقساط قروضهم العقارية وحتى الشركات الصغيرة الناجحة التي تلهث
للحصول على قروض مشروعة. الرأي السائد يقول إن الأمر كله كان نتيجة لخطأ المقرضين غير
المنضبطين. فهؤلاء أغرقوا سوق الإسكان بقروض ذات أسعار فائدة
منخفضة وغير ثابتة دون الاكتراث كثيراً بمن يحصل على هذه القروض ثم
دمجوا هذه القروض العقارية دون الممتازة مع سندات مالية أخرى
وباعوها للمؤسسات المالية في كل أنحاء العالم.
لا أحد يشك في أن هذه الممارسات الفاسدة قد حدثت ولكن هل يريدون
منا أن نصدق أن أسعار المساكن الأمريكية المتراجعة والمتخلفين عن
سداد أقساطهم هي التي سببت انهيار كبرى بيوتات المال والمصارف
وجعلت غيرها تترنح في محاولة الصمود؟ هناك شيء ما غير سويِّ وراء
كل هذا. بصراحة ودون مواربة يصعب التصديق بأن قروض السكن الأمريكية غير
المنضبطة يمكن أن تدفع بدولة مثل آيسلندا للإفلاس أو تجبر بلجيكا
ولكسمبورغ وهولندا على ضخ المليارات لإنقاذ بنك فورتيس العملاق.
ومن كان له أن يتوقع وهو في كامل عقله أن بنك يو بي
إس، أكبر المصارف السويسرية، سيأتي عليه اليوم ليستجدي من الحكومة
السويسرية 5.3 مليار دولار لتنقذه من أزمته المالية؟ لقد صمدت
المصارف السويسرية في حربين عالميتين وطالما كانت سويسرا ملاذاً
آمناً للمال وهو ما يجعل هذه الأخبار التي نسمعها أبعد عن التصديق.
ولو فكرنا للحظة في الأموال الهائلة التي تضخها الولايات المتحدة
وأوروبا وبريطانيا في أنظمتها المالية لإبقاء المصارف صامدة لوجدنا
أن إجمالي هذه المبالغ تصيب العقل بالذهول.
في سبتمبر الماضي ضخ المصرف المركزي في اليابان أكثر من 26 مليار
دولار في الأسواق للتخفيف من تبعات إفلاس ليمان براذر. وأتبعت
الولايات المتحدة ذلك بخطة إنقاذ خصصت لها 700 مليار دولار قبل أن
تخصص بريطانيا 500 مليار جنيه إسترليني وفرنسا 360 مليار يورو
وألمانيا 500 مليار يورو ضمن خطة أوروبية أوسع.
ولكن مع تواصل هبوط أسعار أسهم المصارف التي تدفع البورصات بدورها
لمزيد من الانخفاض على الرغم من كل الجهود التي تبذلها الحكومات،
تبدو خطط الإنقاذ هذه التي تجاوز إجماليها ترليوني دولار وكأنها
ليست سوى ضمادات. وفي ضوء تقديرات الخزانة الأمريكية التي ذكرت أن
أكثر من 93% من مشتري البيوت يسددون أقساط قروضهم في مواعيدها" فإن
من الصعب فهم السبب الذي يمنع هذه المبالغ الضخمة من تحقيق الغرض
المطلوب منها.
ما الذي يجعل المصارف التي أغرقتها الحكومات بأموال دافعي الضرائب
تواصل إحجامها عن إقراض بعضها البعض وإقراض مشتري المساكن
والشركات؟ لما يسمح لهذه المصارف أن تستبقي الأموال لديها وتطيل
بذلك أزمة السيولة؟ إنها تقطع متعمدة الدماء عن بلدانها وتمنعها من
معاودة التدفق في شرايين إقتصادياتها لتستعيد عافيتها ولكن مع ذلك
تنجو بفعلتها هذه.
منذ شهور فحسب كانت أساسيات إقتصاديات الدول الغربية تعتبر جيدة
وجهدت مختلف الحكومات في الغرب، وبينها الأمريكية والبريطانية
والألمانية، لتطميننا على ذلك. ثم عرفنا لاحقاً أنها تواجه حالات
انكماش اقتصادي مطولة فيما شهدنا أسواق الأسهم وهي تخسر مئات
المليارات مما أثار الذعر حتى بين مالكي أكثر الأسهم الممتازة
أماناً في الشركات الكبرى. ثم انتشر الذعر مثل الوباء إلى أسواق آسيا والشرق الأوسط ذات
الانكشاف المحدود على أسواق الإقراض دون الممتاز.
لكن يجب ألا نخدع أنفسنا فبعض المصارف والمؤسسات المالية والشركات
والأفراد ستخرج من هذه المجزرة أكثر غنى من قبل. ففي السوق يسود
قانون الغاب والأسماك الكبيرة مستعدة لاقتناص الفرائس الضعيفة.
وفيما تتضاءل وتندثر المدخرات الاستثمارية ومعاشات التقاعد للناس
العاديين فإن جيوب المضاربين ستنتفخ أكثر كلما تراجعت أسعار
الأسهم.
أعضاء مجالس إدارات المصارف والمؤسسات المتهاوية هم في أحسن حال
أيضاً. وعلى سبيل المثال "استحق" رئيس مجلس إدارة يو بي إس في عام
واحد مكافأة حوافز بلغت 24 مليون فرنك سويسري (23 مليون دولار)
وهذا على كل حال ليس سوى مبلغ ضئيل مقارنة مع 500 مليون دولار حصل
عليها الرئيس التنفيذي لبنك ليمان براذر منذ 2000.
كما أن معظم كبار التنفيذيين يحصلون على تعويضات باذخة حينما
يجبرون على الخروج من مكاتبهم بخلاف الأمريكية العجوز أدي بولك
التي قتلت نفسها حينما وجدت أن بيتها الذي سكنته 38 عاماً سيستعيده
المصرف ولم يكن هناك من هو مستعد لمساعدتها.
كما هي العادة دوماً يجد الضحايا الحقيقيون لغطرسة وجشع الشركات
أنفسهم دون معين. المجزرة في بريطانيا ستدفع 3 ملايين بريطاني إلى
البطالة في يناير 2009 كما ستعيد أسعار البيوت العام المقبل إلى
مستوياتها في 2003 فيما بدأت عشر مدن في الولايات المتحدة مواجهة
مشكلة التشرد المتزايدة. ليست هناك أموال حكومية مخصصة لمساعدة
هؤلاء المساكين. أما المصارف من مثل غولدمان ساكس وبنك أمريكا وجي
بي مورغان تشيز وسيتيغروب فستكافئها الخزانة الأمريكية بمبالغ تصل
إلى 250 مليار دولار سواء كانت متضررة في الوقت الراهن أم لا.
لا نستطيع أن نجزم إن كان هذا التسونامي المالي نتيجة لفشل منهجي
تسبب به أشخاص يفتقرون للكفاءة أو أنه أتى بفعل مجموعة صغيرة من
الفاسدين.
غير أني أجد نفسي مضطراً للتساؤل عن السبب وراء عدم بذل المصارف
والمؤسسات المالية والشركات القوية لقصارى جهدها من أجل تطمين
المستثمرين والعملاء. على هذه الشركات أن تكون شفافة بقدر المستطاع
في ميزانياتها العمومية وأن تعمل على استعادة ثقة العامة بها. أين
هي المؤتمرات الصحفية؟ لماذا لا تتواصل مع العامة؟ لقد وجهت هذه
الأسئلة للكثيرين غير أني لم أحصل على أجوبة صريحة.
وأخيراً فإن جانباً من اللوم يتحمله خبراء الاقتصاد الذين يبدون
وكأنهم يستمتعون بالحديث عن ضعف الاقتصاديات والبيانات المالية.
كما يجب ألا ننسى دور الإعلام الذي يتمتع بالقدرة على تغيير
المصائر. وعلى سبيل المثال كادت نيويورك تايمز أن تتسبب في انهيار
مورغان ستانلي بعد نشرها مقتطف خاطئ عن رئيس مجلس إدارة الشركة.
يجب أن تتوقف هذه الهستريا. الأسواق تتحرك مدفوعة بالأمزجة وعلى
المصارف أن تعمل لتعزيز الثقة. وإن لم تقرر وسائل الإعلام أن تكون
جزءاً إيجابياً من الحل وتساهم في تهدئة المخاوف فإن هذه الحالة من
الفزع ستتواصل. اعتقد أن المعطيات الإقتصادية الأساسية التي تقوم عليها الاقتصادات
الغربية لم تتغير غير أن ما تغير للأسف هو رؤيتنا لها. علينا من كل
بد أن نستعيد ثقتنا في النظام. وإن عجزنا عن ذلك فإننا ربما نقضي
على النظام المالي العالمي الذي أرسته 44 دولة عام 1944 والذي يعرف
باسم بريتون وودز ونقول وداعاً لعصر الرأسمالية الذهبي بانتظار
معرفة ما يخبئه لنا النظام العالمي المالي الجديد.
|